الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَمَا مِن دَآبَّةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا طَـٰٓئِرٖ يَطِيرُ بِجَنَاحَيۡهِ إِلَّآ أُمَمٌ أَمۡثَالُكُمۚ مَّا فَرَّطۡنَا فِي ٱلۡكِتَٰبِ مِن شَيۡءٖۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ يُحۡشَرُونَ} (38)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وما من دابة في الأرض}، ولا في بر، ولا في بحر، {ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم}، يعني خلقا أصنافا مصنفة تعرف بأسمائهم، {ما فرطنا في الكتاب}، يعني ما ضيعنا في اللوح المحفوظ، {من شيء ثم إلى ربهم يحشرون} في الآخرة، ثم يصيرون من بعد ما يقتص بعضهم من بعض ترابا، يقال لهم: كونوا ترابا.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء المعرضين عنك المكذّبين بآيات الله: أيها القوم، لا تحسبنّ الله غافلاً عما تعملون، أو أنه غير مجازيكم على ما تكسبون، وكيف يغفل عن أعمالكم أو يترك مجازاتكم عليها وهو غير غافل عن عمل شيء دبّ على الأرض صغير أو كبير ولا عمل طائر طار بجناحيه في الهواء؟ بل جعل ذلك كله أجناسا مجنسة وأصنافا مصنفة، تعرف كما تعرفون وتتصرّف فيما سخِّرتْ له كما تتصرّفون، ومحفوظ عليها ما عملت من عمل لها وعليها، ومثبت كلّ ذلك من أعمالها في أمّ الكتاب، ثم إنه تعالى ذكره مميتها ثم منشرها ومجازيها يوم القيامة جزاء أعمالها. يقول: فالربّ الذي لم يضيع حفظ أعمال البهائم والدوابّ في الأرض والطير في الهواء حتى حفظ عليها حركاتها وأفعالها وأثبت ذلك منها في أمّ الكتاب وحشرها ثم جازاها على ما سلف منها في دار البلاء، أحرى أن لا يضيع أعمالكم ولا يفرط في حفظ أفعالكم التي تجترحونها أيها الناس حتى يحشركم فيجازيكم على جميعها، إن خيرا فخير وإن شرّا فشر، إذ كان قد خصكم من نعمه وبسط عليكم من فضله ما لم يعمّ به غيركم في الدنيا، وكنتم بشكره أحقّ وبمعرفة واجبه عليكم أولى لما أعطاكم من العقل الذي به بين الأشياء تميزون والفهم الذي لم يعطه البهائم والطير الذي به بين مصالحكم ومضارّكم تفرّقون.

"ما فَرّطْنا فِي الكِتابِ مِنْ شَيْءٍ": ما ضيعنا إثبات شيء منه. عن ابن عباس: {ما فَرّطْنا فِي الكِتابٍ مِنْ شَيْءٍ}: ما تركنا شيئا إلاّ قد كتبناه في أمّ الكتاب.

وأما قوله: {ثُمّ إلى رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ} فإن أهل التأويل اختلفوا في معنى حشرهم الذي عناه الله تعالى في هذا الموضع؛ فقال بعضهم: حَشْرُها: مَوْتها.

وقال آخرون: الحشر في هذا الموضع يعني به الجمع لبعث الساعة وقيام القيامة. حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن جعفر بن برقان، عن يزيد بن الأصمّ، عن أبي هريرة، في قوله: {إلاّ أُمَمٌ أمْثالُكُمْ ما فَرّطْنا فِي الكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمّ إلى رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ} قال: يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة، البهائم، والدوابّ، والطير، وكلّ شيء، فيبلغ من عدل الله يومئذٍ أن يأخذ للجماء من القرناء، ثم يقول: كوني ترابا، فذلك يقول الكافر: {يا لَيْتَني كُنْتُ تُرابا}.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن الأعمش، ذكره عن أبي ذرّ، قال: بينا أنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ انتطحت عنزان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتَدْرُونَ فِيما انْتَطَحتَا»؟ قالوا: لا ندري، قال: «لَكِنِ اللّهُ يَدْرِي، وَسَيَقْضِي بَيْنَهُما».

قال أبو ذرّ: لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يقلب طائر جناحيه في السماء إلاّ ذكَّرنا منه علما.

والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى أخبر أن كلّ دابة وطائر محشور إليه، وجائز أن يكون معنيا بذلك حشر القيامة، وجائز أن يكون معنيا به حشر الموت، وجائز أن يكون معنيا به الحشران جميعا. ولا دلالة في ظاهر التنزيل ولا في خبر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أيّ ذلك المراد بقوله: {ثُمّ إلى رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ} إذ كان الحشر في كلام العرب: الجمع، ومن ذلك قول الله تعالى: {والطّيْرَ مَحْشُورَةً كُلّ لَهُ أوّابٌ} يعني مجموعة: فإذ كان الجمع هو الحشر وكان الله تعالى جامعا خلقه إليه يوم القيامة وجامعهم بالموت، كان أصوب القول في ذلك أن يُعمّ بمعنى الآية ما عمه الله بظاهرها، وأن يقال: كلّ دابة وكلّ طائر محشور إلى الله بعد الفناء وبعد بعث القيامة، إذ كان الله تعالى قد عمّ بقوله: {ثُمّ إلى رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ} ولم يخصص به حشرا دون حشر.

فإن قال قائل: فما وجه قوله: {وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ} وهل يطير الطائر إلاّ بجناحيه؟ فما في الخبر عن طيرانه بالجناحين من الفائدة؟ قيل: قد قدمنا القول فيما مضى أن الله تعالى أنزل هذا الكتاب بلسان قوم وبلغاتهم وما يتعارفونه بينهم ويستعملونه في منطقهم خاطبهم، فإذ كان من كلامهم إذا أرادوا المبالغة في الكلام أن يقولوا: كلمت فلانا بفمي، ومشيت إليه برجلي، وضربته بيدي خاطبهم تعالى بنظير ما يتعارفونه في كلامهم ويستعملونه في خطابهم.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم} يشبه أن يكون هذا صلة قوله: {قل إن الله قادر على أن ينزل آية} لأنه ذكر دابة، والدابة كل ما يدب على وجه الأرض من ذي الروح، وذكر الطائر، وهو اسم كل ما يطير في الهواء؛ لما كان قادرا على خلق هذه الجواهر المختلفة وسوق رزق كل منهم إليه [فإنه] لقادر على أن ينزل آية، ويضطرهم جميعا إلى القبول لها والإقرار بها. ولكنه لا ينزل لما ليست لهم الحاجة إليها. والآيات لا تنزل إلا عند وقوع الحاجة لهم إليها. ثم اختلف في قوله تعالى: {إلا أمم أمثالكم} عن أبي هريرة رضي الله عنه [أنه] قال في قوله تعالى: {إلا أمم أمثالكم} أي إلا سيحشرون يوم القيامة، ثم تقتص البهائم بعضها من بعض. ثم يقال لها: كوني ترابا؛ فعند ذلك {ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا} [النبأ: 40] كالبهائم. وعن ابن عباس [رضي الله عنه أنه] قال: {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم} أي يفقه بعضها من بعض كما يفقه بعضكم من بعض، و {أمم أمثالكم} في معرفة ما يؤتى، ويتقى. ويحتمل: {إلا أمم أمثالكم} في الكثرة والعدد والخلق، والصنوف تعرف بالأسامي كما تعرفون أنتم. وأصله إنما ذكر من الدواب والطير {أمم أمثالكم} سخرها لكم، لم [يكن] منهم ما يكون منكم من العناد والتكذيب للرسل والخروج عليهم، بل خاضعة لكم مذللة، تنتفعون بها. ويحتمل قوله تعالى: {إلا أمم أمثالكم} في معرفة وحدانيته وألوهيته أو حق الطاعة لله كقوله تعالى: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} [الإسراء: 44].

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{أُمَمٌ أمثالكم} مكتوبة أرزاقها وآجالها وأعمالها كما كتبت أرزاقكم وآجالكم وأعمالكم {مَّا فَرَّطْنَا} ما تركنا وما أغفلنا {فِي الكتاب} في اللوح المحفوظ {مِن شيء} من ذلك لم نكتبه ولم نثبت ما وجب أن يثبت مما يختص به {ثُمَّ إلى رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ} يعني الأمم كلها من الدواب والطير فيعوضها وينصف بعضها من بعض، كما روي:"أنه يأخذ للجماء من القرناء"،

فإن قلت: كيف قيل: {إِلاَّ أُمَمٌ} مع إفراد الدابة والطائر؟ قلت: لما كان قوله تعالى: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرض وَلاَ طَائِرٍ} دالاً على معنى الاستغراق ومغنياً عن أن يقال: وما من دواب ولا طير، حمل قوله: {إِلاَّ أُمَمٌ} على المعنى،

فإن قلت: هلا قيل: وما من دابة ولا طائر إلا أمم أمثالكم؟ وما معنى زيادة قوله: {فِي الأرض} و {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} قلت: معنى ذلك زيادة التعميم والإحاطة، كأنه قيل: وما من دابة فقط في جميع الأرضين السبع، وما من طائر قط في جو السماء من جميع ما يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم محفوظة أحوالها غير مهمل أمرها.

فإن قلت: فما الغرض في ذكر ذلك؟ قلت: الدلالة على عظم قدرته، ولطف علمه، وسعة سلطانه وتدبيره تلك الخلائق المتفاوتة الأجناس، المتكاثرة الأصناف، وهو حافظ لما لها وما عليها، مهيمن على أحوالها، لا يشغله شأن عن شأن، وأنّ المكلفين ليسوا بمخصوصين بذلك دون من عداهم من سائر الحيوان.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

{وما من دابة} الآية، المعنى في هذه الآية التنبيه على آيات الله الموجودة في أنواع مخلوقاته، أي قل لهم إن الله قادر على أن ينزل آية إلا أنكم لا تعلمون وجه الحكمة في أن لا ينزل آية مجهزة وإنما يحيل على الآيات المنصوبة لمن فكر واعتبر كالدواب والطير التي قد حصرت جميع الحيوان، وهي أمم أي جماعات مماثلة للناس في الخلق والرزق والحياة والموت والحشر، ويحتمل أن يريد بالمماثلة أنها في كونها أمماً لا غير،كما تريد بقولك مررت برجل مثلك أي في رجل، ويصح في غير ذلك من الأوصاف إلا أن الفائدة في هذه الآية، إنما تقع بأن تكون المماثلة في أوصاف غير كونها أمماً، قال الطبري وغيره: والمماثلة في أنها يهتبل بأعمالها وتحاسب ويقتص لبعضها من بعض ما روي في الأحاديث، أي: فإذا كان يفعل هذا بالبهائم فأنتم أحرى إذ أنتم مكلفون عقلاء. وروى أبو ذر أنه انتطحت عنزان بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتعلمون فيم انتطحتا؟ قلنا لا: قال: فإن الله يعلم وسيقضي بينهما، و {الكتاب}: القرآن وهو الذي يقتضيه نظام المعنى في هذه الآيات، وقيل اللوح المحفوظ، و {من شيء} على هذا القول عام في جميع الأشياء، وعلى القول بأنه قرآن خاص في الأشياء التي فيها منافع للمخاطبين وطرائق هدايتهم، و {يحشرون} قالت فرقة حشر البهائم موتها، وقالت فرقة حشرها بعثها، واحتجوا بالأحاديث المضمنة أن الله تعالى يقتص للجماء من القرناء، إنما هي كناية عن العدل وليست بحقيقة، فهو قول مردود ينحو إلى القول بالرموز ونحوها.

وقوله تعالى: {وما من دابة} الآية، المعنى في هذه الآية التنبيه على آيات الله الموجودة في أنواع مخلوقاته، أي قل لهم إن الله قادر على أن ينزل آية إلا أنكم لا تعلمون وجه الحكمة في أن لا ينزل آية مجهزة وإنما يحيل على الآيات المنصوبة لمن فكر واعتبر كالدواب والطير التي قد حصرت جميع الحيوان، وهي أمم أي جماعات مماثلة للناس في الخلق والرزق والحياة والموت والحشر، ويحتمل أن يريد بالمماثلة أنها في كونها أمماً لا غير كما تريد بقولك مررت برجل مثلك أي في رجل، ويصح في غير ذلك من الأوصاف إلا أن الفائدة في هذه الآية، إنما تقع بأن تكون المماثلة في أوصاف غير كونها أمماً، قال الطبري وغيره: والمماثلة في أنها يهتبل بأعمالها وتحاسب ويقتص لبعضها من بعض ما روي في الأحاديث، أي: فإذا كان يفعل هذا بالبهائم فأنتم أحرى إذ أنتم مكلفون عقلاء وروى أبو ذر أنه انتطحت عنزان بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتعلمون فيم انتطحتا؟ قلنا لا: قال: فإن الله يعلم وسيقضي بينهما، وقد قال مكي في المماثلة في أنها تعرف الله تعلى وتعبده، وهذا قول خلف و {دابة} وزنها فاعلة وهي صفة وضعت موضع الاسم... و {الكتاب}: القرآن وهو الذي يقتضيه نظام المعنى في هذه الآيات، وقيل اللوح المحفوظ...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: في تقرير وجه النظم، فنقول فيه وجهان: الأول: أنه تعالى بين في الآية الأولى أنه لو كان إنزال سائر المعجزات مصلحة لهم لفعلها ولأظهرها، إلا أنه لما لم يكن إظهارها مصلحة للمكلفين، لا جرم ما أظهرها. وهذا الجواب إنما يتم إذا ثبت أنه تعالى يراعي مصالح المكلفين ويتفضل عليهم بذلك فبين أن الأمر كذلك، وقرره بأن قال: {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم} في وصول فضل الله وعنايته ورحمته وإحسانه إليهم، وذلك كالأمر المشاهد المحسوس فإذا كانت آثار عنايته واصلة إلى جميع الحيوانات؛ فلو كان في إظهار هذه المعجزات القاهرة مصلحة للمكلفين لفعلها ولأظهرها ولامتنع أن يبخل بها مع ما ظهر أنه لم يبخل على شيء من الحيوانات بمصالحها ومنافعها وذلك يدل على أنه تعالى إنما لم يظهر تلك المعجزات، لأن إظهارها يخل بمصالح المكلفين. فهذا هو وجه النظم والمناسبة بين هذه الآية وبين ما قبلها والله أعلم.

الوجه الثاني في كيفية النظم: قال القاضي: إنه تعالى لما قدم ذكر الكفار وبين أنهم يرجعون إلى الله ويحشرون بين أيضا بعده بقوله {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم} في أنهم يحشرون، والمقصود: بيان أن الحشر والبعث كما هو حاصل في حق الناس فهو أيضا حاصل في حق البهائم.

المسألة الثانية: الحيوان إما أن يكون بحيث يدب أو يكون بحيث يطير فجميع ما خلق الله تعالى من الحيوانات، فإنه لا يخلو عن هاتين الصفتين، إما أن يدب، وإما أن يطير. وفي الآية سؤالات:

السؤال الأول: من الحيوان ما لا يدخل في هذين القسمين مثل حيتان البحر، وسائر ما يسبح في الماء ويعيش فيه.

والجواب: لا يبعد أن يوصف بأنها دابة من حيث إنها تدب في الماء أو هي كالطير، لأنها تسبح في الماء، كما أن الطير يسبح في الهواء، إلا أن وصفها بالدبيب أقرب إلى اللغة من وصفها بالطيران. السؤال الثاني: ما الفائدة في تقييد الدابة بكونها في الأرض؟ والجواب من وجهين: الأول: أنه خص ما في الأرض بالذكر دون ما في السماء احتجاجا بالأظهر لأن ما في السماء وإن كان مخلوقا مثلنا فغير ظاهر، والثاني: أن المقصود من ذكر هذا الكلام أن عناية الله تعالى لما كانت حاصلة في هذه الحيوانات، فلو كان إظهار المعجزات القاهرة مصلحة لما منع الله من إظهارها. وهذا المقصود إنما يتم بذكر من كان أدون مرتبة من الإنسان لا بذكر من كان أعلى حالا منه، فلهذا المعنى قيد الدابة بكونها في الأرض.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

إن هاتين الآيتين مؤيدتان لما قبلهما ومتممتان له، فإنه بين في الآيات قبلهما أن الظالمين من مشركي مكة جحدوا بآيات الله جحود عناد لا تكذيب وضرب لهم مثل الذين كذبوا الرسل من قبل ولم يهتدوا بما أوتوا من الآيات المقترحة ولا غيرها – بعد هذا بين في هاتين الآيتين أنواعا من آياته تعالى في أنواع الحيوان، وإن المكذبين بآيات الله لم يهتدوا بها، بل ظلوا في ظلمات جهلهم حتى كأنهم لم يروها ولم يسمعوا بها...

{وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم} (الدابة) ما يدب على الأرض من الحيوان. والدب والدبيب المشي الخفيف – زاد بعضهم – مع تقارب الخطو و (الطائر) كل ذي جناح يسبح في الهواء وجمعه طير، كراكب وركب. (والأمم) جمع أمة وهي الجيل أو الجنس من الأحياء، وهذا أحد معاني اللفظ، وقال الراغب: الأمة كل جماعة يجمعهم أمر ما إما دين واحد أو زمان واحد أو مكان واحد، سواء كان ذلك الأمر الجامع تسخيرا أو اختيارا، وجمعها أمم. اه. وذكر بعده الآية، وكان ينبغي أن يزيد: أو صفات وأفعال واحدة.

والمعنى أنه لا يوجد نوع ما من أنواع الأحياء التي تدب على الأرض ولا من أنواع الطير التي تسبح في الهواء إلا وهي أمم مماثلة لكم أيها الناس. كما يقول عالم النبات ما من شجرة قامت على ساقها وتشعبت في الهواء أغصانها ولا نجم نبت في هذه الأرض إلا فصائل لها صفات وخواص مشتركة يمتاز بها بعضها عن بعض. فالدابة والطائر هنا مفرد اللفظ مراد به الجنس اللغوي. تقول طائر الحمام وطائر النحل، ودابة الحمير ودابة الأرض، كما تقول شجرة التين وشجرة الزقوم. وناهيك بوصف الدابة بكونها في الأرض ووصف الطائر بكونه يطير بجناحيه. فهو يشعر بذلك. وإن كان في وصف الطائر بما ذكر تنصيص على الحقيقة وسد لطريق المجاز، فقد تجوزوا بالطير عن السرعة.

ولاحتمال التجوز بدون القيد المذكور مناسبة قوية وهي عطف الطائر على الدابة إذ هي من الدب الذي هو المشي الخفيف كما تقدم ويقابله السريع الذي يشبه بالطيران. وذكر بعضهم لوصف الطائر بما ذكر نكتة أخرى وهي تصوير هيئة الطيران الغريبة الدالة على قدرة الباري وحكمته لذهن السامع والقارئ، وهو حسن لا ينافي ما تقدم، ولا تزاحم بين النكت المتفقة، ولا بين الحكم المؤتلفة، ويرى الكثيرون أنه لا مانع من جعل كلمتي دابة وطائر على أصل معناهما وهو الدلالة في سياق النفي على استغراق الأفراد، وإنما أخبر عنها بالأمم باعتبار الحمل على معنى الجمعية المستفاد من العموم.

وأما السمك فهو أقرب إلى الطير منه إلى الدواب وله أجنحة قد تسمى الزعانف أكثرها صغير ومنها ما هو كبير كجناح الخفاش، وهو يطير في الماء غالبا وعلى سطحه أحيانا، وقد يسف إلى قاعه فيلاصق أرضه في سيره فيكون أشبه بالزاحف منه بالطائر، ولعل حكمة ترك التصريح به قلة من كان يراه ممن نزلت السورة في مخاطبتهم قبل كل أحد بالدعوة إلى الإسلام وإقامة الدلائل عليهم وهم مشركو مكة. ولمثل هذا المعنى خص دواب الأرض بالذكر لأنها هي التي يراها المخاطبون عامة، ويدركون فيها معنى المماثلة، دون دواب الأجرام السماوية، القابلة للحياة الحيوانية، التي أعلمنا بوجودها في قوله: {ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير} [الشورى: 27] فهي قد ذكرت هنا بالتبع لذكر خلق السموات والأرض، فكان الإعلام بها نافلة وفائدة زائدة على ما يقوم به دليل الآية، وهي من أخبار عالم الغيب وردت بعبارة تشعر بما يدل عليها من القياس على عالم الشهادة، وإنما تظهر صحة هذا القياس حتى لغير المؤمن بالقرآن بعد البحث وسعة العلم بالهيئة الفلكية...

فالآية التي نفسرها ترشدنا بهذا وبوصف أنواع الحيوان بأنها أمم أمثالنا إلى البحث في طبائع الأحياء لنزداد علما بسنن الله تعالى وأسراره في خلقه، ونزداد بآياته فيها إيمانا وحكمة وحضارة وكمالا، ونعتبر بحال المكذبين بها، الذين لم يستفيدوا مما فضلهم الله به على الحيوان شيئا فكانوا أضل من جميع أنواعه التي لا تجني على نفسها ما يجنيه الكافر على نفسه...

والمختار عندنا أن الله تعالى أرشدنا إلى أن أنواع الحيوان أمم أمثال الناس، ولم يبين لنا وجه المماثلة بينهما لأجل أن نستعمل حواسنا وعقولنا في البحث الموصل إلى ذلك كما قلنا آنفا، وللمماثلة وجوه كثيرة اهتدى بعض العلماء إلى بعضها ويجوز أن يهتدي غيرهم إلى غير ما اهتدوا إليه، ولا سيما في هذا العصر الذي كثر فيه الأخصائيون في كل علم وفن، وتيسرت فيه أسباب البحث، إذ يوجد في بلاد العلم والحضارة بساتين لتربية أنواع السباع والحشرات والبهائم الوحشية والآنسة والطير والسمك، فالعلماء الذين يعنون بتربيتها ودرس غرائزها وطباعها وأعمالها في تلك البساتين وفي غيرها قد وصلوا إلى علم جم ووقفوا على أسرار غريبة...

وقد صارت أمم العلم والحضارة تحرص على بقاء كل نوع من أنواع الحيوان فإذا رأت بعض ما يصاد من الطير وغيرها قل في بلادها وخشي انقراضه منها تحرم على الناس صيده، ولهذا العمل أصل في السنة عندنا فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أحب أن تقتل الكلاب في المدينة، بل كان أمر بذلك ثم نهى عنه وقال: « لولا أن الكلاب أمة لأمرت بقتلها كلها فاقتلوا منها الأسود البهيم» 227 رواه أحمد وأصحاب السنن وصححه الترمذي عن عبد الله بن مغفل، وعلل قتل الكلب الأسود البهيم في حديث آخر عند أحمد ومسلم بأنه شيطان 228، أي ضار مؤذ فإن اسم الشيطان يطلق لغة على العارم الخبيث من الإنس والجان والحيوان، وقد سأل المنصور العباسي عمرو بن عبيد عن سبب هذا الحديث فلم يعرف فقال المنصور: لأنه ينبح الضيف ويروع السائل.

{ما فرطنا في الكتاب من شيء} التفريط في الأمر التقصير فيه وتضييعه حتى يفوت-كما في الصحاح- ويقال فرط فلانا-إذا تركه وتقدمه. روي عن ابن عباس تفسير الكتاب هنا بأم الكتاب. وفسروا أم الكتاب بأنه أصله وجملته، وقالوا إنه اللوح المحفوظ، وهو خلق من عالم الغيب أثبت الله تعالى فيه مقادير الخلق ما كان منها وما يكون بحسب النظام المعبر عنه بالسنن الإلهية. ومنهم من يفسر الكتاب هنا-وكذا أم الكتاب في آيتي الرعد والزخرف-بالعلم الإلهي المحيط بكل شيء، شبه بالكتاب بكونه ثابتا لا ينسى. وقال بعضهم إن المراد بالكتاب هنا القرآن، ولا يصح أن يكون القرآن أم الكتاب لأن أم الكتاب شامل له ولغيره من كتب الله تعالى ومن مقادير خلقه. قال تعالى بعد ذكر القرآن في أول الزخرف: {وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم} [الزخرف: 4].

ومعنى الجملة ما تركنا في الكتاب شيئا لم نثبته فيه تقصيرا وإهمالا بل أحصينا فيه كل شيء أو جعلناه تباينا لكل شيء. فإذا أريد بالكتاب العلم الإلهي أو اللوح المحفوظ فالاستغراق على ظاهره. وإذا أريد به القرآن فالمراد بقوله « من شيء»-الدال على العموم-الشيء الذي هو من موضوع الدين الذي يرسل به الرسل وينزل به الكتب وهو الهداية، لأن العموم في كل شيء بحسبه. أي ما تركنا في الكتاب شيئا ما من ضروب الهداية التي نرسل الرسل لأجله إلا وقد بيناه فيه، وهي أصول الدين وقواعده وأحكامه وحكمها والإرشاد إلى استعمال القوى البدنية والعقلية في الاستفادة من تسخير الله كل شيء للإنسان ومراعاة سننه تعالى في خلقه التي يتم بها الكمال المدني والعقلي، فالقرآن قد بين ذلك كله بالنص أو الفحوى ومنه ما أرشد إليه هنا من علم الحيوان، الذي يهدي إلى كمال المعرفة والإيمان. وقد بينا وجه اشتمال الكتاب على جميع أمر الدين في تفسير {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} [المائدة: 101] من هذا الجزء وتفسير {اليوم أكملت لكم دينكم} [المائدة: 3] من تفسير الجزء الخامس، فليرجع إليها من شاء.

ومن الناس من قال إن القرآن قد حوى علوم الأكوان كلها، وإن الشيخ محيي الدين بن العربي وقع عن حماره فرضت رجله فلم يأذن للناس بحمله إلا بعد أن استخرج حادثة وقوعه ورض رجله من سورة الفاتحة. وهذا القول لم يقل به أحد من الصحابة ولا علماء التابعين ولا غيرهم من علماء السلف الصالحين، ولا يقبله أحد من الناس إلا من يرون أن كل ما كتبه الميتون في كتبهم حق، وإن كان لا يقبله عقل ولا يهدي إليه نقل، ولا تدل عليه اللغة. بل قال أئمة السلف إن القرآن لا يشتمل على جميع فروع أحكام العبادات الضرورية بدلالة النص ولا الفحوى، وإنما أثبت وجوب اتباع الرسول فصار دالا على كل ما ثبت في السنة وأثبت قواعد القياس الصحيح وقواعد أخرى فصار مشتملا على جميع فروعها وجزئياتها، ولا يخرج شيء من الدين عنها. وإن قبول الناس للخرافة المروية عن ابن العربي هي التي جرأت مثل مسيح الهند أحمد القادياني على ذلك التفسير الذي فسر به الفاتحة وزعم أنه معجزته الدالة على كونه هو المسيح المنتظر. وكله لغو وهذيان، ومن أغربه أن اسم الرحمن في الفاتحة دليل على بعثة خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم واسم الرحيم دليل على بعثته هو.

{ثم إلى ربهم يحشرون (38)} أي ثم يبعث أولئك الأمم من الناس والحيوان يوم القيامة ويساقون مجتمعين إلى ربهم المالك لأمرهم لا إلى غيره فيحاسب كلا على ما فعل، ويقتص للمظلوم ممن ظلم، وإنما حسن عود ضميري الغيبة في ربهم وفي يحشرون إلى الدواب والطير والناس جميعا لأنه خبر من الله تعالى عطف على خطاب الناس وغلب فيه ضمير الأشرف، وإذا جعل من جملة الخطاب تعين رجوع الضميرين إلى الدواب والطير، ونكتة جعلهما من ضمائر العقلاء. ويؤيد حشر تلك الأمم كلها قوله تعالى: {وإذا الوحوش حشرت} [التكوير: 5] وحديث أبي ذر عند أحمد وعبد الرزاق وابن جرير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى عنزان ينتطحان فقال « يا أبا ذر هل تدري فيم ينتطحان؟-قال لا، لكن الله يدري وسيقضي بينهما» وفي رواية أتدرون فيم انتطحتا؟ قلنا لا. وزاد في رواية ابن جرير: عن أبي ذر: ولقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يقلب طائر جناحيه إلا ذكر لنا منه علما. والحديث مروي من طريق منذر الثوري وهو ثقة ولكن رواه أحمد عن شيوخ لم يسموا. وفيه حجة على كون علم الحيوان من علوم الهداية المشروعة في الإسلام لما ذكرنا من فائدته آنفا.

وروى البيهقي في شعب الإيمان والخطيب في تالي التلخيص وابن عساكر عن عبيد الله بن أبي زيادة البكري قال: دخلت على ابني بشر المازنيين صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يرحمكما الله، الرجل منا يركب الدابة فيضربها بالسوط أو يكبحها باللجام فهل سمعتما من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيئا؟ فقالا لا. قال عبيد الله فنادتني امرأة من الداخل فقالت يا هذا إن الله يقول في كتابه {وما من دابة في الأرض ولا طائر...} الآية فقالا هذه اختنا وهي أكبر منا وقد أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم- فهذه الصحابية استدلت بالآية على وجوب الرفق والرحمة بالدواب وغيرها من الحيوان وأنه تعالى يحاسب الناس على ظلمهم لها يوم يحشرهم إليه جميعا ويؤيده ما ورد في ذلك من الأحاديث كحديث « ما من إنسان يقتل عصفورا فما فوقها بغير حقها إلا سأله الله عز وجل عنها يوم القيامة» 230 وذكر أن حقها أكلها، رواه النسائي والحاكم وصححه. وفي معناه حديث آخر عند النسائي وابن حبان في صحيحه وحديث « إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته» رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة من حديث شداد بن أوس مرفوعا.

وأخرج رواة التفسير المأثور والحاكم وصححه عن أبي هريرة في تفسير الآية إن الله يحشر هذه الأمم يوم القيامة ويقتص لبعضها من بعض حتى يقتص للجلحاء من ذات القرن. وفي رواية للجماء من القرناء. وغلط الآلوسي فعزاه إلى حديث الصحيحين، ولكن روى مسلم والترمذي عنه مرفوعا « لتؤذن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء» ونقل عن المعتزلة أن العقل يدل على وجوب إعادة الحيوان كالإنسان للتعويض على كل لا لمحض العقاب على الجناية فكل حي أصابه ألم يجب أن ينال عوضا عنه فإذا كان الألم بفعل الله أو بشرعه كالذي يذبح ليؤكل أو يقتل اتقاء ضرره فالله يعوضه عن ذلك.

وروى ابن جرير وابن حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: {ثم إلى ربهم يحشرون} قال: موت البهائم حشرها. وفي لفظ قال يعني بالحشر الموت. قال السيد الآلوسي: ومراده رضي الله تعالى عنه- على ما قيل – إن قوله سبحانه {ثم إلى ربهم يحشرون} مجموعه مستعار على سبيل التمثيل للموت كما ورد في الحديث « من مات فقد قامت قيامته» فلا يرد عليه أن الحشر بعث من مكان إلى آخر وتعديته بإلى تنصيص على أنه لم يرد به الموت مع أن في الموت أيضا نقلا من الدنيا إلى الآخرة، اه وصوب ابن جرير أن المراد الحشران جميعا حشر الموت وحشر البعث، وعلله بأن الحشر في كلام العرب الجمع وهو يشملهما ولا مرجح لأحدهما من كتاب ولا سنة. هذا محصل قوله، والصواب أن الحشر جمع وبعث أو كما قال الراغب إخراج الجماعة عن مقرهم وإزعاجهم إلى الحرب ونحوها، ففيه معنى الجمع لأنه لا يطلق على الواحد. ومعنى الحشر بالموت سوق الأحياء إليه حتى يكون هو غايتهم.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

إن هذه الآية القصيرة -فوق تقريرها الحاسم في حقيقة الحياة والأحياء- لتهز القلب بما ترسم من آفاق الإشراف الشامل، والتدبير الواسع، والعلم المحيط، والقدرة القادرة، لله ذي الجلال..إذ المقصود الأول هنا هو توجيه القلوب والعقول، إلى أن وجود هذه الخلائق بهذا النظام، وشمولها بهذا التدبير، وإحصاءها في علم الله، ثم حشرها إلى ربها في نهاية المطاف.. توجيه القلوب والعقول إلى ما في هذه الحقيقة الهائلة الدائمة من دلائل وأمارات، أكبر من الآيات والخوارق التي يراها جيل واحد من الناس!

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

معنى هذه الآية غامض بدءاً. ونهايتها أشدّ غموضاً، وموقعها في هذا السياق خفي المناسبة. فاعلَم أنّ معنى قوله: {وما من دابّة في الأرض} إلى قوله {إلاّ أمم أمثالكم} أنّ لها خصائص لكلّ جنس ونوع منها كما لأمم البشر خصائصها، أي جعل الله لكلّ نوع ما به قوامه وألهمه اتِّباع نظامه وأنّ لها حياة مؤجّلة لا محالة.

فمعنى {أمثالكم} المماثلة في الحياة الحيوانية وفي اختصاصها بنظامها.

وأمّا معنى قوله: {ثم إلى ربّهم يحشرون} أنّها صائرة إلى الموت. ويعضّده ما روي عن ابن عباس: حشر البهائم موتها، أي فالحشر مستعمل في مجاز قريب إلى حقيقته اللغوية التي في نحو قوله تعالى: {وحشر لسليمان جنوده} [النمل: 17]. فموقع هذه الآية عند بعض المفسّرين أنّها بمنزلة الدليل على مضمون قوله تعالى: {قل إنّ الله قادر على أن ينزّل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون} [الأنعام: 37]، فيجوز أن تكون معطوفة على جملة {إنّ الله قادر على أن ينزّل آية} [الأنعام: 37] على أنّها من جملة ما أمر النبي بأن يقوله لهم؛ ويجوز أن تكون معطوفة على جملة: {قُل إنّ الله قادر} [الأنعام: 37] على أنّها من خطاب الله لهم. أي أنّ الذي خلق أنواع الأحياء كلِّها وجعلها كالأمم ذات خصائص جامعة لأفراد كلّ نوع منها فكان خلقها آية على عظيم قدرته لا يعجزه أن يأتي بآية حسب مقترحكم ولكنّكم لا تعلمون الحكمة في عدم إجابتكم لما سألتم. ويكون تعقيبه بقوله تعالى: {والّذين كذّبوا بآياتنا صمّ وبُكْم} [الأنعام: 39] الآية واضح المناسبة، أي لا يهتدون إلى ما في عوالم الدواب والطير من الدلائل على وحدانية الله.

وأمّا قوله: {ثمّ إلى ربّهم يحشرون} فإن نظرنا إليه مستقلاً بنصّه غير ملتفتين إلى ما نيط به من آثار مروية في تفسيره؛ فأول ما يبدو للناظر أنّ ضميري {ربّهم} و {يحشرون} عائدان إلى {دابّة} و {طائر} باعتبار دلالتهما على جماعات الدّواب والطير لوقوعهما في حيّز حرف (مِنْ) المفيدة للعموم في سياق النفي، فيتساءل الناظر عن ذلك وهما ضميران موضوعان للعقلاء. وقد تأولوا لوقوع الضميرين على غير العقلاء بوجهين: أحدهما أنّه بناءٌ على التغليب إذ جاء بعده {إلاّ أمم أمثالكم}. الوجه الثاني أنّهما عائدان إلى {أمم أمثالكم}، أي أنّ الأمم كلّها محشورة إلى الله تعالى.

وأحسن من ذلك تأويلاً أن يكون الضميران عائديْن إلى ما عادت إليه ضمائر الغيبة في هذه الآيات التي آخرها ضمير {وقالوا لولا نزّل عليه آية من ربّه}، فيكون موقع جملة {ثم إلى ربّهم يحشرون} موقع الإدماج والاستطراد مجابهة للمشركين بأنَّهم محشورون إلى الله لا محالة وإن أنكروا ذلك.

فإذا وقع الالتفات إلى ما روي من الآثار المتعلّقة بالآية كان الأمر مُشكلاً.

فقد روى مسلم عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لتُؤَدّنّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتّى يقاد للشّاة الجلحاء (التي لا قرن لها، وفي رواية غيره: الجَماء) من الشاة القرناء" وروى أحمد بن حنبل وأبو داوود الطيالسي في « مسنديهما» عن أبي ذرّ قال: انتطحت شاتان أو عنزان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا ذر أتدري فيم انتطحتا، قلت: لا، قال: لكن الله يدري وسيقضي بينهما يوم القيامة. فهذا مقتض إثبات حشر الدوابّ ليوم الحساب، فكان معناه خفي الحكمة إذ من المحقّق انتفاء تكليف الدوابّ والطير تبعاً لانتفاء العقل عنها. وكان موقعها جلي المناسبة بما قاله الفخر نقلاً عن عبد الجبّار بأنّه لمّا قدّم الله أنّ الكفّار يُرجعون إليه ويحشرون بيّن بعده أنّ الدوابّ والطير أمم أمثالهم في أنّهم يحشرون. والمقصود بيان أنّ الحشر والبعث كما هو حاصل في الناس حاصل في البهائم. وهذا ظاهر قوله: {يحشرون} لأنّ غالب إطلاق الحشر في القرآن على الحشر للحساب، فيناسب أن تكون جملة: {وما من دابّة في الأرض} الآية عطفاً على جملة: {والموتى يبعثهم الله}، فإنّ المشركين ينكرون البعث ويجعلون إخبار الرسول عليه الصلاة والسلام به من أسباب تهمته فيما جاء به، فلمّا توعّدهم الله بالآية السابقة بأنّهم إليه يرجعون زاد أن سجّل عليهم جهلهم فأخبرهم بما هو أعجب ممّا أنكروه، وهو إعلامهم بأنّ الحشر ليس يختصّ بالبشر بل يعمّ كلّ ما فيه حياة من الدّوابّ والطير. فالمقصود من هذا الخبر هو قوله: {ثم إلى ربّهم يحشرون}. وأمّا ما قبله فهو بمنزلة المقدمة له والاستدلال عليه، أي فالدّوابّ والطير تبعث مثل البشر وتحضر أفرادها كلّها يوم الحشر، وذلك يقتضي لا محالة أن يقتصّ لها، فقد تكون حكمة حشرها تابعة لإلقاء الأرض وما فيها وإعادة أجزاء الحيوان.

وإذا كان المراد من هذين الحديثين ظاهرهما فإنّ هذا مظهر من مظاهر الحق يوم القيامة لإصلاح ما فرط في عالم الفناء من رواج الباطل وحكم القوة على العدالة، ويكون القصاص بتمكين المظلوم من الدوابّ من ردّ فعل ظالمه كيلا يستقرّ بالباطل. فهو من قبيل ترتّب المسبّبات على أسبابها شبيه بخطاب الوضع، وليس في ذلك ثواب ولا عقاب لانتفاء التكليف ثم تصير الدواب يومئذٍ تراباً، كما ورد في رواية عن أبي هريرة في قوله تعالى: {ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً} [النبأ: 40]. قال المازري في المُعَلِم: واضطرب العلماء في بعث البهائم. وأقوى ما تعلّق به من يقول ببعثها قوله تعالى: {وإذا الوحوش حشرت}. وقد قيل: إنّ هذا كلّه تمثيل للعدل. ونسبه المازري إلى بعض شيوخه قال: هو ضرب مَثل إعلاماً للخلق بأن لا يبقى حقّ عند أحد.

والدابّة مشتقّة من دبّ إذا مشى على الأرض، وهي اسم لكلّ ما يدبّ على الأرض. وقوله: {في الأرض} صفة قصد منها إفادة التعميم والشمول بذكر اسم المكان الذي يحوي جميع الدوابّ وهو الأرض، وكذلك وصف {طائر} بقوله {يطير بجناحيه} قصد به الشمول والإحاطة، لأنّه وصف آيل إلى معنى التوكيد، لأنّ مفاد {يطير بجناحيه} أنَّه طائر، كأنَّه قيل: ولا طائر ولا طائر. والتوكيد هنا يؤكّد معنى الشمول الذي دلّت عليه (من) الزائدة في سياق النفي؛ فحصل من هذين الوصفين تقرير معنى الشمول الحاصل من نفي اسمي الجنسين. ونكتة التوكيد أنّ الخبر لغرابته عندهم وكونه مظنّة إنكارهم أنَّه حقيق بأن يؤكّد.

.. و {أمم} جمع أمّة. والأمّة أصلها الجماعة من الناس المتماثلة في صفات ذاتية من نسب أو لغة أو عادة أو جنس أو نوع. قيل: سمّيت أمة لأنّ أفرادها تؤمّ أمَماً واحداً وهو ما يجمع مقوّماتها.

وأحسب أنّ لفظ أمَّة خاصّ بالجماعة العظيمة من البشر، فلا يقال في اللغة أمّة الملائكة ولا أمّة السباع. فأمّا إطلاق الأمم على الدّوابّ والطير في هذه الآية فهو مجاز، أي مثل الأمم لأنّ كلّ نوع منها تجتمع أفراده في صفات متّحدة بينها أمماً واحدة، وهو ما يجمعها وأحسب أنّها خاصّة بالبشر.

و {دابّة} و {طائر} في سياق النفي يُراد بهما جميع أفراد النوعين كما هو شأن الاستغراق، فالإخبار عنهما بلفظ {أمم} وهو جمع على تأويله بجماعاتها، أي إلاّ جماعاتها أمم، أو إلاّ أفراد أمم.

وتشمل الأرض البحر لأنَّه من الأرض ولأنّ مخلوقاته يطلق عليها لفظ الدابَّة، كما ورد في حديث سرية سِيف البحر قول جابر بن عبد الله: فألقى لنا البحر دابّة يقال لها العنبر.

والمماثلة في قوله: {أمثالكم} التشابه في فصول الحقائق والخاصّات التي تميّز كلّ نوع من غيره، وهي النظم الفطرية التي فطر الله عليها أنواع المخلوقات. فالدّواب والطير تُماثل الأناسي في أنّها خلقت على طبيعة تشترك فيها أفراد أنواعها وأنّها مخلوقة لله معطاة حياة مقدّرة مع تقدير أرزاقها وولادتها وشبابها وهرمها، ولها نظم لا تستطيع تبديلها.

وليست المماثلة براجعة إلى جميع الصفات فإنّها لا تماثل الإنسان في التفكير والحضارة المكتسبة من الفكر الذي اختصّ به الإنسان. ولذلك لا يصحّ أن يكون لغير الإنسان نظام دولة ولا شرائع ولا رسل ترسل إليهن لانعدام عقل التكليف فيهنّ، وكذلك لا يصحّ أن توصف بمعرفة الله تعالى. وأما قوله تعالى: {وإنْ من شيء إلاّ يُسبّح بحمده} [الإسراء: 44] فذلك بلسان الحال في العجماوات حين نراها بَهِجَة عند حصول ما يلائمها فنراها مرحة فرحة. وإنّما ذلك بما ساق الله إليها من النعمة وهي لا تفقه أصلها ولكنّها تحسّ بأثرها فتبتهج، ولأنّ في كل نوع منها خصائص لها دلالة على عظيم قدرة الله وعلمه تختلف عن بقية الأنواع من جنسه والمقصد من هذا صرف الأفهام إلى الاعتبار بنظام الخلق الذي أودعه الله في كلّ نوع، والخطاب في قوله: {أمثالكم} موجّه إلى المشركين.

وجملة: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} معترضة لبيان سعة علم الله تعالى وعظيم قدرته. فالكتاب هنا بمعنى المكتوب، وهو المكنّى عنه بالقلم المراد به ما سبق في علم الله وإرادته الجارية على، وفْقِه كما تقدّم في قوله تعالى: {كتب على نفسه الرحمة} [الأنعام: 12].

.. والتفريط: الترك والإهمال، وتقدّم بيانه آنفاً عند قوله تعالى: {قالوا يا حسرتنا على ما فرّطنا فيها} [الأنعام: 31].

والشيء هو الموجود. والمراد به هنا أحوال المخلوقات كما يدلّ عليه السياق فشمل أحوال الدّواب والطير فإنّها معلومة لله تعالى مقدّرة عنده بما أودع فيها من حكمة خلقه تعالى.

وقوله {ثم إلى ربِّهم يحشرون} تقدّم تفسيره آنفاً في أوّل تفسير هذه الآية. وفي الآية تنبيه للمسلمين على الرفق بالحيوان فإنّ الإخبار بأنّها أمم أمثالنا تنبيه على المشاركة في المخلوقية وصفات الحيوانية كلّها. وفي قوله: {ثم إلى ربِّهم يحشرون} إلقاء للحذر من الاعتداء عليها بما نهى الشرع عنه من تعذيبها وإذا كان يقتصّ لبعضها من بعض وهي غير مكلّفة، فالاقتصاص من الإنسان لها أولى بالعدل. وقد ثبت في الحديث الصحيح: أنّ الله شكر للذي سقى الكلب العطشان، وأنّ الله أدخل امرأة النار في هرّة حبستها فماتت جوعاً.