المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{إِنَّمَا ٱلتَّوۡبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسُّوٓءَ بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٖ فَأُوْلَـٰٓئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (17)

17- إنما يقبل الله التوبة من الذين يرتكبون المعاصي والذنوب بجهل منهم لعاقبتها ، ثم يبادرون بالتوبة قبل حضور الموت ، فهؤلاء يقبل الله توبتهم وهو عليم لا يخفى عليه صدق التوبة ، حكيم لا يخطئ في تقدير الأحكام والأمور .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{إِنَّمَا ٱلتَّوۡبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسُّوٓءَ بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٖ فَأُوْلَـٰٓئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (17)

يقول تعالى : إنما يتقبل الله التوبة ممن عمل السوء بجهالة ، ثم يتوب ولو قبل معاينة المَلَك [ لقبض ]{[6792]} روحه قَبْلَ الغَرْغَرَة .

قال مجاهد وغير واحد : كل من عصى الله خطأ أو عَمدًا فهو جاهل حتى ينزع عن الذنب .

وقال قتادة عن أبي العالية : أنه كان يحدث : أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون : كل ذنب أصابه عبد فهو بجهالة . رواه ابن جرير .

وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن قتادة قال : اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأوا أن كل شيء عُصي به فهو جهالة ، عمدًا كان أو غيره{[6793]} .

وقال ابن جُرَيْج : أخبرني عبد الله بن كثير ، عن مجاهد قال : كل عامل بمعصية الله{[6794]} فهو جاهل حين عملها . قال ابن جريج : وقال لي عطاء بن أبي رباح نحوَه .

وقال أبو صالح عن ابن عباس : مِنْ جَهالته عمل السوء .

وقال علي بن أبي طَلْحَة ، عن ابن عباس { ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } قال : ما بينه وبين أن ينظر إلى مَلَك الموت ، وقال الضحاك : ما كان دون الموت فهو قريب . وقال قتادة والسدي : ما دام في صحته . وهو مروى عن ابن عباس . وقال الحسن البصري : { ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } ما لم يُغَرْغر . وقال عكرمة : الدنيا كلها قريب .

ذكر الأحاديث في ذلك :

قال الإمام أحمد : حدثنا علي بن عَيَّاش{[6795]} وعصام بن خالد ، قالا حدثنا ابن ثَوْبان ، عن أبيه ، عن مكحول ، عن جُبَير بن نُفَيْر{[6796]} عن ابن عُمَرَ ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ الله يَقْبلُ تَوْبَةَ العبدِ ما لم يُغَرغِر " .

[ و ]{[6797]} رواه الترمذي وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان ، به{[6798]} وقال الترمذي : حسن غريب . ووقع في سنن ابن ماجه : عن عبد الله بن عَمْرو . وهو وَهْم ، إنما هو عبد الله بن عُمَر بن الخطاب .

حديث آخر{[6799]} عن ابن عُمَر : قال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن معمر{[6800]} حدثنا عبد الله بن الحسن الخراساني ، حدثنا يحيى بن عبد الله البابلتي{[6801]} حدثنا أيوب بن نَهِيك الحلبي قال : سمعت عطاء بن أبي رباح قال : سمعت عبد الله بن عُمَر ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِن يَتُوبُ قَبْلَ الموتِ بشهر إلا قَبِلَ الله منه ، وأدْنَى من ذلك ، وقَبْل موته بيوم وساعة ، يعلم الله منه التوبة والإخلاصَ إليه إلا قَبِل منه " {[6802]} .

حديث آخر : قال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة ، أخبرنا إبراهيم بن ميمون ، أخبرني رجل من مِلْحَان{[6803]} يقال له : أيوب - قال : سمعت عبد الله بن عمر يقول : من تاب قبل موته بعام تيب عليه ، ومن تاب قبل موته بشهر تِيب عليه ، ومن تاب قَبْلَ موته بجمعة تيب عليه ، ومن تاب قبل موته بيوم تيب عليه ، ومن تاب قبل موته بساعة تيب عليه . فقلت له : إنما قال الله : { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } فقال : إنما أُحدِّثك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم . {[6804]}

وهكذا رواه أبو داود{[6805]} الطيالسي ، وأبو عمر الحَوْضي ، وأبو عامر العَقدي ، عن شعبة .

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا حُسين بن محمد ، حدثنا محمد بن مطَرَّف ، عن زيد بن أسلم ، عن عبد الرحمن بن البَيْلماني{[6806]} قال : اجتمع أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال أحدهم : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله يَقْبَلُ تَوْبَة العبدِ قبل أن يموتَ بيومٍ " . فقال الآخر : أنتَ سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم . قال : وأنا سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله يقبل توبة العبد قبل أن يموت بِنِصْفِ يوم " فقال الثالث : أنتَ سمعتَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم . قال : وأنا سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله يقبل توبة العبد قبل أن يموت بضَحْو " . قال{[6807]} الرابع : أنتَ سمعتَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم . قال وأنا سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله [ تعالى ]{[6808]} يقبل توبة العبد ما لم{[6809]} يُغَرغر بنفسه " . وقد رواه سعيد بن منصور عن الدَرَاوَرْدي ، عن زيد بن أسلم ، عن عبد الرحمن بن البيلماني{[6810]} فذكر قريبًا منه{[6811]} .

حديث آخر : قال أبو بكر بن مردويه : حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد ، حدثنا عمران بن عبد الرحيم ، حدثنا عثمان بن الهيثم ، حدثنا عَوْف ، عن محمد بن سِيرِين ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله يَقبل تَوْبَة عَبْدِهِ ما لم يُغَرْغِرْ " {[6812]} .

أحاديث في ذلك مرسلة :

قال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا ابن أبي عَدِيٍّ ، عن عَوْف ، عن الحسن قال :

بلغني أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ الله يَقْبلُ توبة العبد ما لم يُغَرْغرْ " هذا مرسل حسن{[6813]} . عن الحسن البصري ، رحمه الله .

آخر : قال ابن جرير أيضًا ، رحمه الله : حدثنا ابن بشار ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثني أبي ، عن قتادة ، عن العلاء بن زياد ، عن أبي أيوب بشير بن كعب ؛ أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله يقبل توبة العبد ما لم يُغَرْغرْ " {[6814]} .

وحدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الأعلى ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ، فذكر مثله{[6815]} .

أثر آخر : قال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا أبو داود ، حدثنا عمران ، عن قتادة قال : كنا عند أنس بن مالك وثم أبو قِلابة ، فحدث أبو قِلابة فقال : إن الله تعالى لما لَعَنَ إبليس سأله النَّظرة فقال : وعِزَّتِك وجلالك لا أَخْرُجُ من قَلْبِ ابن آدمَ ما دام فيه الروح . فقال الله : وعزتي{[6816]} لا أمنعه التوبة ما دام فيه الروح .

وقد ورد هذا في حديث مرفوع ، رواه الإمام أحمد في مسنده من طريق عمرو بن أبي عمرو وأبي الهيثم العُتْوارِي كلاهما عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قال إبليس : وعِزَّتِك لا أزَالُ أُغْوِيهم ما دامت أرْوَاحهُمْ في أجسادهم . فقال الله عز وجل : وعزتي وجلالي ، لا أزال{[6817]} أغْفِرُ لهم ما اسْتَغْفَرُوني " {[6818]} .

فقد دلت هذه الأحاديث على أن من تاب إلى الله عز وجل وهو يرجو الحياة ، فإن توبته مقبولة [ منه ]{[6819]} ؛ ولهذا قال تعالى : { فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } فأما متى وقع الإياس من الحياة ، وعاين الملك ، وحَشْرَجَتِ الروح في الحلق ، وضاق بها الصدر ، وبلغت الحلقوم ، وَغَرْغَرَتِ النفس صاعدة في الغَلاصِم - فلا توبة متقبلة حينئذ ، ولات حين مناص ؛

ولهذا قال [ تعالى ]{[6820]} { وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ }


[6792]:زيادة من جـ، ر، أ.
[6793]:تفسير عبد الرزاق (1/152).
[6794]:في أ: "بمعصيته".
[6795]:في أ: "عباس".
[6796]:في ر: "نصير".
[6797]:زيادة من ر، أ.
[6798]:المسند (2/132) وسنن الترمذي برقم (3537) وسنن ابن ماجة برقم (4253).
[6799]:في ر، أ: "طريق أخرى".
[6800]:في أ: "يعمر".
[6801]:في جـ، أ: "الباهلي".
[6802]:ورواه أبو نعيم في الحلية (3/320) من طريق يحيى بن عبد الله عن أيوب بن نهيك، ثم قال: هذا حديث غريب من حديث عطاء، تفرد به أيوب بن نهيك.
[6803]:في جـ، ر، أ: "بلحارث".
[6804]:مسند الطيالسي (ص 301) وهو عنده من مسند عبد الله بن عمرو بن العاص، ورواه أحمد في مسنده (2/206) من طريق عفان عن شعبة بنحوه، من مسند عبد الله بن عمرو بن العاص، وقال الهيثمي في المجمع (10/197): "فيه راو لم يسم وبقية رجاله ثقات".
[6805]:في هـ: "أبو الوليد" وهو خطأ.
[6806]:في جـ، ر، أ: "السلماني".
[6807]:في أ: "وقال".
[6808]:زيادة من جـ.
[6809]:في أ: "قبل أن".
[6810]:في ر: "السلماني".
[6811]:المسند (3/425) وسنن سعيد بن منصور برقم (597).
[6812]:وفي إسناده عمران بن عبد الرحيم بن أبي الورد، قال السليماني: فيه نظر وهو الذي وضع حديث أبي حنيفة عن مالك رحمهما الله تعالى، وقال أبو الشيخ: كان يرمى بالرفض. لسان الميزان (4/347).
[6813]:تفسير الطبري (8/96) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (13/463).
[6814]:تفسير الطبري (8/96).
[6815]:تفسير الطبري (8/96) وقتادة لم يسمع من عبادة بن الصامت
[6816]:في أ: "عز وجل".
[6817]:في جـ، ر، أ: "ولا أزال".
[6818]:المسند (3/76).
[6819]:زيادة من أ.
[6820]:زيادة من جـ، ر، أ.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِنَّمَا ٱلتَّوۡبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسُّوٓءَ بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٖ فَأُوْلَـٰٓئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (17)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ إِنّمَا التّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلََئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً } .

يعني بقوله جلّ ثناؤه : { إنّمَا التّوْبَةُ على اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ } : ما التوبة على الله لأحد من خلقه ، إلا للذين يعملون السوء من المؤمنين بجهالة . { ثُمّ يَتُوبُون مِنْ قَرِيبٍ } يقول : ما الله براجع لأحد من خلقه إلى ما يحبه من العفو عنه والصفح عن ذنوبه التي سلفت منه ، إلا للذين يأتون ما يأتونه من ذنوبهم جهالة منهم وهم بربهم مؤمنون ، ثم يراجعون طاعة الله ويتوبون منه إلى ما أمرهم الله به من الندم عليه والاستغفار وترك العود إلى مثله من قبل نزول الموت بهم . وذلك هو القريب الذي ذكره الله تعالى ذكره ، فقال : { ثُمّ يَتُوبُون مِنْ قَرِيبٍ } .

وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك ، قال أهل التأويل غير أنهم اختلفوا في معنى قوله : { بِجَهالَةٍ } فقال بعضهم في ذلك بنحو ما قلنا فيه ، وذهب إلى أن عمله السوء هو الجهالة التي عناها . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أبي العالية : أنه كان يحدّث أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كانوا يقولون : كل ذنب أصابه عبد فهو بجهالة .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قوله : { للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ } قال : اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرأوا أن كل شيء عصي به فهو جهالة ، عمدا كان أو غيره .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ } قال : كل من عصى ربه فهو جاهل ، حتى ينزع عن معصيته .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : { إنّمَا التّوْبَةُ على اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ } قال : كل من عمل بمعصية الله فذاك منه بجهل حتى يرجع عنه .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { إنّمَا التّوْبَةُ على اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ } ما دام يعصي الله فهو جاهل .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان ، عن أبي النضر ، عن أبي صالح عن ابن عباس : { إنّمَا التّوْبَةُ على اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ } قال : من عمل السوء فهو جاهل ، من جهالته عمل السوء .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثظني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : من عصى الله فهو جاهل ، حتى ينزع عن معصيته . قال ابن جريج : وأخبرني عبد الله بن كثير ، عن مجاهد ، قال : كل عامل بمعصية فهو جاهل حين عمل بها . قال ابن جريج : وقال لي عطاء بن أبي رباح نحوه .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قول الله : { إنّمَا التّوْبَةُ على اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ ثُمّ يَتُوبُون مِنْ قَرِيبٍ } قال : الجهالة : كل امرىء عمل شيئا من معاصي الله فهو جاهل أبدا حتى ينزع عنها . وقرأ : { هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعْلْتُمْ بِيُوسُف وأخِيهِ إذْ أنْتُمْ جاهِلُون } وقرأ : { وإلاّ تَصْرِفْ عنّي كَيْدهُنّ أصْبُ إلَيْهِنّ وأكُنْ مِنَ الجاهِلِينَ } قال : من عصى الله فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته .

وقال آخرون : معنى قوله : { للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ } : يعملون ذلك على عمد منهم له . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن مجاهد : { يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ } قال : الجهالة : العمد .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : { إنّمَا التّوْبَةُ على اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ } قال : الجهالة : العمد .

وقال آخرون : معنى ذلك : إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء في الدنيا . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا معتمر بن سليمان ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، قوله : { إنّمَا التّوْبَةُ على اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ } قال : الدنيا كلها جهالة .

قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل الاَية قول من قال : تأويلها : إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء ، وعملهم السوء هو الجهالة التي جهلوها عامدين كانوا للإثم ، أو جاهلين بما أعدّ الله لأهلها . وذلك أنه غير موجود في كلام العرب ، تسمية العامد للشيء الجاهل به ، إلا أن يكون معنيا به أنه جاهل بقدر منفعته ومضرّته ، فيقال : هو به جاهل ، على معنى جهله بمعنى : نفعه وضرّه¹ فأما إذا كان عالما بقدر مبلغ نفعه وضرّه قاصدا إليه ، فغير جائز من غير قصده إليه أن يقال هو به جاهل¹ لأن الجاهل بالشيء هو الذي لا يعلمه ولا يعرفه عند التقدم عليه ، أو يعلمه فيشبه فاعله ، إذ كان خطأ ما فعله بالجاهل الذي يأتي الأمر وهو به جاهل فيخطىء موضع الإصابة منه ، فيقال : إنه لجاهل به ، وإن كان به عالما لإتيانه الأمر الذي لا يأتي مثله إلا أهل الجهل به . وكذلك معنى قوله : { يَعْمَلُونَ السّوءَ بِجَهالَةٍ } قيل فيهم : يعملون السوء بجهالة وإن أتوه على علم منهم بمبلغ عقاب الله أهله ، عامدين إتيانه ، مع معرفتهم بأنه عليهم حرام ، لأن فعلهم ذلك كان من الأفعال التي لا يأتي مثله إلا من جهل عظيم عقاب الله عليه أهله في عاجل الدنيا وآجل الاَخرة ، فقيل لمن أتاه وهو به عالم : أتاه بجهالة ، بمعنى : أنه فعل فعل الجهال به ، لا أنه كان جاهلاً .

وقد زعم بعض أهل العربية أن معناه : أنهم جهلوا كنه ما فيه من العقاب ، فلم يعلموه كعلم العالم ، وإن علموه ذنبا ، فلذلك قيل : { يَعْمَلُونَ السّوءَ بِجَهالَةٍ } . ولو كان الأمر على ما قال صاحب هذا القول لوجب أن لا تكون توبة لمن علم كنه ما فيه . وذلك أنه جلّ ثناؤه قال : { إنّمَا التّوْبَةُ على اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } دون غيرهم . فالواجب على صاحب هذا القول أن لا يكون للعالم الذي عمل سوءا على علم منه بكنه ما فيه ثم تاب من قريب¹ توبة ، وذلك خلاف الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن كل تائب عسى الله أن يتوب عليه ، وقوله : «بابُ الّتْوبَةِ مَفْتُوحٌ ما لَمْ تَطْلُعِ الشّمْسُ مِنْ مَغْرِبِها » ، وخلاف قول الله عزّ وجلّ : { إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ وَعمِلَ عَمَلاً صَالِحا } .

القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } .

أختلف أهل التأويل في معنى القريب في هذا الموضع ، فقال بعضهم : معنى ذلك : ثم يتوبون في صحتهم قبل مرضهم وقبل موتهم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } والقريب قبل الموت ما دام في صحته .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا محمد بن فضيل ، عن أبي النضر ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس : { ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } قال : في الحياة والصحة .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : ثم يتوبون من قبل معاينة ملك الموت . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } والقريب فيما بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت عمران بن حدير ، قال : قال أبو مجلز : لا يزال الرجل في توبة حتى يعاين الملائكة .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي معشر ، عن محمد بن قيس ، قال : القريب : ما لم تنزل به آية من آيات الله تعالى وينزل به الموت .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : { إنّمَا التّوْبَةُ على اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } له التوبة ما بينه وبين أن يعاين ملك الموت ، فإذا تاب حين ينظر إلى ملك الموت فليس له ذاك .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : ثم يتوبون من قبل الموت . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن رجل ، عن الضحاك : { ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } قال : كل شيء قبل الموت فهو قريب .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا معتمر بن سليمان ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة : { ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } قال : الدنيا كلها قريب .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } قبل الموت .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : ثني أبي ، عن قتادة ، عن أبي قلابة ، قال : ذكر لنا أن إبليس لما لعن وأُنْظِرَ ، قال : وعزّتك لا أخرج من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح ! فقال تبارك وتعالى : وعزتي لا أمنعه التوبة ما دام فيه الروح .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا عمران ، عن قتادة ، قال : كنا عند أنس بن مالك وثَمّ أبو قلابة ، فحدّث أبو قلابة قال : إن الله تبارك وتعالى لما لعن إبليس سأله النّظِرَة ، فقال : وعزّتك لا أخرج من قلب ابن آدم ! فقال الله تبارك وتعالى : وعزتي لا أمنعه التوبة ما دام فيه الروح .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا أيوب ، عن أبي قلابة ، قال : إن الله تبارك وتعالى لما لعن إبليس سأله النّظِرَة ، فأنظره إلى يوم الدين ، فقال : وعزتك لا أَخرج من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح ! قال : وعزتي لا أَحجب عنه التوبة ما دام فيه الروح .

حدثني ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن ، قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «إنّ إبْلِيسَ لَمّا رأى آدَمَ أجْوَفَ ، قالَ : وعِزّتِكَ لا أخْرُجُ مِنْ جَوْفِهِ ما دَام فِيهِ الرّوحُ ! فَقالَ اللّهُ تَبارَكَ وتَعالى : وعِزّتِي لا أحُولُ بَيْنَهُ وبْينَ التّوْبَةِ ما دَامَ فِيهِ الرّوحُ » .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : ثني أبي ، قتادة ، عن العلاء بن زياد ، عن أبي أيوب بُشَيْر بن كعب ، أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «إنّ الله يَقْبَلُ تَوْبَة العَبْدِ ما لمْ يُغَرْغِرْ » .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن عبادة بن الصامت ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال¹ فذكر مثله .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن عوف ، عن الحسن ، قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «إنّ الله تَبارك وتَعالى يَقْبَلْ تَوْبَة العَبْدِ ما لمْ يُغَرْغِرْ » .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : تأويله : ثم يتوبون قبل مماتهم في الحال التي يفهمون فيها أمر الله تبارك وتعالى ونهيه ، وقبل أن يغلبوا على أنفسهم وعقولهم ، وقبل حال اشتغالهم بكرب الحشرجة وغمّ الغرغرة ، فلا يعرفوا أمر الله ونهيه ، ولا يعقلوا التوبة ، لأن التوبة لا تكون توبة إلا ممن ندم على ما سلف منه ، وعزم فيه على ترك المعاودة ، وهو يعقل الندم ، ويختار ترك المعاودة ، فأما إذا كان بكرب الموت مشغولاً ، وبغمّ الحشرجة مغمورا ، فلا إخاله إلا عن الندم على ذنوبه مغلوبا ، ولذلك قال من قال : إن التوبة مقبولة ما لم يغرغر العبد بنفسه ، فإن كان المرء في تلك الحال يعقل عقل الصحيح ، ويفهم فهم العاقل الأريب ، فأحدث إنابة من ذنوبه ، ورجعة من شروده عن ربه إلى طاعته كان إن شاء الله ممن دخل في وعد الله الذي وعد التائبين إليه من إجرامهم من قريب بقوله : { إنّمَا التّوْبَةُ على اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } .

القول في تأويل قوله تعالى : { فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهمْ وكانَ اللّهُ عَلِيما حَكِيما } .

يعني بقوله جلّ ثناؤه : { فَأُولَئِكَ } فهؤلاء الذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب { يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ } دون من لم يتب ، حتى غلب على عقله وغمرته حشرجة ميتته ، فقال : وهو لا يفقه ما يقول : { إنّي تبْتُ الاَنَ } خداعا لربه ونفاقا في دينه ، ومعنى قوله : { يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ } : يرزقهم إنابة إلى طاعته ، ويتقبل منهم أوبتهم إليه ، وتوبتهم التي أحدثوها من ذنوبهم .

وأما قوله : { وكانَ اللّهُ عَلِيما حَكِيما } فإنه يعني : ولم يزل الله جلّ ثناؤه عليما بالناس من عباده المنيبين إليه بالطاعة بعد إدبارهم عنه ، المقبلين إليه بعد التولية ، وبغير ذلك من أمور خلقه ، حكيم في توبته على من تاب منهم من معصيته ، وفي غير ذلك من تدبيره وتقديره ، ولا يدخل أفعاله خلل ، ولا يخلطه خطأ ولا زلل .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِنَّمَا ٱلتَّوۡبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسُّوٓءَ بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٖ فَأُوْلَـٰٓئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (17)

{ إنما } حاصرة ، وهو مقصد المتكلم بها أبدا ًفقد تصادف من المعنى ما يقتضي العقل فيه الحصر ، كقوله تعالى : { إنما الله إله واحد }{[3894]} وقد تصادف من المعنى ما لا يقتضي العقل فيه الحصر ، كقوله : إنما الشجاع عنترة فيبقى الحصر في مقصد المادح ، ويتحصل من ذلك لكل سامع تحقيق هذه الصفة للموصوف بمبالغة ، وهذه الآية مما يوجب النظر فيها أنها حاصرة للتوبة{[3895]} ، وهي في عرف الشرع : الرجوع من شر إلى خير ، وحد التوبة : الندم على فارط فعل ، من حيث هو معصية الله عز وجل ، وإن كان الندم من حيث أضر ذلك الفعل في بدن أو ملك فليس بتوبة ، فإن كان ذلك الفعل مما يمكن هذا النادم فعله في المستأنف فمن شروط التوبة العزم على ترك ذلك الفعل في المستأنف ، وإلا فثم إصرار لا توبة معه ، وإن كان ذلك الفعل لا يمكنه ، مثل أن يتوب من الزنا فيجب بأثر ذلك ونحو ذلك ، فهذا لا يحتاج إلى شرط العزم على الترك ، والتوبة فرض على المؤمنين بإجماع الأمة ، والإجماع هي القرينة التي حمل بها قوله تعالى : { وتوبوا إلى الله جميعاً }{[3896]} على الوجوب ، وتصح التوبة من ذنب مع الإقامة على غيره من غير نوعه ، خلافاً للمعتزلة في قولهم : لا يكون تائباً من أقام على ذنب ، وتصح التوبة وإن نقضها التائب في ثاني حال بمعاودة الذنب ، فإن التوبة الأولى طاعة قد انقضت وصحت ، وهو محتاج بعد موافقة الذنب إلى توبة أخرى مستأنفة ، والإيمان للكافر ليس نفس توبته ، وإنما توبته ندمه على سالف كفره .

وقوله تعالى : { على الله } فيه حذف مضاف تقديره : على فضل الله ورحمته لعباده ، وهذا نحو قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل : يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد ؟ قال الله ورسوله أعلم ، قال : أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ، ثم سكت قليلاً ، ثم قال : يا معاذ أتدري ما حق العباد على الله ؟ قال الله ورسوله أعلم ، قال : أن يدخلهم الجنة{[3897]} ، فهذا كله إنما معناه : ما حقهم على فضل الله ورحمته ، والعقيدة : أنه لا يجب على الله تعالى شيء عقلاً ، لكن إخباره تعالى عن أشياء أوجبها على نفسه يقتضي وجوب تلك الأشياء سمعاً ، فمن ذلك تخليد الكفار في النار ، ومن ذلك قبول إيمان الكافر ، والتوبة لا يجب قبولها على الله تعالى عقلاً ، فأما السمع فظاهره قبول توبة التائب ، قال أبو المعالي وغيره : فهذه الظواهر إنما تعطي غلبة ظن لا قطعاً على الله بقبول التوبة .

قال القاضي أبو محمد : وقد خولف أبو المعالي وغيره في هذا المعنى ، فإذا فرضنا رجلاً قد تاب توبة نصوحاً تامة الشروط ، فقول أبي المعالي يغلب على الظن قبول توبته ، وقال غيره : يقطع على الله تعالى بقبول توبته ، كما أخبر عن نفسه عز وجل .

قال القاضي أبو محمد : وكان أبي رحمة الله عليه يميل إلى هذا القول ويرجحه ، وبه أقول ، والله تعالى أرحم بعباده من أن ينخرم في هذا التائب المفروض معنى قوله تعالى : { وهو الذي يقبل التوبة عن عباده }{[3898]} وقوله { وإني لغفار لمن تاب وآمن }{[3899]} و { السوء } في هذه الآية يعم الكفر والمعاصي ، وقوله تعالى : { بجهالة } معناه : بسفاهة وقلة تحصيل أدى إلى المعصية ، وليس المعنى أن تكون «الجهالة » أن ذلك الفعل معصية ، لأن المعتمد للذنوب كان يخرج من التوبة ، وهذا فاسد إجماعاً ، وبما ذكرته في «الجهالة » قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ذكر ذلك عنهم أبو العالية ، وقال قتادة : اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على أن كل معصية فهي بجهالة ، عمداً كانت أو جهلاً ، وقال به ابن عباس ومجاهد والسدي ، وروي عن مجاهد والضحاك أنهما قالا : «الجهالة » هنا العمد ، وقال عكرمة : أمور الدنيا كلها «جهالة » .

قال القاضي أبو محمد : يريد الخاصة بها الخارجة عن طاعة الله ، وهذا المعنى عندي جار مع قوله تعالى : { إنما الحياة الدنيا لعب ولهو }{[3900]} وقد تأول قول عكرمة بأنه للذين يعملون السوء في الدنيا .

قال القاضي أبو محمد : فكأن «الجهالة » اسم للحياة الدنيا ، وهذا عندي ضعيف ، وقيل { بجهالة } ، أي لا يعلم كنه العقوبة ، وهذا أيضاً ضعيف ، ذكره ابن فورك ورد عليه ، واختلف المتأولون في قوله تعالى : { من قريب } فقال ابن عباس والسدي : معنى ذلك قبل المرض والموت ، وقال أبو مجلز ومحمد بن قيس والضحاك وعكرمة وابن زيد وغيرهم : معنى ذلك قبل المعاينة للملائكة والسوق{[3901]} ، وأن يغلب المرء على نفسه ، وروى أبو قلابة ، أن الله تعالى لما خلق آدم فرآه إبليس أجوف ، ثم جرى له ما جرى ولعن وأنظر ، قال : وعزتك لا برحت من قلبه ما دام فيه الروح ، فقال الله تعالى : وعزتي لا أحجب عنه التوبة ما دام فيه الروح{[3902]} .

قال القاضي أبو محمد :

فابن عباس رضي الله عنه ذكر أحسن أوقات التوبة ، والجمهور حددوا آخر وقتها ، وقال إبراهيم النخعي : كان يقال : التوبة مبسوطة لأحدكم ما لم يؤخذ بكظمه ، وروى بشير بن كعب والحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ويغلب على عقله »{[3903]} .

قال القاضي أبو محمد : لأن الرجاء فيه باق ويصح منه الندم والعزم على ترك الفعل في المستأنف ، فإذا غلب تعذرت التوبة لعدم الندم والعزم على الترك ، وقوله تعالى : { من قريب } إنما معناه : «من قريب » إلى وقت الذنب ، ومدة الحياة كلها قريب ، والمبادر في الصحة أفضل ، والحق لأمله من العمل الصالح ، والبعد كل البعد الموت ، ومنه قول مالك بن الريب{[3904]} : [ الطويل ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وأَيْنَ مَكَانُ الْبُعْدِ إلاّ مَكَانِيَا ؟

وقوله تعالى : { وكان الله عليماً حكيماً } أي بمن يتوب وييسره هو للتوبة حكيماً فيما ينفذه من ذلك ، وفي تأخير من يؤخر حتى يهلك .


[3894]:- من الآية (171) من سورة النساء.
[3895]:- جاءت العبارة في بعض النسخ هكذا "مما يوجب النظر فيها أنها حاضرة، إذ ليست التوبة إلا هذا الصنف المذكور، والتوبة في كلام العرب وفي عرف الشرع.."
[3896]:- من الآية (31) من سورة النور.
[3897]:- أخرجه البخاري (عن أنس) في كتاب العلم.
[3898]:- من الآية (25) من سورة الشورى.
[3899]:- من الآية (82) من سورة طه.
[3900]:- من الآية (36) من سورة محمد، والآية (20) من سورة الحديد.
[3901]:- السوق: حالة النزع وسكرات الموت، كأن الروح تساق لتخرج من البدن.
[3902]:- أخرجه الإمام أحمد في مسنده (3/ 29، 41، 76) عن أبي سعيد الخدري؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن إبليس قال لربه: بعزتك وجلالك لا أبرح أغوي بني آدم ما دامت الأرواح فيهم، فقال الله: فبعزتي وجلالي لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني.
[3903]:- راجع الحديث في مسنده أحمد 2/ 132، 153، 3/ 425 وفي الترمذي (دعوات: 98 وابن ماجة) (الزهد: 30).
[3904]:- مالك بن الريب التميمي من شعراء الإسلام في أول بني أمية، كان في مبتدأ أمره قاطع طريق ثم تاب، وغزا مع سعيد بن عثمان خراسان، وعند قفوله من الغزو مرض فرثى نفسه بقصيدة طويلة يائية، منها هذا البيت، والصدر فيه:يقولون لا تبع وهم يدفنونني (انظر أخباره في الأغاني 2: 305 ط. دار الثقافة).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِنَّمَا ٱلتَّوۡبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسُّوٓءَ بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٖ فَأُوْلَـٰٓئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (17)

استطراد جرّ إليه قوله : { فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما } [ النساء : 16 ] والتوبة تقدّم الكلام عليها مستوفى في قوله ، في سورة آل عمران ( 90 ) : { إنّ الذين كفروا بعد إيمانهم ثمّ ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم } و { إنَّما } للحصر .

و { على } هنا حرف للاستعلاء المجازي بمعنى التعهّد والتحقّق كقولك : عليّ لك كذا فهي تفيد تحقّق التعهّد . والمعنى : التوبة تحقّ على الله ، وهذا مجاز في تأكيد الوعد بقبولها حتّى جعلت كالحقّ على الله ، ولا شيء بواجب على الله إلا وجوب وعده بفضله . قال ابن عطية : إخباره تعالى عن أشياء أوجبها على نفسه يَقتضي وجوب تلك الأشياء سمعا وليس وُجوبا .

وقد تسلّط الحصر على الخبر ، وهو { للذين يعملون } ، وذكر له قيدان وهما { بجهالة } و { من قريب } . والجهالة تطلق على سوء المعاملة وعلى الإقدام على العمل دون رويَّة ، وهي ما قابل الحِلم ، ولذلك تطلق الجهالة على الظُلم . قال عمرو بن كلثوم :

أَلا لا يجهَلَنْ أحدٌ علينا *** فَنَجْهل فوْقَ جهل الجاهلينا

وقال تعالى ، حكاية عن يوسف « وإلاَّ تَصْرِفْ عنّي كَيْدَهُنّ أصْبُ إليْهن وأكُنْ من الجاهلين » . والمراد هنا ظلم النفس ، وذكر هذا القيد هنا لمجرّد تشويه عمل السوء ، فالباء للملابسة ، إذ لا يكون عمل السوء إلاّ كذلك . وليس المراد بالجهالة ما يطلق عليه اسم الجَهل ، وهو انتفاء العلم بما فعله ، لأنّ ذلك لا يسمّى جهالة ، وإنّما هو من معاني لفظ الجَهل ، ولو عمل أحد معصية وهو غير عالم بأنّها معصية لم يكن آثماً ولا يجب عليه إلاّ أن يتعلّم ذلك ويجتنّبه .

وقوله : { من قريب } ، من فيه للابتداء و { قريب } صفة لمحذوف ، أي من زمن قريب من وقت عمل السوء .

وتأوّل بعضهم معنى { من قريب } بأنّ القريب هو ما قبل الاحتضار ، وجعلوا قوله بعده { حتى إذا حضر أحدهم الموت } يبيّن المراد من معنى ( قريب ) .

واختلف المفسّرون من السلف ومَن بَعدهم في إعمال مفهوم القيدين « بجهالة من قريب » حتّى قيل : إنّ حكم الآية منسوخ بآية { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 ] ، والأكثر على أنّ قيد ( بجهالة ) كوصف كاشف لعمل السوء لأنّ المراد عمل السوء مع الإيمان . فقد روى عبد الرزاق عن قتادة قال : اجتمع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فرأوْا أنّ كلّ عمل عصي الله به فهو جهالة عمداً كان أو غيرَه . والذي يظهر أنّهما قيدان ذكراً للتنبيه على أنّ شأن المسلم أن يكون عمله جارياً على اعتبار مفهوم القيدين وليس مفهوماهما بشرطين لقبول التوبة ،