31- بعد قتله أصابته حسرة وحيرة ، ولم يدر ما يصنع بجثته ، فأرسل الله غراباً ينبش تراب الأرض ليدفن غراباً ميتاً ، حتى يُعَلِّم ذلك القاتل كيف يستر جثة أخيه ، فقال القاتل مُحِسَّا بوبال ما ارتكب ، متحسراً على جريمته : أعجزت عن أن أكون مثل هذا الغراب فأستر جثة أخي ؟ ! فصار من النادمين على جرمه ومخالفته دواعي الفطرة{[52]} .
وقوله تعالى : { فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ } قال السدي بإسناده المتقدم إلى الصحابة : لما مات الغلام تركه بالعَرَاء ، ولا يعلم كيف يدفن ، فبعث الله غرابين أخوين ، فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه ، فحفر له ثم حثى عليه . فلما رآه قال : { قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي } .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : جاء غراب إلى غراب ميت ، فبَحَث عليه من التراب حتى واراه ، فقال الذي قتل أخاه : { قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي }
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : مكث يحمل أخاه في جراب على عاتقه سنة ، حتى بعث الله الغُرابين ، فرآهما يبحثان ، فقال : { أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ } فدفن أخاه .
وقال لَيْثُ بن أبي سليم ، عن مجاهد : وكان يحمله على عاتقه مائة سنة ميتًا ، لا يدري ما يصنع به يحمله ، ويضعه إلى الأرض حتى رأى الغراب يدفن الغراب ، فقال : { يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ } رواه ابن جرير وابن أبي حاتم .
وقال عطية العوفي : لما قتله ندم . فضمه إليه حتى أروح ، وعكفت عليه الطيور والسباع تنتظر متى يرمي به فتأكله . رواه ابن جرير .
وقال محمد بن إسحاق ، عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول : لما قتله سُقِط في يديه ، ولم يدر كيف يواريه . وذلك أنه كان ، فيما يزعمون ، أول قتيل في{[9669]} بني آدم وأول ميت { فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ } قال : وزعم{[9670]} أهل التوراة أن قينًا لما قتل أخاه هابيل ، قال له الله ، عز وجل : يا قين ، أين أخوك هابيل ؟ قال : قال : ما أدري ، ما كنت عليه رقيبًا . فقال الله : إن صوت دم أخيك ليناديني من الأرض ، والآن أنت ملعون من الأرض التي فتحت فاها فبلعت{[9671]} دم أخيك من يدك ، فإن أنت عملت في الأرض ، فإنها لا تعود تعطيك حرثها حتى تكون فزعًا تائهًا في الأرض .
وقوله : { فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ } قال الحسن البصري : علاه الله بندامة بعد خسران .
فهذه أقوال المفسرين في هذه القصة ، وكلهم متفقون على أن هذين ابنا آدم لصلبه ، كما هو ظاهر القرآن ، وكما نطق به الحديث في قوله : " إلا كان على ابن آدم الأول كِفْل من دمها ؛ لأنه أول من سن القتل " . وهذا ظاهر جَليّ ، ولكن قال ابن جرير :
حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا سَهْل بن يوسف ، عن عمرو ، عن الحسن - هو البصري - قال : كان الرجلان اللذان في القرآن ، اللذان قال الله : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ } من بني إسرائيل ، ولم يكونا ابني آدم لصلبه ، وإنما كان القُربان في بني إسرائيل ، وكان آدم أول من مات . وهذا غريب جدًا ، وفي إسناده نظر .
وقد قال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن ابني آدم ، عليه السلام ، ضُربا لهذه الأمة مثلا فخذوا بالخير منهما{[9672]} {[9673]}
ورواه ابن المبارك عن عاصم الأحول ، عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلا فخذوا من خيرهم ودعوا الشر " .
وكذا أرسل هذا الحديث بكر بن عبد الله المزني ، روى ذلك كله ابن جرير . {[9674]}
وقال سالم بن أبي الجَعْد : لما قتل ابن آدم أخاه ، مكث آدم مائة سنة حزينًا لا يضحك ، ثم أتي فقيل له : حياك الله وبيّاك . أي : أضحكك .
رواه ابن جرير ، ثم قال : حدثنا ابن حُمَيْد ، حدثنا سلمة ، عن غِياث{[9675]} بن إبراهيم عن أبي إسحاق الهمْداني قال : قال علي بن أبي طالب : لما قتل ابن آدم أخاه ، بكاه آدم فقال :
تَغيَّرت البلاد ومَنْ عَلَيها *** فَلَوْنُ الأرض مُغْبر قَبيح
تغيَّر كل ذي لون وطعم *** وقلَّ بَشَاشَة الوجْه المليح
أبَا هَابيل قَدْ قُتلا جَميعًا *** وصار الحي كالميْت{[9676]} الذبيح
وجَاء بشرةٍ قد كان مِنْها{[9677]} *** عَلى خَوف فجاء بها يَصيح{[9678]}
والظاهر أن قابيل عُوجل بالعقوبة ، كما ذكره مجاهد{[9679]} بن جَبْر أنه علقت ساقه بفخذه يوم قتله ، وجعل الله وجهه إلى الشمس حيث دارت عقوبة له وتنكيلا به . وقد ورد في الحديث عن{[9680]} النبي صلى الله عليه وسلم [ أنه ]{[9681]} قال : " ما من ذنب أجدر أن يُعَجَّل الله عقوبته في الدنيا مع ما يَدَّخر لصاحبه في الآخرة ، من البَغْي وقطيعة الرحم " . {[9682]} وقد اجتمع في فعل قابيل هذا وهذا ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
بعث الله غرابين يقتتلان، فقتل أحدهما صاحبه وهو ينظر، ثم حفر بمنقاره في الأرض، فلما فرغ منه، أخذ بمنقاره رجل الغراب الميت، حتى قذفه في الحفيرة، ثم سوى الحفيرة بالأرض، وقابيل ينظر، فذلك قوله تعالى: {فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال} قابيل: {يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب}، يقول: أعجزت أن أعلم من العلم مثل ما علم هذا الغراب، {فأواري سوءة أخي}: فأغطى عورة أخي كما وارى الغراب صاحبه، {فأصبح من النادمين} بقتله أخاه. فعمد عند ذلك قابيل، فحفر في الأرض بيده، ثم قذف أخاه في الحفيرة، فسوى عليه تراب الحفيرة كما فعل الغراب بصاحبه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وهذا أيضا أحد الأدلة على أن القول في أمر ابني آدم بخلاف ما رواه عمرو عن الحسن لأن الرجلين اللذين وصف الله صفتهما في هذه الآية لو كانا من بني إسرائيل لم يجهل القاتل دفن أخيه ومواراة سوأة أخيه، ولكنهما كانا من ولد آدم لصلبه. ولم يكن القاتل منهما أخاه علم سنة الله في عادة الموتى، ولم يدر ما يصنع بأخيه المقتول، فذكر أنه كان يحمله على عاتقه حينا حتى أراحت جِيفته، فأحبّ الله تعريفه السنة في موتى خلقه، فقّيض له الغرابين اللذين وصف صفتهما في كتابه.
عن ابن عباس: بعث الله جلّ وعزّ غرابا حيا إلى غراب ميت، فجعل الغراب الحيّ يواري سوءة الغراب الميت، فقال ابن آدم الذي قتل أخاه:"يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أكُونَ مِثَلَ هَذَا الغُرابِ..."
فتأويل الكلام: فأثار الله للقاتل إذ لم يدر ما يصنع بأخيه المقتول غرابا يبحث في الأرض، يقول: يحفر في الأرض، فيثير ترابها ليريه كيف يواري سوءة أخيه، يقول: ليريه كيف يواري جيفة أخيه. وقد يحتمل أن يكون عنى بالسوءة الفَرْج، غير أن الأغلب من معناه ما ذكرت من الجِيفة، وبذلك جاء تأويل أهل التأويل. وفي ذلك محذوف ترك ذكره، استغناء بدلالة ما ذكر منه، وهو: فأراه بأن بحث في الأرض لغراب آخر ميت، فواراه فيها، فقال القاتل أخاه حينئذٍ: "يا وَيْلَتا أعَجَزْتُ أنْ أكُونَ مِثْلَ هَذَا الغُرَابِ "الذي وارى الغرابَ الآخر الميت "فَأُوارِيَ سَوأةَ أخِي"؟ فواراه حينئذٍ، "فأصْبَحَ منَ النّادِمينَ "على ما فَرَط منه من معصية الله عزّ ذكره في قتله أخاه. وكلّ ما ذكر الله عزّ وجلّ في هذه الآيات، مَثَل ضربه الله لبني آدم، وحرّض به المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على استعمال العفو والصفح عن اليهود، الذين كانوا هَمّوا بقتل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقتلهم من بني النضير، إذ أتوهم يستعينونهم في دية قتيلْي عمرو بن أمية الضّمْرِي، وعرّفهم جلّ وعزّ رداءة سجية أوائلهم وسوء استقامتهم على منهج الحقّ مع كثرة أياديه وآلائه عندهم، وضرب مثلهم في عدوّهم ومثل المؤمنين في الوفاء لهم والعفو عنهم بابني آدم المقرّبَين قرابينهما اللذين ذكرهما الله في هذه الآيات. ثم ذلك مَثَل لهم على التأسّي بالفاضل منهما دون الطالح، وبذلك جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إرادة الحق -سبحانه- وصولُ الخلْقِ إلى لطف الاحتياط في أسباب التعيش، فإذا أشكل عليهم وجهٌ من لطائف الحيلة سبَّب الله شيئاً يَعَرِّفُهم ذلك به...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(قال يا ويلتا) وهذه كلمة دعاء الهلاك (أعجزت أن أكون) أضعفت أن أكون...
أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :
قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ مِنَ النّادِمِينَ}: فيه بيان أن كل ندم ليس بتوبة، وأن ابن آدم القاتل لم يندم على وجه القربة إلى الله تعالى وخوف عقابه، وإنما كان ندمه من حيث اتقى جانب أبويه وذويه، واستوحش منهم، ولم يهنه ما فعله في دنياه، وانتبذ بعيداً عنهم، فندم لذلك، ولو ندم على وجه التوبة لأوشك أن يقبل الله تعالى منه ذلك. وقد قيل: يجوز ألا يقبل الله توبة من شاء، فإن قبول التوبة عند أهل السنة ليس واجباً على الله تعالى بقضية العقل، وإنما المشيئة لله تعالى في قبول توبة من شاء، فيجوز أن يقال إن قابيل ممن لم يسأل الله تعالى قبول توبته، وإن وجدت منه التوبة حقيقة.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
.. قَوْله تَعَالَى: {فَأَصْبَحَ من النَّادِمِينَ}:
وَهِيَ تَابِعَةٌ لِلْأَحْكَامِ هَاهُنَا لِأَنَّهَا من الْأُصُولِ؛ لَكِنَّا نُشِيرُ إلَيْهَا لِتَعَلُّقِ الْقُلُوبِ بِهَا، فَنَقُولُ: من الْغَرِيبِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُ أَنَّهُ نَدِمَ وَهُوَ فِي النَّارِ، وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (النَّدَمُ تَوْبَةٌ).
قُلْنَا: عَنْ هَذِهِ ثَلَاثَةَ أَجْوِبَةٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحَدِيثُ لَيْسَ يَصِحُّ، لَكِنَّ الْمَعْنَى صَحِيحٌ، وَكُلُّ مَنْ نَدِمَ فَقَدْ سَلِمَ، لَكِنَّ النَّدَمَ لَهُ شُرُوطٌ، فَكُلُّ مَنْ جَاءَ بِشُرُوطِهِ قُبِلَ مِنْهُ، وَمَنْ أَخَلَّ بِهَا أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهَا لَمْ يُقْبَلْ.
الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ نَدِمَ وَلَمْ يَسْتَمِرَّ نَدَمُهُ، وَإِنَّمَا يُقْبَلُ النَّدَمُ إذَا اسْتَمَرَّ.
الثَّالِثُ: أَنَّ النَّدَمَ عَلَى الْمَاضِي إنَّمَا يَنْفَعُ بِشَرْطِ الْعَزْمِ عَلَى أَلَّا يَفْعَلَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
قوله: {يا ويلتا} اعتراف على نفسه باستحقاق العذاب، وهي كلمة تستعمل عند وقوع الداهية العظيمة، ولفظها لفظ النداء، وكأن الويل غير حاضر له فناداه ليحضره، أي أيها الويل احضر، فهذا أوان حضورك.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{فبعث الله} أي الذي له كمال القدرة والعظمة والحكمة؛ ولما كان المعنى يحصل بالغراب الباحث فقط قال: {غراباً يبحث} أي يوجد البحث وهو التفتيش في التراب بتليين ما تراصّ منه وإزاحته من مكانه ليبقى مكانه حوزة خالية. ولما كان البحث مطلق التفتيش، دل على ما ذكرته بقوله: {في الأرض} ليواري غراباً آخر مات؛ ولما كان الغراب سبب علم ابن آدم القاتل للدفن، كان كأنه بحث لأجل تعليمه فقال تعالى: {ليريه} أي الغراب يُرى ابن آدم، ويجوز أن يكون الضمير المستتر لله تعالى، والأول أولى لتوقيفه على عجزه وجهله بأن الغراب أعلم منه وأقرب إلى الخير {كيف يواري}. ولما كانت السوءة واجبة الستر، وكان الميت يصير بعد موته كله سوءة، قال منبهاً على ذلك وعلى أنها السبب في الدفن بالقصد الأول: {سوءة} أي فضيحة {أخيه} أي أخي قابيل وهو هابيل المقتول، وصيغة المفاعلة تفيد أن الجثة تريد أن يكون القاتل وراءها، والقاتل يريد كون الجثة وراءه، فيكونان بحيث لا يرى واحد منهما الآخر، ولعل بعث الغراب إشارة إلى غربة القاتل باستيحاش الناس منه وجعله ما ينفر عنه ويقتله كل من يقدر عليه، ومن ثَمَّ سمى الغراب البين، وتشاءم به من يراه. ولما كان كأنه قيل: إن هذا لعجب، فما قال؟ قيل: {قال} الكلمة التي تستعمل عند الداهية العظيمة لما نبهه ذلك، متعجباً متحيراً متلهفاً عالماً أن الغراب أعلم منه وأشفق، منكراً على نفسه {يا ويلتا} أي احضُرْني يا ويل! هذا أوانك أن لا يكون لي نديم غيرك؛ ولما تفجع غاية الفجيعة وتأسف كل الأسف، أنكر على نفسه فقال: {أعجزت} أي مع ما جعل لي من القوة القاطعة {أن أكون} مع ما لي من الجوارح الصالحة لأعظم من ذلك {مثل هذا الغراب} وقوله مسبباً عن ذلك: {فأواري سوءة} أي عورة وفضيحة {أخي} نصِبَ عطفاً على أكون لا على جواب الاستفهام، لأنه إنكاري فمعناه النفي، لأنه لم تكن وقعت منه مواراة لينكر على نفسه ويوبخها بسببها، ولو كانت وقعت لم يصح إنكارها على تقدير عدم العجز الذي أفادته الهمزة {فأصبح} بسبب قتله {من النادمين} أي على ما فعل، لأنه فقد أخاه وأغضب ربه وأباه، ولم يفده ذلك ما كان سبب غيظه، بل زاده بعداً،...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ} لما كان هذا القتل أول قتل وقع من بني آدم، ولما كان هذا النوع من الخلق (أي الإنسان) موكولا إلى كسبه واختياره في عامة أعماله، لم يعرف القاتل الأول كيف يواري جثة أخيه المقتول التي يسوءه أن يراها بارزة – فالسوءة ما يسوء ظهوره، ورؤية جسد الميت ولاسيما المقتول يسوء كل من ينظر إليه ويوحشه – وأما سائر أنواع الحيوان فَتُلْهَم عمل ما تحتاج إليه إلهاما في الأكثر، وقلما يتعلم بعضها من بعض شيئا. وقد علمنا الله تعالى أن القاتل الأول كان في منتهى السذاجة، وأنه لاستعداده الذي يفضل به سائر أنواع الحيوان كان يستفيد من كل شيء علما واختبارا ويرتقي بالتدريج.
ذلك بأن الله تعالى بعث غرابا إلى المكان الذي هو فيه فبحث في الأرض، أي حفر برجليه فيها يفتش عن شيء، والمعهود أن الطير تفعل ذلك لطلب الطعام. والمتبادر من العبارة أن الغراب أطال البحث في الأرض، لأنه قال (يبحث) ولم يقل بحث. والمضارع يفيد الاستمرار. فلما أطال البحث أحدث حفرة في الأرض، فلما رأى القاتل الحفرة – وهو متحير في أمر مواراة سوءة أخيه – زالت الحيرة واهتدى إلى ما يطلب. وهو دفن أخيه في حفرة في الأرض. هذا هو المتبادر في الآية. قال أبو مسلم: إن من عادة الغراب دفن الأشياء، فجاء غراب فدفن شيئا فتعلم منه ذلك. وهذا قريب أيضا. ولكن جمهور المفسرين قال إن الله بعث غرابين لا واحد، وإنهما اقتتلا فقتل أحدهما الآخر، فحفر بمنقاره ورجليه حفرة فألقاه فيها، وما جاء هذا إلا من الروايات، التي مصدرها الإسرائيليات، على أن مسألة الغراب والدفن لا ذكر لها في التوراة. وفي هذه الروايات زيادات كثيرة لا فائدة لها ولا صحة. واللام في قوله تعالى (ليريه) للتعليل إذا كان الضمير راجعا إلى الله تعالى، أي أنه تعالى ألهم الغراب ذلك ليتعلم ابن آدم منه الدفن. وللصيرورة والعاقبة إذا كان الضمير عائدا إلى الغراب، أي لتكون عاقبة بحثه ما ذكر.
ولما رأى القاتل الغراب يبحث في الأرض، وتعلم منه سنة الدفن، وظهر له من ضعفه وجهله ما كان غافلا عنه، {قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} قال جمهور المفسرين: إن (يا ويلتا) كلمة تحسر وتلهف، وإنها تقال عند حلول الدواهي والعظائم. قال في لسان العرب: الويل حلول الشر، والويلة الفضيحة والبلية. وقيل هو تفجع. وإذا قال القائل: يا ويلتاه! فإنما يعني يا فضيحتاه! وكذلك تفسير {يا ويتنا ما لهذا الكتاب} [الكهف:49] اه وهذا هو المعنى الصحيح. والألف في الكلمة بدل ياء المتكلم إذ الأصل: يا ويلتى. والنداء للويلة لإفادة حلول سببها الذي تحل لأجله حتى كأنه دعاها إليه وقال: أقبلي فقد آن أوان مجيئك، فهل بلغ من عجزي أن كنت دون الغراب علما وتصرفا؟ والاستفهام للإقرار والتحسر. وأما الندم الذي ندمه فهو كما يعرض لكل إنسان عقب ما يصدر عنه من الخطأ في فعل فعله ظهر له أن فعله كان شرا له لا خيرا. وقد يكون الندم توبة، إذا كان سببه الخوف من الله تعالى والتألم من تعدي حدوده، وقصد به الرجوع إليه. وهذا هو المراد بحديث (الندم توبة) رواه أحمد والبخاري في تاريخه والحاكم والبيهقي، وعلم عليه في الجامع الصغير بالصحة. وأما الندم الطبيعي الذي أشرنا إليه فلا يعد توبة، والتوبة من إحداث البدعة لا تنجي مبتدعها من سوء أثرها. وفي حديث ابن مسعود في الصحيحين مرفوعا (لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم كفل (نصيب) من دمها لأنه أول من سن القتل).
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
البعث هنا مستعمل في الإلهام بالطيران إلى ذلك المكان، أي فألْهم الله غراباً ينزل بحيث يراه قابيل. وكأنّ اختيار الغراب لهذا العمل إمّا لأنّ الدفن حيلة في الغِربان من قبلُ، وإمّا لأنّ الله اختاره لذلك لمناسبة ما يعتري الناظر إلى سواد لونه من الانقباض بما للأسيف الخاسر من انقباض النفس. ولعلّ هذا هو الأصل في تشاؤم العرب بالغراب، فقالوا: غُراب البين. والضمير المستتر في « يُريَه» إن كان عائداً إلى اسم الجلالة فالتعليل المستفاد من اللام وإسناد الإرادة حقيقتان، وإن كان عائداً إلى الغراب فاللام مستعملة في معنى فاء التفريع، وإسناد الإرادة إلى الغراب مجاز، لأنّه سبب الرؤية فكأنَّه مُرِيءٌ. و {كيف} يجوز أن تكون مجرّدة عن الاستفهام مراداً منها الكيفية، أو للاستفهام، والمعنى: ليريه جواب كيف يُواري. وَالسَّوْءة: مَا تَسُوء رؤيتُه، وَهِي هنا تغيّر رائحة القتيل وتقطّع جسمه. وكلمة {يَا ويلتا} من صيّغ الاستغاثة المستعملة في التعجّب، وأصله يا لَوَيْلَتِي، فعوّضت الألف عن لام الاستغاثة نحو قولهم: يا عَجَباً، ويجوز أن يجعل الألف عوضاً عن ياء المتكلم، وهي لغة، ويكون النّداء مجازاً بتنزيل الويلة منزلة ما يُنَادَى، كقوله: {يَا حسرتى على ما فرّطتُ في جنب الله} [الزمر: 56]. والاستفهام في {أعجزت} إنكاري. وهذا المشهد العظيم هو مشهد أوّل حضارة في البشر، وهي من قبيل طلب سَتر المشاهد المكروهة. وهو أيضاً مشهد أوّلِ علمٍ اكتسبه البشر بالتّقليد وبالتَّجربة، وهو أيضاً مشهد أوّل مظاهر تَلقّي البشر معارفه من عوالم أضعفَ منه كما تَشَبَّه النَّاس بالحيوان في الزينة، فلبسوا الجُلُود الحسنة الملوّنة وتكلّلوا بالريش المُلوّن وبالزهور والحجارة الكريمة، فكم في هذه الآية من عبرة للتَّاريخ والدّين والخُلُق. {فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين}. القول فيه كالقول في {فأصبح من الخاسرين} [المائدة: 30]. ومعنى {من النادمين} أصبح نادماً أشدّ ندامة، لأنّ {من النادمين} أدلّ على تمكّن الندامة من نفسه، من أن يقال « نادماً». كما تقدّم عند قوله تعالى: {وكان من الكافرين} [البقرة: 34] وقوله: {فتكونا من الظالمين في سورة البقرة (35). والندم أسف الفاعل على فعل صدر منه؛ لم يتفطّن لما فيه عليه من مضرّة قال تعالى: {أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} [الحجرات: 6]، أي ندم على ما اقترف من قتل أخيه إذْ رأى الغراب يحتفل بإكرام أخيه الميّت ورأى نفسه يجترئ على قتل أخيه، وما إسراعه إلى تقليد الغراب في دفن أخيه إلاّ مبدأ النّدامة وحُبِّ الكرامة لأخيه. ويحتمل أن هذا النّدم لم يكن ناشئاً عن خوف عذاب الله ولا قصد توبة، فلذلك لم ينفعه. فجاء في الصّحيح "ما مِن نفس تُقْتَل ظُلماً إلاّ كان على ابنِ آدم الأوّل كِفْل من دمها ذلك لأنَّه أوّل من سَنّ القتل "ويحتمل أن يكون دليلاً لمن قالوا: إنّ القاتل لا تقبل توبته وهو مروي عن ابن عبّاس، وقد تقدّم عند قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمّداً فجزاؤه جهنّم خالداً فيها} الآية من سورة النّساء (93).
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وبعد، فإن سبب هذه الجريمة الكبرى التي فتحت باب القتل والقتال هو الحسد، والحقد، وهما يأكلان القلوب، ويشعلانها بالشر كما تشعل النار الحطب، وإن ذلك الحسد كان في العبادة وقبولها، وذكر الله تعالى هذا النوع من الحسد ليبين أن الحسد كيفما كان الباعث عليه شر يؤدي إلى أقبح الشرور والآثام، وإذا كانت أول جريمة في البشرية سببها الحسد فإن ذلك تنبيه إلى أن الباعث على أكثر جرائم هذا الوجود الإنساني هو الحسد المقيت فالكفر بالنبيين وخصوصا نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم كان سببه الحسد، وأكثر الجرائم بين الآحاد سببها الحسد، والحسد دائما يكون على فضل في المحسود وعجز في الحاسد وقى الله العاملين شر الحاسدين.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وهكذا استطاع قابيل تعلّم طريقة الدّفن من التجربة الحسيّة للغراب، ليكون ذلك منهجاً للمعرفة بواسطة الحواسّ مما يشاهده الإنسان من فعل المخلوقات الأخرى، أو مما يسمعه أو يلمسه أو يشمه أو يذوقه، ليكون ذلك سبيلاً لحركة الإدراك في إنتاج المعرفة، ليستخدم ذلك في الحصول على أغراضه وحاجاته الحيويّة في الدنيا، فإنَّ للحسّ دوراً كبيراً في عمليّة البحث العلمي، باعتبار أنَّ الحواس تزوّد الفكر بالمواد الخام الّتي يستعملها في حركته الفكريّة. وهذا ما يؤكده المنهج القرآني للمعرفة، فلا يقتصر على الطريقة العقليّة الّتي تعتمد على التأمل والاستنتاج العقلي، بل يمتد إلى الطريقة العلميّة التجريبيّة الّتي تتحرك من خلال الحسّ الَّذي يجمع للإنسان كل مشاهداته ومسموعاته وملموساته ومشموماته ومذوقاته ليحركها في اتجاه الإنتاج العقلي للفكرة العامة. وهذا ما ينطلق من خلال الواقع الإنساني في أفكاره التجريديّة العقليّة الّتي لا علاقة لها بالحسّ، وفي نظرياته التجريبيّة الّتي تنطلق من الحسّ إلى العقل، فلا صحة للّذين ينكرون العقل، ولا للّذين ينكرون التجربة في المعرفة. كيف نستوحي القصة؟
إنَّ هذه القصة القصيرة الّتي رواها القرآن لنا في إطار الحوار القصير، تجسّد لنا الصورة الحيّة لشخصيتي الإنسان الشرير والخيّر، لتربطنا بفكرة الخير وتبعدنا عن فكرة الشر، في موقف يوحي للناظر والمستمع بفظاعة موقف ذاك إزاء روعة موقف هذا، حيث نرى الجريمة خالية من كل مبرراتها وحيثياتها العادلة الّتي تجعل منها عملاً عادلاً، لأنَّها نشأت من حالة نفسيّة معقّدة بالحسد، إذ ليس للضحيّة فيها أي ذنب، بل نجد في جو الآية أنَّ الضحيّة لم تحاول أن تجعل من قبول قربانها ورفض قربان المجرم لها أساساً لأي تصرّف استعراضي يسيء إلى كرامته، بالشكل الَّذي يتبعه الرابحون أمام الخاسرين، لأنَّ خُلُق الأخ المؤمن كان بعيداً عن ذلك كل البعد. ولعلّ قيمة هذه القصة، أو بالأحرى عرض القرآن لهذه القصة، تتمثَّل في ما تخلقه في نفس القارئ أو السامع من تأثير نفسيٍّ ضد الجريمة والمجرم، وتعاطفٍ روحيٍّ مع الضحيّة، ما يترك آثاره على السلوك الإنساني العام في ما يريد أن يقدم عليه من عمل، أو يحكم عليه من أعمال الآخرين. أمَّا نحن، فنستطيع الاستفادة منها في مجالين:
المجال التربوي، الَّذي يعتبر القصة وسيلةً حيّةً للإيضاح عندما تتحول إلى عمل مسرحيٍّ أو ما يشبه ذلك، وأسلوباً من أساليب التوجيه والتربية، فقد نجد من الخير لنا، أن نجعلها إحدى القصص الدينية التربوية الّتي نقدمها للأطفال أو للشباب، بالأسلوب الَّذي يتناسب مع ذهنياتهم في عمليّةٍ تصويريّةٍ حيّة بالكلمة أو الصورة أو التمثيل. في عمليّةٍ تصويريّةٍ حيّة بالكلمة أو الصورة أو التمثيل. 2 استيحاء هذه القصة في وضع قصصٍ متنوعةٍ قريبةٍ إلى مثل هذه الأجواء لتعالج قضيّة الجريمة والمجرم، في أيِّ جانب من جوانبها، سواءٌ منها الَّذي يتمثل بالقتل، أو بالسرقة، أو بالزنى، أو بالظلم والاعتداء على النّاس بشكلٍ عام، لأنَّ دور الأسلوب القرآني هو دور تخطيط المنهج التربوي ليسير عليه الآخرون في حركة اتِّباع أو استيحاءٍ وإبداع، لنكفل للعمل الإسلامي التربوي أن يعيش في أجواء القرآن فكرةً وأسلوباً، مستوحياً أفكاره وأساليبه في حركة العمل وفي فكره وأسلوبه.