38- وإن أقوى دليل على قدرة الله وحكمته ورحمته ، أنه خلق كل شيء ، وليس في الأرض حيوان يدب في ظاهر الأرض وباطنها ، أو طائر يطير بجناحيه في الهواء ، إلا خلقها الله جماعات تماثلكم ، وجعل لها خصائصها ومميزاتها ونظام حياتها . ما تركنا في الكتاب المحفوظ عندنا شيئاً إلا أثبتناه . وإن كانوا قد كذبوا ، فيحشرون مع كل الأمم للحساب يوم القيامة{[60]} .
وقوله : { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } قال مجاهد : أي أصناف مُصَنَّفة تُعرَف بأسمائها . وقال قتادة : الطير أمة ، والإنس أمة ، والجن أمة . وقال السُّدِّي : { إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } أي : خلق أمثالكم .
وقوله : { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } أي : الجميع علمهم عند الله ، ولا ينسى واحدًا من جميعها من رزقه وتدبيره ، سواء كان بريًا أو بحريًا ، كما قال : { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [ هود : 6 ] ، أي : مُفصح بأسمائها وأعدادها ومظانها ، وحاصر لحركاتها وسكناتها ، وقال [ الله ]{[10669]} تعالى : { وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ العنكبوت : 60 ]
وقد قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عبيد بن واقد القيسي أبو عباد ، حدثني محمد بن عيسى بن كيسان ، حدثنا محمد بن المُنْكَدِر ، عن جابر بن عبد الله قال : قَلّ الجراد في سنة من سِني عمر ، رضي الله عنه ، التي ولي فيها ، فسأل عنه فلم يخبر بشيء ، فاغتم لذلك . فأرسل راكبًا إلى كذا ، وآخر إلى الشام ، وآخر إلى العراق يسأل : هل رؤى من الجراد شيء أم لا ؟ فأتاه{[10670]} الراكب الذي من قبل اليمن بقبضة جراد{[10671]} فألقاها بين يديه ، فلما رآها كبر ثلاثًا ، ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " خَلَق الله ، عَزَّ وجل ، ألف أُمَّة ، منها ستمائة في البحر ، وأربعمائة في البرِّ . وأول شيء يهلك من هذه الأمم الجراد ، فإذا هلكت تتابعت مثل النظام إذا قطع سلكه{[10672]} .
وقوله { ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا سفيان ، عن أبيه ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس في قوله : { ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } قال : حَشْرها الموتُ .
وكذا رواه ابن جرير من طريق إسرائيل عن{[10673]} سعيد ، عن مسروق ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : موتُ البهائم حَشْرُها . وكذا رواه العُوفِيّ ، عنه .
قال ابن أبي حاتم : وروي عن مجاهد والضحاك ، مثله .
والقول الثاني : إن حشرها هو بعثها يوم القيامة كما قال تعالى : { وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ } [ التكوير : 5 ]
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن سليمان ، عن مُنْذِر الثوري ، عن أشياخ لهم ، عن أبي ذرٍّ ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى شاتين تنتطحان ، فقال : " يا أبا ذر ، هل تدر فِيمَ تنتطحان ؟ " قال : لا . قال " لكن الله يدري ، وسيقضي بينهما " {[10674]}
ورواه عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن الأعمش ، عمن ذكره عن أبي ذر قال : بينا أنا{[10675]} عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ انتطحت عَنزان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتدرون فِيمَ انتطحتا ؟ " قالوا : لا ندري . قال : " لكن الله يدري ، وسيقضي بينهما " . رواه ابن جرير ، ثم رواه من طريق منذر الثوري ، عن أبي ذر ، فذكره وزاد : قال أبو ذر : ولقد تَرَكَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يُقَلِّب طائر بجناحيه في السماء إلا ذكرنا منه عِلمًا{[10676]}
وقال عبد الله ابن الإمام أحمد في مسند أبيه : حدثني عباس بن محمد وأبو يحيى البزار قالا حدثنا حجاج بن نُصير ، حدثنا شُعْبَة ، عن العَوَّام بن مَراجم{[10677]} - من بني قيس بن ثعلبة - عن أبي عثمان النَّهْدي ، عن عثمان ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الجَمَّاء لتقتص من القرناء يوم القيامة " {[10678]}
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن جعفر بن بُرْقَان ، عن يزيد بن الأصم ، عن أبي هريرة في قوله : { إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } قال : يحشر الخلق كلهم يوم القيامة ، البهائم والدواب والطير وكل شيء ، فيبلغ من عدل الله يومئذ أن يأخذ للجمَّاء من القرناء . قال : ثم يقول : كوني ترابًا . فلذلك يقول الكافر : { يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا } [ النبأ : 40 ] ، وقد روي هذا مرفوعًا في حديث الصور{[10679]}
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا مِن دَآبّةٍ فِي الأرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مّا فَرّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمّ إِلَىَ رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ } . .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل لهؤلاء المعرضين عنك المكذّبين بآيات الله : أيها القوم ، لا تحسبنّ الله غافلاً عما تعملون ، أو أنه غير مجازيكم على ما تكسبون ، وكيف يغفل عن أعمالكم أو يترك مجازاتكم عليها وهو غير غافل عن عمل شيء دبّ على الأرض صغير أو كبير ولا عمل طائر طار بجناحيه في الهواء ؟ بل جعل ذلك كله أجناسا مجنسة وأصنافا مصنفة ، تعرف كما تعرفون وتتصرّف فيما سخُرتْ له كما كما تتصرّفون ، ومحفوظ عليها ما عملت من عمل لها وعليها ، ومثبت كلّ ذلك من أعمالها في أمّ الكتاب ، ثم أنه تعالى ذكره مميتها ثم منشرها ومجازيها يوم القيامة جزاء أعمالها . يقول : فالربّ الذي لم يضيع حفظ أعمال البهائم والدوابّ في الأرض والطير في الهواء حتى حفظ عليها حركاتها وأفعالها وأثبت ذلك منها في أمّ الكتاب وحشرها ثم جازاها على ما سلف منها في دار البلاء ، أحرى أن لا يضيع أعمالكم ولا يفرط في حفظ أفعالكم التي تجترحونها أيها الناس حتى يحشركم فيجازيكم على جميعها ، إن خيرا فخير وإن شرّا فشر ، إذ كان قد خصكم من نعمه وبسط عليكم من فضله ما لم يعمّ به غيركم في الدنيا ، وكنتم بشكره أحقّ وبمعرفة واجبه عليكم أولى لما أعطاكم من العقل الذي به بين الأشياء تميزون والفهم الذي لم يعطه البهائم والطير الذي به بين مصالحكم ومضارّكم تفرّقون .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : { أُمَمٌ أمْثالُكُمْ } أصناف مصنفة تعرف بأسمائها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : { وَمَا مِنْ دَابّةٍ فِي الأرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إلاّ أُمَمٌ أمْثالُكُمْ } يقول : الطير أمة ، والإنس أمة ، والجنّ أمة .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : { إلاّ أُمَمٌ أمْثالُكُمْ } يقول : إلاّ خلقٌ أمثالُكم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، في قوله : { وَمَا مِنْ دَابّةٍ فِي الأرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إلاّ أُمَمٌ أمْثالُكُمْ } قال : الذرّة فوقها من ألوان ما خلق الله من الدوابّ .
وأما قوله : ما فَرّطْنا فِي الكِتابِ مِنْ شَيْءٍ فإن معناه : ما ضيعنا إثبات شيء منه . كالذي :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { ما فَرّطْنا فِي الكِتابٍ مِنْ شَيْءٍ } ما تركنا شيئا إلاّ قد كتبناه في أمّ الكتاب .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { ما فَرّطْنا فِي الكِتابِ مِنْ شَيْءٍ } قال : لم نغفل الكتاب ، ما من شيء إلاّ وهو في الكتاب .
وحدثني به يونس مرّة أخرى ، قال في قوله : { ما فَرّطْنا فِي الكِتابِ مِنْ شَيْءٍ } قال : كلهم مكتوب في أمّ الكتاب .
وأما قوله : { ثُمّ إلى رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ } فإن أهل التأويل اختلفوا في معنى حشرهم الذي عناه الله تعالى في هذا الموضع . فقال بعضهم : حَشْرُها مَوْتها . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمارة الأسديّ ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن سعيد ، عن مسروق ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : { وَمَا مِنْ دَابّةٍ فِي الأرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إلاّ أُمَمٌ أمْثالُكُمْ } قال ابن عباس : موت البهائم حَشْرُها .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { ثُمّ إلى رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ } قال : يعني بالحشر : الموت .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد ، قال : حدثنا عبيد بن سليم ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { ثُمّ إلى رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ } يعني بالحشر : الموت .
وقال آخرون : الحشر في هذا الموضع يعني به الجمع لبعث الساعة وقيام القيامة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن جعفر بن برقان ، عن يزيد بن الأصمّ ، عن أبي هريرة ، في قوله : { إلاّ أُمَمٌ أمْثالُكُمْ ما فَرّطْنا فِي الكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمّ إلى رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ } قال : يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة ، البهائم ، والدوابّ ، والطير ، وكلّ شيء ، فيبلغ من عدل الله يومئذٍ أن يأخذ للجماء من القرناء ، ثم يقول : كوني ترابا ، فذلك يقول الكافر : { يا لَيْتَني كُنْتُ تُرابا } .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن الأعمش ، ذكره عن أبي ذرّ ، قال : بينا أنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ انتطحت عنزان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أتَدْرُونَ فِيما انْتَطَحتَا » ؟ قالوا : لا ندري ، قال : «لَكِنِ اللّهُ يَدْرِي ، وَسَيَقْضِي بَيْنَهُما » .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن سليم ، قال : حدثنا مطر بن خليفة ، عن منذر الثوري ، عن أبي ذرّ قال : انتطحت شاتان عند النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال لي : «يا أبا ذَرّ أتَدْرِي فِيمَ انْتَطَحتَا » ؟ قلت : لا ، قال : «لَكِنِ اللّهُ يَدْرِي وَسَيَقْضِي بَيْنَهُما » . قال أبو ذرّ : لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما يقلب طائر جناحيه في السماء إلاّ ذكَّرنا منه علما .
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إن الله تعالى أخبر أن كلّ دابة وطائر محشور إليه ، وجائز أن يكون معنيا بذلك حشر القيامة ، وجائز أن يكون معنيا به حشر الموت ، وجائز أن يكون معنيا به الحشران جميعا . ولا دلالة في ظاهر التنزيل ولا في خبر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أيّ ذلك المراد بقوله : { ثُمّ إلى رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ } إذ كان الحشر في كلام العرب : الجمع ، ومن ذلك قول الله تعالى : { والطّيْرَ مَحْشُورَةً كُلّ لَهُ أوّابٌ } يعني مجموعة : فإذ كان الجمع هو الحشر وكان الله تعالى جامعا خلقه إليه يوم القيامة وجامعهم بالموت ، كان أصوب القول في ذلك أن يُعمّ بمعنى الاَية ما عمه الله بظاهرها ، وأن يقال : كلّ دابة وكلّ طائر محشور إلى الله بعد الفناء وبعد بعث القيامة ، إذ كان الله تعالى قد عمّ بقوله : { ثُمّ إلى رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ } ولم يخصص به حشرا دون حشر .
فإن قال قائل : فما وجه قوله : { وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ } وهل يطير الطائر إلاّ بجناحيه ؟ فما في الخبر عن طيرانه بالجناحين من الفائدة ؟ قيل : قد قدمنا القول فيما مضى أن الله تعالى أنزل هذا الكتاب بلسان قوم وبلغاتهم وما يتعارفونه بينهم ويستعملونه في منطقهم خاطبهم ، فإذ كان من كلامهم إذا أرادوا المبالغة في الكلام أن يقولوا : كلمت فلانا بفمي ، ومشيت إليه برجلي ، وضربته بيدي خاطبهم تعالى بنظير ما يتعارفونه في كلامهم ويستعملونه في خطابهم ، ومن ذلك قوله تعالى : { إنّ هَذَا أخي لَهُ تسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً ولي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ } .
{ وما من دابة في الأرض } تدب على وجهها . { ولا طائر يطير بجناحيه } في الهواء ، وصفه به قطعا لمجاز السرعة ونحوها . وقرئ " ولا طائر " بالرفع على المحل . { إلا أمم أمثالكم } محفوظة أحوالها مقدرة أرزاقها وآجالها ، والمقصود من ذلك الدلالة على كمال قدرته وشمول علمه وسعة تدبيره ، ليكون كالدليل على أنه قادر على أن ينزل آية . وجمع الأمم للحمل على المعنى . { ما فرطنا في الكتاب من شيء } يعني اللوح المحفوظ ، فإنه مشتمل على ما يجري في العالم من الجليل والدقيق لم يهمل فيه أمر ، حيوان ولا جماد . أو القرآن فإنه قد دون فيه ما يحتاج إليه من أمر الدين مفصلا أو مجملا ، ومن مزيدة وشيء في موضع المصدر لا بالمفعول به ، فإن فرط لا يتعدى بنفسه وقد عدي بفي إلى الكتاب . وقرئ { ما فرطنا } بالتخفيف . { ثم إلى ربهم يحشرون } يعني الأمم كلها فينصف بعضها من بعض كما روي : أنه يأخذ للجماء من القرناء . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : حشرها موتها .
وقوله تعالى : { وما من دابة } الآية ، المعنى في هذه الآية التنبيه على آيات الله الموجودة في أنواع مخلوقاته ، أي قل لهم إن الله قادر على أن ينزل آية إلا أنكم لا تعلمون وجه الحكمة في أن لا ينزل آية مجهزة وإنما يحيل على الآيات المنصوبة لمن فكر واعتبر كالدواب والطير التي قد حصرت جميع الحيوان ، وهي أمم أي جماعات مماثلة للناس في الخلق والرزق والحياة والموت والحشر ، ويحتمل أن يريد بالمماثلة أنها في كونها أمماً لا غير كما تريد بقولك مررت برجل مثلك أي في رجل ، ويصح في غير ذلك من الأوصاف إلا أن الفائدة في هذه الآية ، إنما تقع بأن تكون المماثلة في أوصاف غير كونها أمماً ، قال الطبري وغيره : والمماثلة في أنها يهتبل بأعمالها وتحاسب ويقتص لبعضها من بعض ما روي في الأحاديث ، أي : فإذا كان يفعل هذا بالبهائم فأنتم أحرى إذ أنتم مكلفون عقلاء وروى أبو ذر أنه انتطحت عنزان بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أتعلمون فيم انتطحتا ؟ قلنا لا : قال : فإن الله يعلم وسيقضي بينهما{[4906]} ، وقد قال مكي{[4907]} في المماثلة في أنها تعرف الله تعلى وتعبده ، وهذا قول خلف و { دابة } وزنها فاعلة وهي صفة وضعت موضع الاسم كما قالوا الأعرج والأبرق ، وأزيل منه معنى الصفة وليست بالصفة الغالبة في قولنا العباس والحارث لأن معنى الصفة باق في الصفة الغالبة ، وقرأت طائفة «ولا طائرِ » عطفاً على اللفظ وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة «ولا طائرٌ » بالرفع عطفاً على المعنى ، وقرأت فرقة «ولا طير » وهو جمع «طائر » وقوله : { بجناحيه } تأكيد وبيان وإزالة للاستعارة المتعاهدة في هذه اللفظة فقد يقال «طائر » السعد والنحس .
وقوله تعالى : { ألزمناه طائره في عنقه }{[4908]} أي عمله ، ويقال : «طار لفلان طائر » كذا أي سهمه في المقتسمات ، فقوله تعالى { بجناحيه } إخراج للطائر عن هذا كله ، وقرأ علقمة وابن هرمز «فرَطنا في الكتاب » بتخفيف الراء والمعنى واحد ، وقال النقاش معنى «فرطنا » مخففة أخرنا كما قالوا فرط الله عنك المرض أي أزاله ، والأول أصوب ، والتفريط التقصير في الشيء مع القدرة على ترك التقصير ، و{ الكتاب } : القرآن وهو الذي يقتضيه نظام المعنى في هذه الآيات ، وقيل اللوح المحفوظ ، و{ من شيء } على هذا القول عام في جميع الأشياء ، وعلى القول بأنه قرآن خاص في الأشياء التي فيها منافع للمخاطبين وطرائق هدايتهم ، و { يحشرون } قالت فرقة حشر البهائم موتها ، وقالت فرقة حشرها بعثها ، واحتجوا بالأحاديث المضمنة أن الله تعالى يقتص للجماء من القرناء ، إنما هي كناية عن العدل وليست بحقيقة فهو قول مردود ينحو إلى القول بالرموز ونحوها{[4909]} .