المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَإِذَا جَآءَتۡهُمۡ ءَايَةٞ قَالُواْ لَن نُّؤۡمِنَ حَتَّىٰ نُؤۡتَىٰ مِثۡلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ ٱللَّهِۘ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ حَيۡثُ يَجۡعَلُ رِسَالَتَهُۥۗ سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ أَجۡرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعَذَابٞ شَدِيدُۢ بِمَا كَانُواْ يَمۡكُرُونَ} (124)

124- وإن هؤلاء الكبار من المجرمين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من علم ونبوة وهداية ، فإذا جاءتهم حُجة قاطعة لا يذعنون لها ، ولكن يقولون : لن نذعن للحق حتى ينزل علينا الوحي كما ينزل على الرسل ، والله - وحده - هو الذي يصطفي لرسالته من يشاء من خلقه ، وإن هؤلاء المعاندين إذا كانوا يطلبون الرياسة بهذا العناد ، فسينالهم الصَغار والذل في الدنيا بسببه ، وسينالهم العذاب الشديد في الآخرة بسبب تدبيرهم السيئ .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِذَا جَآءَتۡهُمۡ ءَايَةٞ قَالُواْ لَن نُّؤۡمِنَ حَتَّىٰ نُؤۡتَىٰ مِثۡلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ ٱللَّهِۘ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ حَيۡثُ يَجۡعَلُ رِسَالَتَهُۥۗ سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ أَجۡرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعَذَابٞ شَدِيدُۢ بِمَا كَانُواْ يَمۡكُرُونَ} (124)

114

ثم يكشف السياق القرآني عن طبيعة الكبر في نفوس أعداء رسل الله ودينه . . الكبر الذي يمنعهم من الإسلام ؛ خيفة أن يرجعوا عباداً لله كسائر العباد ، فهم يطلبون امتيازاً ذاتياً يحفظ لهم خصوصيتهم بين الأتباع . ويكبر عليهم أن يؤمنوا للنبي فيسلموا له ، وقد تعودوا أن يكونوا في مقام الربوبية للأتباع ، وأن يشرعوا لهم فيقبلوا منهم التشريع ، وأن يأمروهم فيجدوا منهم الطاعة والخضوع . . من أجل ذلك يقولون قولتهم المنكرة الغبية كذلك : لن نؤمن حتى نؤتي مثلما أوتي رسل الله :

( وإذا جاءتهم آية قالوا : لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله ) .

وقد قال الوليد بن المغيرة : لو كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك ، لأني أكبر منك سنا ، وأكثر منك مالا ! وقال أبو جهل : والله لا نرضى به ولا نتبعه أبداً ، إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه !

وواضح أن الكبر النفسي ، وما اعتاده الأكابر من الخصوصية بين الأتباع ، ومظهر هذه الخصوصية الأول هو الأمر منهم والطاعة والاتباع من الأتباع ! . . واضح أن هذا من أسباب تزيين الكفر في نفوسهم ، ووقوفهم من الرسل والدين موقف العداء .

ويرد الله على قولتهم المنكرة الغبية . . أولا بتقرير أن أمر اختيار الرسل للرسالة موكول إلى علمه المحيط بمن يليق بهذا الأمر الكوني الخطير . . ويرد عليهم ثانيا بالتهديد والتحقير وسوء المصير :

( الله أعلم حيث يجعل رسالته . سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون ) . .

إن الرسالة أمر هائل خطير . أمر كوني تتصل فيه الإرادة الأزلية الأبدية بحركة عبد من العبيد . ويتصل فيه الملأ الأعلى بعالم الإنسان المحدود . وتتصل فيه السماء بالأرض ، والدنيا بالآخرة ، ويتمثل فيه الحق الكلي ، في قلب بشر ، وفي واقع ناس ، وفي حركة تاريخ . وتتجرد فيها كينونة بشرية من حفظ ذاتها لتخلص لله كاملة ، لا خلوص النية والعمل وحده ، ولكن كذلك خلوص المحل الذي يملؤه هذا الأمر الخطير . فذات الرسول [ ص ] تصبح موصولة بهذا الحق ومصدره صلة مباشرة كاملة . وهي لا تتصل هذه الصلة إلا أن تكون من ناحية عنصرها الذاتي صالحة للتلقي المباشر الكامل بلا عوائق ولا سدود . .

والله وحده - سبحانه - هو الذي يعلم أين يضع رسالته ، ويختار لها الذات التي تنتدب من بين ألوف الملايين ، ويقال لصاحبها : أنت منتدب لهذا الأمر الهائل الخطير .

والذين يتطلعون إلى مقام الرسالة ؛ أو يطلبون أن يؤتوا مثل ما أوتي الرسول . . هم أولا من طبيعة لا تصلح أساساً لهذا الأمر . فهم يتخذون من ذواتهم محوراً للوجود الكوني ! والرسل من طبيعة أخرى ، طبيعة من يتلقى الرسالة مستسلماً ، ويهب لها نفسه ، وينسى فيها ذاته ، ويؤتاها من غير تطلع ولا ارتقاب : ( وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب ، إلا رحمة من ربك ) . . ثم هم بعد ذلك جهال لا يدركون خطورة هذا الأمر الهائل ، ولا يعلمون أن الله وحده هو الذي يقدر بعلمه على اختيار الرجل الصالح . .

لذلك يجيبهم الرد الحاسم :

( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) . .

وقد جعلها سبحانه حيث علم ، واختار لها أكرم خلقه وأخلصهم ، وجعل الرسل هم ذلك الرهط الكريم ، حتى انتهت إلى محمد خير خلق الله وخاتم النبيين .

ثم التهديد بالصغار والهوان على الله ، وبالعذاب الشديد المهين :

( سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون ) . .

والصغار عند الله يقابل الاستعلاء عند الأتباع ، والاستكبار عن الحق ، والتطاول إلى مقام رسل الله ! . .

والعذاب الشديد يقابل المكر الشديد ، والعداء للرسل ، والأذى للمؤمنين .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِذَا جَآءَتۡهُمۡ ءَايَةٞ قَالُواْ لَن نُّؤۡمِنَ حَتَّىٰ نُؤۡتَىٰ مِثۡلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ ٱللَّهِۘ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ حَيۡثُ يَجۡعَلُ رِسَالَتَهُۥۗ سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ أَجۡرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعَذَابٞ شَدِيدُۢ بِمَا كَانُواْ يَمۡكُرُونَ} (124)

هذه الآية آية ذم للكفار وتوعد لهم ، يقول وإذا جاءتهم علامة ودليل على صحة الشرع تشططوا وتسحبوا وقالوا : إنما يفلق لنا البحر ، إنما يحيي لنا الموتى ونحو ذلك{[5079]} ، فرد الله عز وجل عليهم بقوله : { الله أعلم حيث يجعل رسالاته } أي فيمن اصطفاه وانتخبه لا فيمن كفر وجعل يتشطط على الله ، قال الزجاج : قال بعضهم : الأبلغ في تصديق الرسل أن لا يكونوا قبل المبعث مطاعين في قومهم ، و { أعلم } معلق العمل ، والعامل في { حيث } فعل تقديره : يعلم حيث{[5080]} ، ثم توعد تعالى بأن هؤلاء المجرمين الأكابر في الدنيا سيصيبهم عند الله صغار وذلة ، و { عند الله } متعلقة ب { سيصيب } ، ويصح أن تتعلق ب { صغاراً } لأنه مصدر ، قال الزجّاج : التقدير صغار ثابت عند الله ، قال أبو علي : وهو متعلق ب { صغار } دون تقدير ثابت ولا شيء غيره .


[5079]:- أي: طلبوا المستحيل وعلقوا إيمانهم على ممتنع وقصدوا بذلك أنهم لا يؤمنون أبدا. قال أبو حيان: "وقولهم: [رسل الله] ليس فيه إقرار بالرسل من الله، وإنما قالوا ذلك على سبيل التهكم والاستهزاء، ولو كانوا موقنين وغير معاندين لاتبعوا رسل الله" أي: لو كانوا يؤمنون بهؤلاء الرسل لاتبعوهم.
[5080]:- ذلك لأنه لا يجوز أن يعلم [أعلم] في [حيث] ويكون ظرفا، لأن المعنى على ذلك يكون: الله أعلم في هذه المواضع، وذلك لا يجوز أن يوصف به الباري سبحانه وتعالى، ولهذا عمل في [حيث] فعل مقدر دل عليه [أعلم] .قاله العلماء، قال الحوفي: [حيث] لا يمكن إقرارها على الظرفية هنا، لأنه تعالى لا يكون في مكان أعلم منه في مكان، وإذا لم تكن ظرفا كانت مفعولا على السعة، و[أعلم] لا يعمل في المفعولات، فيكون العامل فيه فعل دلّ عليه [أعلم]. نقله في "البحر" عن الحوفي.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِذَا جَآءَتۡهُمۡ ءَايَةٞ قَالُواْ لَن نُّؤۡمِنَ حَتَّىٰ نُؤۡتَىٰ مِثۡلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ ٱللَّهِۘ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ حَيۡثُ يَجۡعَلُ رِسَالَتَهُۥۗ سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ أَجۡرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعَذَابٞ شَدِيدُۢ بِمَا كَانُواْ يَمۡكُرُونَ} (124)

{ وَإِذَا جَآءَتْهُمْ ءَايَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَآ أُوتِىَ رُسُلُ الله } .

عطف على جملة : { جعلنا في كلّ قرية أكابر مجرميها } [ الأنعام : 123 ] لأنّ هذا حديث عن شيء من أحوال أكابر مجرمي مكّة ، وهم المقصود من التّشبيه في قوله : { وكذلك جعلنا في كلّ قرية أكابر مجرميها . ومكّة هي المقصود من عموم كلّ قرية كما تقدّم ، فالضّمير المنصوب في قوله : { جاءتهم } عائدٌ إلى { أكابر مجرميها } [ الأنعام : 123 ] ، باعتبار الخاصّ المقصود من العموم ، إذ ليس قولُ : { لن نؤمن حتى نؤتي مثل ما أوتي رسل الله } بمنسوب إلى جميع أكابر المجرمين من جميع القرى .

والمعنى : إذا جاءتهم آية من آيات القرآن ، أي تُليت عليهم آية فيها دعوتهم إلى الإيمان . فعبّر بالمجيء عن الإعلام بالآية أو تلاوتها تشبيها للإعلام بمجيء الدّاعي أو المرسل . والمراد أنَّهم غير مقتنعين بمعجزة القرآن ، وأنَّهم يطْلبون معجزات عَيْنية مثل معجزة موسى ومعجزة عيسى ، وهذا في معنى قولهم : { فليأتنا بآية كما أرسل الأوّلون } [ الأنبياء : 5 ] لجهلهم بالحكمة الإلهيّة في تصريف المعجزات بما يناسب حال المرسل إليهم ، كما حكى الله تعالى : { وقَالوا لولا أنزل عليه آيات من ربّه قل إنَّما الآيات عند الله وإنَّما أنا نذير مبين أو لم يكفهم أنَّا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إنّ في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون } [ العنكبوت : 50 ، 51 ] ؛ وقال النّبيء صلى الله عليه وسلم « ما من الأنبياء نبيء إلاّ أعطي من الآيات ما مِثْلُه آمنَ عليه البشر ، وإنَّما كان الّذي أوتيتُ وحياً أوحى الله إليّ » الحديث .

وأطلق على إظهار المعجزة لديهم بالإيتاء في حكاية كلامهم إذ قيل : { حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله } لأنّ المعجزة لمّا كانت لإقناعهم بصدق الرّسول عليه الصّلاة والسلام أشبهت الشّيء المعطى لهم .

ومعنى : { مثل ما أوتى رسل الله } مثل ما أتَى اللَّهُ الرّسلَ من المعجزات الّتي أظهروها لأقوامهم . فمرادهم الرّسل الّذين بَلغتهم أخبارهم . وقيل : قائل ذلك فريق من كبراء المشركين بمكّة ، قال الله تعالى : { بل يريد كل امرىء منهم أن يُؤتى صحفاً مُنَشَّرة } [ المدثر : 52 ] . روي أنّ الوليد بن المغيرة ، قال للنّبيء صلى الله عليه وسلم لو كانت النّبوءةُ لكنتُ أولى بها منكَ لأنّي أكبرُ منك سِنّا وأكثر مالاً وولداً ؛ وأنّ أبا جهل قال : زاحمَنا ( يعني بني مخزوم ) بنو عبد مناف في الشّرف ، حتّى إذا صرنا كفَرسَيْ رِهانٍ قالوا : مِنّا نبيء يُوحى إليه ، والله لا نرضى به ولا نتّبعه أبداً إلاّ أن يأتينا وحي كما يأتيه . فكانت هذه الآية مشيرة إلى ما صدر من هذين ، وعلى هذا يكون المراد حتّى يأتينا وَحْي كما يأتي الرّسلَ .

أو يكون المراد برسل الله جميع الرّسل ، فعدلوا عن أن يقولوا مثل ما أوتي محمّد صلى الله عليه وسلم لأنّهم لا يؤمنون بأنّه يأتيه وحي .

ومعنى { نؤتى } على هذا الوجه نعطى مثل ما أعطي الرّسل ، وهو الوحي . أو أرادوا برسل الله محمّداً صلى الله عليه وسلم فعبّروا عنه بصيغة الجمع تعريضاً ، كما يقال : إنّ ناساً يقولون كذا ، والمراد شخص معيّن ، ومنه قوله تعالى : { كذبت قوم نوح المرسلين } [ الشعراء : 105 ] ونحوه ، ويكون إطلاقهم عليه : { رسل الله } تهكّماً به صلى الله عليه وسلم كما حكاه الله عنهم في قوله : { وقالوا يأيُّها الذي نُزِّل عليه الذكر إنَّك لمجنون } [ الحجر : 6 ] وقوله : { إنّ رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون } [ الشعراء : 27 ] .

{ الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } .

اعتراض للردّ على قولهم : { حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله } على كلا الاحتمالين في تفسير قولهم ذلك .

فعلى الوَجه الأوّل : في معنى قولهم : { حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله } يكون قوله : { الله أعلم حيث يجعل رسالته } ردّاً بأنّ الله أعلم بالمعجزات اللائقة بالقوم المرسَل إليهم ؛ فتكون { حيث } مجازاً في المكان الاعتباري للمعجزة ، وهم القوم الذين يُظهرها أحد منهم ، جُعلوا كأنَّهم مكان لظهور المعجزة . والرّسالات مطلقة على المعجزات لأنَّها شبيهة برسالة يرسلها الله إلى النّاس ، وقريب من هذا قول علماء الكلام : وجهُ دلالة المعجزة على صدق الرّسول صلى الله عليه وسلم أنّ المعجزة قائمة مقام قول الله : « صدق هذا الرسولُ فيما أخبر به عني » بأمارةِ أنِّي أخرق العادة دليلاً على تصديقه .

وعلى الوجه الثّاني : في معنى قولهم : { حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله } ، يكون قوله : { الله أعلم حيث يجعل رسالته } ردّاً عليهم بأنّ الرّسالة لا تُعطى بسؤال سائِلها ، مع التّعريض بأنّ أمثالهم ليسوا بأهل لها ، فما صْدَقُ { حيث } الشّخصُ الّذي اصطفاه الله لرسالته .

و { حيث } هنا اسم دالّ على المكان مستعارة للمبعوث بالرّسالة ، بناء على تشبيه الرّسالة بالوديعة الموضوعة بمكان أمانة ، على طريقة الاستعارة المكنيّة . وإثباتُ المكان تخييل ، وهو استعارة أخرى مصرّحة بتشبيه الرّسل بمكان إقامة الرّسالة . وليست { حيث } هنا ظرفاً بل هي اسم للمكان مجرّد عن الظرفية ، لأنّ { حيث } ظرف متصرّف ، على رأي المحقّقين من النّحاة ، فهي هنا في محلّ نصب بنزع الخافض وهو الباء ، لأن { أعلم } اسم تفضيل لا ينصب المفعول ، وذلك كقوله تعالى : { إنّ ربّك هو أعلم من يضلّ عن سبيله } [ الأنعام : 117 ] كما تقدّم آنفاً .

وجملة { يجعل رسالته } صفة ل { حيث } إذا كانت { حيث } مجرّدة عن الظرفية . ويتعيّن أن يكون رابط جملة الصّفة بالموصوف محذوفاً ، والتّقدير : حيث يجعل فيه رسالاته .

وقد أفادت الآية : أنّ الرّسالة ليست ممّا يُنال بالأماني ولا بالتشهّي ، ولكن الله يعلم مَن يصلح لها ومن لا يصلح ، ولو علم من يصلح لها وأراد إرساله لأرسله ، فإنّ النّفوس متفاوتة في قبول الفيض الإلهي والاستعداد له والطّاقة على الاضطلاع بحمله ، فلا تصلح للرّسالة إلاّ نفس خُلقت قريبة من النّفوس الملكيّة ، بعيدة عن رذائل الحيوانية ، سليمة من الأدواء القلبية .

فالآية دالّة على أنّ الرّسول يُخلق خِلقة مناسبة لمراد الله من إرساله ، والله حين خلقه عالم بأنّه سَيرسله ، وقد يخلق الله نفوساً صالحة للرّسالة ولا تكون حكمةٌ في إرسال أربابها ، فالاستعداد مهيِّيء لاصطفاء الله تعالى ، وليس موجِبا له ، وذلك معنى قول بعض المتكلّمين : إنّ الاستعداد الذّاتي ليس بموجب للرّسالة خلافاً للفلاسفة ، ولعلّ مراد الفلاسفة لا يبعد عن مراد المتكلّمين . وقد أشار ابنُ سينا في « الإشارات » إلى شيء من هذا في النّمط التّاسع .

وفي قوله : { الله أعلم حيث يجعل رسالته } بيان لعظيم مقدار النبي صلى الله عليه وسلم وتنبيه لانحطاط نفوس سادة المشركين عن نوال مرتبة النّبوءة وانعدام استعدادهم ، كما قيل في المثل « ليس بعُشِّكِ فادْرُجي » .

وقرأ الجمهور : { رسالاته } بالجمع وقرأ ابن كثير ، وحفص عن عاصم بالإفراد ولمّا كان المراد الجنس استوى الجمع والمفرد .

{ سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ الله وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ } .

استئناف ناشىء عن قوله : { ليمكروا فيها } [ الأنعام : 123 ] وهو وعيد لهم على مكرهم وقولهم : { لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله } .

فالمراد بالّذين أجرموا أكابر المجرمين من المشركين بمكّة بقرينة قوله : { بما كانوا يمكرون } فإنّ صفة المكر أثبتت لأكابر المجرمين في الآية السّابقة ، وذكرهم ب { الّذين أجرموا } إظهار في مقام الإضمار لأنّ مقتضى الظاهر أنّ يقال : سيصيبهم صغار ، وإنَّما خولف مقتضى الظاهر للإتيان بالموصول حتّى يوميء إلى علّة بناء الخبر على الصّلة ، أي إنَّما أصابهم صغار وعذاب لإجرامهم .

والصّغَار بفتح الصّاد الذلّ ، وهو مشتقّ من الصِّغَر ، وهو القماءة ونقصان الشيء عن مقدار أمثاله .

وقد جعل الله عقابهم ذلاّ وعذاباً : ليناسب كِبْرهم وعُتُوّهم وعصيانهم الله تعالى . والصّغار والعذاب يحصلان لهم في الدّنيا بالهزيمة وزوال السّيادة وعذاب القتل والأسر والخوف ، قال تعالى : { قُل هل تربصون بنا إلاّ إحدى الحسنيين ونحن نتربّص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا } [ التوبة : 52 ] وقد حصل الأمران يوم بدر ويوم أحُد ، فهلكت سادة المشركين ، وفي الآخرة بإهانتهم بين أهل المحشر ، وعذابهم في جهنم .

ومعنى { عند الله } أنَّه صغار مقدّر عند الله ، فهو صغار ثابت محقّق ، لأنّ الشّيء الّذي يجعله الله تعالى يحصل أثره عند النّاس كلّهم ، لأنَّه تكوين لا يفارق صاحبه ، كما ورد في الحديث : " إنّ الله إذا أحبّ عبداً أمر جبريل فأحبّه ثمّ أمر الملائكة فأحبّوه ثمّ يوضع له القبول عند أهل الأرض " فلا حاجة إلى تقدير ( مِنْ ) في قوله : { عند الله } ، ولا إلى جعل العندية بمعنى الحصول في الآخرة كما درج عليه كثير من المفسّرين .

والباء في : { بما كانوا يمكرون } سببيّة . و ( ما ) مصدريّة : أي بسبب مكرهم ، أي فعلهم المكر ، أو موصولة : أي بسبب الّذي كانوا يمكرونه ، على أنّ المراد بالمكر الاسم ، فيقدر عائدٌ منصوبٌ هو مفعول به محذوف .