119- لكن الذين رحمهم الله لسلامة فِطَرِهم ، فإنهم اتفقوا على حُكم الله فيهم ، فآمنوا بجميع رسله وكتبه واليوم الآخر . ولهذه المشيئة التي اقتضتها حكمته تعالى في نظام هذا العالم ، خلقهم الله سبحانه مستعدين لهذا الثواب والعقاب ، وبهذا يتحقق وعد ربك بأنه لا بد من أن يملأ جهنم من أتباع إبليس من الجن والناس .
شاء الله ألا يكون الناس أمة واحدة . فكان من مقتضى هذا أن يكونوا مختلفين . وأن يبلغ هذا الاختلاف أن يكون في أصول العقيدة - إلا الذين أدركتهم رحمة الله - الذين اهتدوا إلى الحق - والحق لا يتعدد - فاتفقوا عليه . وهذا لا ينفي أنهم مختلفون مع أهل الضلال .
( وتمت كلمة ربك : لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ) . .
يفهم أن الذين التقوا على الحق وأدركتهم رحمة الله لهم مصير آخر هو الجنة تمتليء بهم كما تمتليء جهنم بالضالين المختلفين مع أهل الحق ، والمختلفين فيما بينهم على صنوف الباطل ومناهجه الكثيرة !
وقوله : { ولذلك خلقهم } اختلف فيه المتأولون ، فقالت فرقة : ولشهود اليوم المشهود - المتقدم ذكره- خلقهم ، وقالت فرقة : ذلك إشارة إلى قوله - قبل - { فمنهم شقي وسعيد } [ هود : 105 ] أي لهذا خلقهم .
قال القاضي أبو محمد : وهذان المعنيان وإن صحا فهذا العود المتباعد ليس بجيد ؛ وروى أشهب عن مالك أنه قال : ذلك إشارة إلى أن يكون فريق في الجنة وفريق في السعير .
قال القاضي أبو محمد : فجاءت الإشارة بذلك إلى الأمرين : الاختلاف والرحمة وقد قاله ابن عباس واختاره الطبري ، ويجيء - عليه - الضمير في { خلقهم } للصنفين ، وقال مجاهد وقتادة ذلك عائد على الرحمة التي تضمنها قوله : { إلا من رحم } ، أي وللرحمة خلق المرحومين ، قال الحسن ، وذلك إشارة إلى الاختلاف الذي في قوله : { ولا يزالون مختلفين } .
قال القاضي أبو محمد : ويعترض هذا بأن يقال : كيف خلقهم للاختلاف ؟ وهل معنى الاختلاف هو المقصود بخلقهم ؟ فالوجه في الانفصال أن نقول : إن قاعدة الشرع أن الله عز وجل خلق خلقاً للسعادة وخلقاً للشقاوة ، ثم يسر كلاًّ لما خلق له ، وهذا نص في الحديث الصحيح{[6540]} وجعل بعد ذلك الاختلاف في الدين على الحق هو أمارة الشقاوة وبه علق العقاب ، فيصح أن يحمل قوله هنا{[6541]} وللاختلاف خلقهم : أي لثمرة الاختلاف وما يكون عنه من الشقاوة . ويصح أن يجعل اللام في قوله : { ولذلك } لام الصيرورة أي وخلقهم ليصير أمرهم إلى ذلك ، وإن لم يقصد بهم الاختلاف .
قال القاضي أبو محمد : ومعنى قوله { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون }{[6542]} أي لآمرهم بالعبادة ، وأوجبها عليهم{[6543]} ، فعبر عن ذلك بثمرة الأمر ومقتضاه .
وقوله ، { وتمت كلمة ربك } أي نفذ قضاؤه وحق أمره ، واللام في { لأملأن } لام قسم إذ «الكلمة » تتضمن القسم{[6544]} . و «الجن » جمع لا واحد له من لفظه وهو من أجن إذا ستر و «الهاء » في { بالجنة } للمبالغة . وإن كان الجن يقع على الواحد فالجنة جمعه{[6545]} .
لمّا أشعر الاختلاف بأنه اختلاف في الدّين ، وأنّ معناه العدول عن الحق إلى الباطل ، لأنّ الحق لا يقبل التعدّد والاختلاف ، عُقّب عموم { ولا يزالون مختلفين } باستثناء من ثبتوا على الدين الحق ولم يخالفوه بقوله : { إلاّ من رحم ربك } ، أي فعصمهم من الاختلاف .
وفهم من هذا أنّ الاختلاف المذموم المحذّر منه هو الاختلاف في أصول الدّين الذي يترتّب عليه اعتبار المخالف خارجاً عن الدين وإن كان يزعم أنّه من مُتّبعيه ، فإذا طرأ هذا الاختلاف وجب على الأمّة قصمه وبذل الوسع في إزالته من بينهم بكلّ وسيلة من وسائل الحقّ والعدل بالإرشاد والمجادلة الحسنة والمناظرة ، فإنْ لم ينجع ذلك فبالقتال كما فعل أبو بكر في قتال العرب الذين جحدوا وجوب الزكاة ، وكما فعل عليّ كرّم الله وجهه في قتال الحروريّة الذين كفّروا المسلمين . وهذه الآية تحذير شديد من ذلك الاختلاف .
وأما تعقيبه بقوله : { ولذلك خلقهم } فهو تأكيد بمضمون { ولا يزالون مختلفين } . والإشارة إلى الاختلاف المأخوذ من قوله : { مختلفين } ، واللاّم للتعليل لأنّه لمّا خلقهم على جِبِلّة قاضية باختلاف الآراء والنزعات وكان مريداً لمقتضى تلك الجبلّة وعالماً به كما بيّناه آنفاً كان الاختلاف علّة غائية لخلقهم ، والعلّة الغائية لا يلزمها القصر عليها بل يكفي أنها غاية الفعل ، وقد تكون معها غايات كثيرة أخرى فلا ينافي ما هنا قولُه : { وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] لأنّ القصر هنالك إضافيّ ، أي إلاّ بحالة أن يعبدوني لا يشركوا ، والقصر الإضافي لا ينافي وجود أحوال أخرى غير ما قُصدَ الردّ عليه بالقصر كما هو بيّن لمن مارس أساليب البلاغة العربية .
وتقديم المعمول على عامله في قوله : { ولذلك خلقهم } ليس للقصر بل للاهتمام بهذه العلّة ، وبهذا يَندفع ما يوجب الحيرة في التفسير في الجمع بين الآيتين .
ثم أعقب ذلك بقوله : { وتمّت كلمة ربّك لأملأنّ جهنم من الجِنّة والنّاس أجمعين } لأنّ قوله : { إلاّ من رحم ربّك } يؤذن بأنّ المستثنى منه قوم مختلفون اختلافاً لا رحمة لهم فيه ، فهو اختلاف مضاد للرحمة ، وضدّ النعمة النقمة فهو اختلاف أوجب الانتقام .
وتمام كلمة الرب مجاز في الصّدق والتحقّق ، كما تقدّم عند قوله تعالى : { وتمّت كلمات ربّك صدقاً وعدلاً } في سورة [ الأنعام : 115 ] ، فالمختلفون هم نصيب جهنم .
والكلمة هنا بمعنى الكلام . فكلمة الله : تقديره وإرادته . أطلق عليها كلمة } مجازاً لأنّها سبب في صدور كلمة ( كن ) وهي أمر التكوين . وتقدّم تفصيله في قوله تعالى : { وتمّت كلمات ربّك صدقاً وعدلاً } في سورة [ الأنعام : 115 ] .
وجملة { لأملأنّ جهنّم } تفسير للكلمة بمعنى الكلام . وذلك تعبير عن الإرادة المعبّر عنها بالكلام النفسي .
ويجوز أن تكون الكلمة كلاماً خَاطَبَ به الملائكةَ قبل خلق الناس فيكون { لأمْلأنّ جهنّم } تفسيراً ل { كلمة } .
و { من الجِنّة والنّاس } تبعيض ، أي لأمْلأن جهنم من الفريقين . و { أجمعين } تأكيد لشمول تثنية كِلا النوعين لاَ لِشُمُول جميع الأفراد لمنافاته لمعنى التبعيض الذي أفادته { من } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.