174- هذا وقد كان من العالمِين بما أنزل الله فريقٌ يُخفى بَعْضَ الوحي لقاء عَرَضٍ من أعراض الدنيا ، فإن اليهود كتموا كثيراً مما جاء في التوراة من نعت الرسول خشيةَ أن يُسْلِم أهل ملتهم فيزول أمرهم وتضيع مكاسبهم ولذيذ مطاعمهم ، وإن مطاعمهم من هذا السبيل لهي كالنار يأكلونها ، لأنها ستقودهم إلى النار ، وسيعرض الله عنهم يوم القيامة ، ولا يطهرهم من دنسهم ، وأمامهم عذاب شديد موجع .
يقول تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ } [ مما يشهد له بالرسالة ]{[3075]} { مَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ } يعني اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم التي بأيديهم ، مما تشهد{[3076]} له بالرسالة والنبوة ، فكتموا ذلك لئلا تذهب رياستهم وما كانوا يأخذونه من العرب من الهدايا والتحف على تعظيمهم إياهم ، فخشوا - لعنهم الله - إن أظهروا ذلك أن يَتَّبعه الناس ويتركوهم ، فكتموا ذلك إبقاء على ما كان يحصل لهم من ذلك ، وهو نزرٌ يسير ، فباعوا أنفسهم بذلك ، واعتاضوا عن الهدى واتباع الحق وتصديق الرسول والإيمان بما جاء عن الله بذلك النزر اليسير ، فخابوا وخسروا في الدنيا والآخرة ؛ أما في الدنيا فإن الله أظهر لعباده صِدْقَ رسوله ، بما نصبه وجعله معه من الآيات الظاهرات والدلائل القاطعات ، فصدقه الذين كانوا يخافون أن يتبعوه ، وصاروا عونًا له على قتالهم ، وباؤوا بغضب على غضب ، وذمهم الله في كتابه في غير{[3077]} موضع . من ذلك هذه الآية الكريمة : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا } وهو عرض الحياة الدنيا { أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ } أي : إنما يأكلون ما يأكلونه في مقابلة كتمان الحق نارا تأجج في بطونهم يوم القيامة . كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } [ النساء : 10 ] وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الذي يأكل أو يشرب في آنية الذهب
والفضة ، إنما يُجَرْجرُ في بطنه نار جهنم " {[3078]} .
وقوله : { وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وذلك لأنه غضبانُ عليهم ، لأنهم كتموا وقد علموا ، فاستحقوا الغضب ، فلا ينظر إليهم ولا يزكيهم ، أي يثني{[3079]} عليهم ويمدحهم بل يعذبهم عذابا أليما .
وقد ذكر ابن أبي حاتم وابن مَرْدُوَيْه هاهنا [ الحديث الذي رواه مسلم أيضًا من ]{[3080]} حديث الأعمش ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة لا يكلمهم الله ، ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم [ ولهم عذاب أليم ]{[3081]} شيخ زان ، وملك كذاب ، وعائل مستكبر " {[3082]} .
{ إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا } عوضا حقيرا . { أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار } إما في الحال ، لأنهم أكلوا ما يتلبس بالنار لكونها عقوبة عليه فكأنه أكل النار كقوله :
أكلت دما إن لم أرعك بضرة *** بعيدة مهوى القرط طيبة النشر
يعني الدية . أو في المآل أي لا يأكلون يوم القيامة إلا النار . ومعنى في بطونهم : ملء بطونهم . يقال أكل في بطنه وأكل في بعض بطنه كقوله :
{ ولا يكلمهم الله يوم القيامة } عبارة عن غضبه عليهم ، وتعريض بحرمانهم حال مقابليهم في الكرامة والزلفى من الله . { ولا يزكيهم } لا يثني عليهم . { ولهم عذاب أليم } مؤلم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.