غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَمَا مِن دَآبَّةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا طَـٰٓئِرٖ يَطِيرُ بِجَنَاحَيۡهِ إِلَّآ أُمَمٌ أَمۡثَالُكُمۚ مَّا فَرَّطۡنَا فِي ٱلۡكِتَٰبِ مِن شَيۡءٖۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ يُحۡشَرُونَ} (38)

38

التفسير : لما بين أن إنزال سائر المعجزات لو كان مصلحة لهم لفعل ذلك ، أكده بما يؤذن أن آثار فضله وإحسانه ولطفه وامتنانه واصلة إلى جميع الحيوانات ، فلو كانت مصلحة المكلفين في إظهار تلك المعجزات القاهرة الملجئة لم يخل بذلك البتة ، وفيه أيضاً مزيد تقرير لأمر البعث وأنه حاصل لجميع الحيوان فضلاً عن الإنسان . فإن الحيوان إما أن يكون بحيث يدب أو يكون بحيث يطير . وإنما خص من الدواب ما في الأرض بالذكر دون ما في السماء أو في الماء ؛ لأن رعاية مصالح الأدون تستلزم رعاية مصالح الأشرف ، ويمكن أن يقال : إن الماء أيضاً من جملة الأرض لأنهما جميعاً ككرة واحدة . قال علماء المعاني : إنما وصف الدابة بكونها في الأرض والطائر بجناحيه ليعلم أنهما باقيان على عمومهما إذ بينهما بخواص الجنسين ، ولولا ذلك لاحتمل أن يقدّر فيهما صفة نحو ترتع أو تصيد فتخصصا ، أو لأوهم أن المراد بهما غير الجنسين المتعارفين لقوله بعده { إلا أمم أمثالكم } وقد يقول الرجل لعبده طِرْ في حاجتي والمراد الإسراع . قال الحماسي :

طاروا إليه زرافات ووحدانا *** . . .

وقيل : ذكر { يطير بجناحيه } ليخرج عنه الملائكة ذوو الأجنحة ، فإن المراد ذكر من هو أدون حالاً . وقيل : إن الوصف للتأكيد كقولهم : نعجة أنثى . وكما يقال : مشيت إليه برجلي . وإنما جمع الأمم مع أنه أفرد الدابة والطائر ، لأن النكرة المستغرقة في معنى الجمع . قال الفراء : كل صنف من البهائم أمة . وفي الحديث «لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها » . ثم ما وجه المماثلة بين البشر والدابة والطائر ؟ نقل الواحدي عن ابن عباس أنه قال : يعرفونني ويوحدونني ويسبحونني كقوله { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } [ الإسراء : 44 ] { كل قد علم صلاته وتسبيحه } [ النور : 41 ] وعن أبي الدرداء : أبهمت عقول البهائم إلا عن معرفة الإله وطلب الرزق . ومعرفة الذكر والأنثى . وهذا قول طائفة عظيمة من المفسرين . وقيل : وجه المماثلة كونها جماعات وكونها مخلوقة بحيث يشبه بعضها بعضاً ويأنس بعضها ببعض ويتوالد بعضها من بعض . وضعف بأن هذا أمر معلوم مشاهد لا فائدة في الإخبار عنه . وقيل : هو أنه دبرها وخلقها وتكفل برزقها وأحصى أحوالها وما يجري عليها من العمر والرزق والأجل والسعادة والشقاوة . دليله قوله عقيبه { ما فرطنا في الكتاب من شيء } . وقيل : هو أنها تحشر يوم القيامة ويوصل إليها حقوقها وقد جاء في الحديث «يقتص للجماء من القرناء » . ولكن قوله بعد ذلك { ثم إلى ربهم يحشرون } يصير كالمكرر . وعن سفيان بن عيينة : ما في الأرض من آدمي إلا وفيه شبه من بعض البهائم . فمنهم من يقدم إقدام الأسد ، ومنهم من يعدو عدو الذئب ، ومنهم من ينبح نباح الكلب ، ومنهم من يتطوّس كفعال الطاووس ، ومنهم من يشبه الخنزير لو ألقي إليه الطعام الطيب تركه وإذا قام عن رجيعه لعب فيه ، وكذلك نجد من الآدميين من يسمع خمسين كلمة من الحكمة لا يحفظ واحدة وإن أخطأت مرة واحدة حفظها ، ولم يجلس مجلساً إلا زاد فيه . واعلم يا أخي أنك تعاشر البهائم والسباع فبالغ في الحذر والاحتراز . وذهب أهل التناسخ إلى أن الأرواح البشرية إن كانت سعيدة مطيعة لله تعالى موصوفة بالمعارف الحقة موسومة بالأخلاق الفاضلة فإنها بعد موتها تنتقل إلى أبدان الملوك ، وربما قالوا إنها تصل إلى مخالطة عالم الملائكة . وإن كانت شقية جاهلة فإنها تنقل إلى أبدان الحيوانات ، وكلما كانت أكثر شقاء فإنها تنتقل إلى بدن حيوان أخس وأكثر تعباً وعناء . قالوا : وذلك لأن لفظ المماثلة يقتضي حصول المساواة في جميع الصفات الذاتية . ثم زعموا أن الله تعالى أرسل إلى كل جنس منها رسولاً من جنسها لقوله { وإن من أمة إلا خلا فيها نذير } [ فاطر : 24 ] واستشهدوا بقصة النمل وحديث الهدهد ونحو ذلك . وفي تعداد مذاهب أرباب التناسخ طول والله تعالى أعلم بحقيقة الحال . { ما فرطنا في الكتاب من شيء } «من » مزيدة للاستغراق أي ما تركنا وما أغفلنا شيئاً قط . وقيل : للتبعيض أي ما أهملنا فيه بعض شيء يحتاج المكلف إلى معرفته . والكتاب اللوح المحفوظ المشتمل على جميع أحوال العالم على التفصيل . وقيل : القرآن لأنه هو الذي تسبق إليه الأذهان فيما بين أهل الإيمان ، وأورد عليه أنه ليس فيه تفاصيل علم الطب والحساب ولا تفاصيل كثير من العلوم ولا حاصل مذاهب الناس ودلائلهم في علم الأصول والفروع . وأجيب بأن لفظ التفريط لا يستعمل إلا فيما يجب أن يفعل ، والمحتاج إليه إنما هو الأصول والقوانين لا الفروع التي لا تضبط ولا تتناهى . وما من علم إلا وفي القرآن أصله ومنه شرفه وفضله كقوله { كلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } [ الأعراف : 31 ] للطب . وقوله { وهو أسرع الحاسبين } [ الأنعام : 62 ] للحساب . وكقوله { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } [ الأعرف : 199 ] للأخلاق . وأما تفاصيل علم الفروع فذكر العلماء أن السنة والإجماع والقياس كلها مستندة إلى الكتاب كقوله { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا }

[ الحشر : 7 ] وكقوله { ويتبع غير سبيل المؤمنين } [ النساء : 115 ] وكقوله : { فاعتبروا } [ الحشر : 2 ] وقيل : إن القرآن وافٍ ببيان جميع الأحكام ، لأن الأصل براءة الذمة عن التكاليف كلها وشغل الذمة لا بد فيه من دليل منفصل ، وكل حكم لم يكن مذكوراً في القرآن بالمطابقة أو التضمن أو الالتزام لم يكن ذلك تكليفاً أو يكون باقياً على أصل الإباحة والله تعالى أعلم . أما قوله { ثم إلى ربهم يحشرون } فللعقلاء فيه قولان : الأوّل قول الأشاعرة إنه تعالى يحشر الدواب والطيور لا لأن إيصال العوض إليهن واجب بل مجرد الإرادة والمشيئة ومقتضى الإلهية . الثاني قول المعتزلة لن يحشر الطيور والبهائم إلا لإيصال الأعواض إليها ، لأن إيصال الآلام إليها من غير سبق جناية لا يحسن إلا للعوض . وفرع القاضي على ذلك فقال : كل حيوان استحق العوض على الله تعالى بما لحقه من الآلام وكان ذلك العوض لم يصل إليه في الدنيا فإنه يجب على الله تعالى حشره في الآخرة ليوفر عليه ذلك العوض ، والذي لا يكون كذلك لا يكون كذلك فإنه لا يجب حشره عقلاً إلا أن السمع ورد بحشر الكل فيقطع بذلك . فرع آخر : كل حيوان أذن الله تعالى في ذبحه فالعوض له على الله تعالى ، وكذا الذي أذن في قتله في كونه مؤذياً أو ألمه بمرض أو سخره للإنسان لأجل حمل الأثقال ، وأما إذا ظلمها الناس فالعوض على الظالم ، وكذا إذا ظلم بعضها بعضاً ، ولو ذبح المأكول لغير مأكله . فالعوض على الذابح ولهذا ورد النهي عن ذبح الحيوان لغير مأكله والمراد من العوض منافع عظيمة بلغت في الجلالة إلى حيث لو كانت هذه البهيمة عاقلة وعلمت أنه لا سبيل إلى تحصيل تلك المنافع إلا بواسطة تحمل ذلك الذبح لرضيت به . فرع آخر : مذهب القاضي وأكثر المعتزلة أن العوض منقطع وبعد ذلك تصير تراباً وحينئذ { يقول الكافر يا ليتني كنت تراباً }

[ النبأ : 40 ] وقال أبو القاسم البلخي : يجب دوام العوض لأنه لا يمكن قطع ذلك العوض إلا بإماتة تلك البهيمة ، وإماتتها توجب الألم ، وذلك الألم يوجب عوضاً آخر وهلم جراً إلى ما لا نهاية له . وأجيب بالمنع من أن الإماتة لا يمكن تحصيلها إلا بالإيلام . فرع آخر : البهيمة إذا استحقت عوضاً على بهيمة أخرى : فإن كانت البهيمة الظالمة قد استحقت عوضاً على الله تعالى فإنه تعالى يوصل ذلك العوض إلى المظلوم وإلا فإنه تعالى يتكفل بذلك العوض ، وهذا القدر يكفي في أحكام الأعواض بحسب المقام وهو سبحانه أعلم .

/خ50