إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَمَا مِن دَآبَّةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا طَـٰٓئِرٖ يَطِيرُ بِجَنَاحَيۡهِ إِلَّآ أُمَمٌ أَمۡثَالُكُمۚ مَّا فَرَّطۡنَا فِي ٱلۡكِتَٰبِ مِن شَيۡءٖۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ يُحۡشَرُونَ} (38)

وقوله تعالى : { وَمَا مِن دَابَّةٍ في الأرض } الخ ، كلامٌ مستأنفٌ مَسوق لبيان كمال قدرتِه عز وجل وشمول علمه وسعةِ تدبيرِه ليكون كالدليل على أنه تعالى قادرٌ على تنزيل الآية ، وإنما لا يُنزِّلُها محافظةً على الحِكَم البالغةِ ، وزيادةُ ( من ) لتأكيد الاستغراق وهي متعلقةٌ بمحذوفٍ هو وصفٌ لدابة مفيد لزيادة التعميم ، كأنه قيل : وما فردٌ من أفراد الدوابِّ يستقرّ في قُطر من أقطار الأرض ، وكذا زيادةُ الوصف في قوله تعالى : { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } مع ما فيه من زيادة التقرير أي ولا طائرٍ من الطيور يطير في ناحية من نواحي الجو بجناحيه كما هو المشاهَدُ المعتاد ، وقرئ ولا طائرٌ بالرفع عطفاً على محل الجار والمجرور كأنه قيل : وما دابة ولا طائر { إِلاَّ أُمَمٌ } أي طوائفُ متخالفةٌ ، والجمع باعتبار المعنى كأنه قيل : وما مِنْ دوابَّ ولا طيرٍ إلا أممِ { أمثالكم } أي كلُّ أمة منها مثلُكم في أن أحوالها محفوظةٌ وأمورَها مقنَّنة ومصالحَها مرعيةٌ جاريةٌ على سَنن السَّداد ، ومنتظمةٌ في سلك التقديرات الإلهية والتدبيراتِ الربانية { ما فَرَّطْنَا في الكتاب مِن شيء } يقال : فرَّط في الشيء أي ضيَّعه وتركه ، قال ساعدة بن حُوَية : [ الكامل ]

معه سِقاءٌ لا يُفرِّط حملَهُ *** [ صُفنٌ وأخراصٌ يلحن ومسأبُ ]{[209]}

أي لا يتركه ولا يفارقه ويقال : فرّط في الشيء أي أهمل ما ينبغي أن يكون فيه وأغفله ، فقوله تعالى : { في الكتاب } أي في القرآن على الأول ظرفُ لغوٍ ، وقوله تعالى : { مِن شيء } مفعولٌ لفرّطنا و( من ) مزيدة للاستغراق أي ما تركنا في القرآن شيئاً من الأشياء المُهمّة التي من جملتها بيانُ أنه تعالى مراعٍ لمصالحِ جميعِ مخلوقاته على ما ينبغي ، وعلى الثاني مفعول للفعل ومن شيء في موضع المصدر ، أي ما جعلنا الكتاب مفرَّطاً فيه شيئاً من التفريط بل ذكرنا فيه كلَّ ما لابد من ذكره . وأياً ما كان فالجملةُ اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمون ما قبلها ، وقيل : الكتابُ اللوْح ، فالمراد بالاعتراضِ الإشارة إلى أن أحوالَ الأمم مستقصاةٌ في اللوح المحفوظ غيرُ مقصورة على هذا القدر المُجمل ، وقرئ فَرَطنا بالتخفيف . وقوله تعالى : { ثُمَّ إلى رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ } بيانٌ لأحوال الأمم المذكورة في الآخرة بعد بيان أحوالها في الدنيا . وإيرادُ ضميرها على صيغة جمع العقلاء لإجرائها مُجراهم ، والتعبير عنها بالأمم أي إلى مالك أمورهم يحشرون يوم القيامة كدأبكم لا إلى غيره فيجازيهم فيُنصِفُ بعضَهم من بعض حتى يبلُغ من عدله أن يأخذ للجّماءِ من القَرْناء{[210]} . وقيل : حشرُها موتها . ويأباه مقامُ تهويلِ الخطب وتفظيعِ الحال .


[209]:قائلة ساعدة بن جؤيّة (بجيم معجمة وهمز بعدها، لا حويّة كما ذكر هنا وكما يرد في عدد من المصادر على سبيل التصحيف). وهو شاعر هذلي من مخضرمي الجاهلية والإسلام أسلم وليست له صحبه. قال الآمدي: شعره محشوّ بالغريب والمعاني الغامضة. (الأعلام: 3/70). والبيت ورد في لسان العرب (فرط، صفن، خرص، سأب). والصفن: شيء مثل الدلو أو الركوة. والأخراص: جمع خرص، وهو العود يشار به العسل. والمسأب: الزقّ: أو وعاء يجعل فيه العسل. والشاعر هنا يصف مُشتار العسل، أي الذي يستخرج العسل من الخلية.
[210]:الجمّاء من الحيوان: التي لا قرون لها، بخلاف القرناء. والمراد أنه يأخذ للضعيف (الجمّاء) من القوي (القرناء).