محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَإِذَا جَآءَتۡهُمۡ ءَايَةٞ قَالُواْ لَن نُّؤۡمِنَ حَتَّىٰ نُؤۡتَىٰ مِثۡلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ ٱللَّهِۘ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ حَيۡثُ يَجۡعَلُ رِسَالَتَهُۥۗ سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ أَجۡرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعَذَابٞ شَدِيدُۢ بِمَا كَانُواْ يَمۡكُرُونَ} (124)

[ 124 ] { وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون ( 124 ) } .

{ وإذا جاءتهم آية } أي : برهان وحجة قاطعة { قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله } أي : من الوحي والمعجزات المصدق له . كقوله تعالى : { وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا . . . } {[3678]} الآية . وقوله سبحانه : { بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة }{[3679]} .

{ الله أعلم حيث يجعل رسالته } كلام مستأنف للإنكار عليهم ، وأن لا يصطفي للنبوة إلا من علم أنه يصلح لها ، فيليق للاستشراق بأنوار علمه ، والأمانة على مكنون سره ، مما لو انكشف لغيره انكشافه له ، لفاضت له نفسه ، أو ذهبت بعقله جلالته وعظمته ، فهو أعلم بالمكان الذي يضعها فيه منهم .

وقد روى الإمام أحمد{[3680]} عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله عز وجل اصطفى من ولد إبراهيم ، إسماعيل . واصطفى من بني إسماعيل ، بني / كنانة . واصطفى من بني كنانة ، قريشا ، واصطفى من قريش ، بني هاشم . واصطفاني من بني هاشم " . وانفرد بإخراجه مسلم{[3681]} أيضا . .

وروى الإمام أحمد{[3682]} عن المطلب بن أبي وداعة عن العباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه ، وجعلهم فرقتين ، فجعلني في خير فرقة . وخلق القبائل ، فجعلني في خير قبيلة . وجعلهم بيوتا ، فجعلني في خيرهم بيتا ، فأنا خيركم بيتا وخيركم نفسا " .

{ سيصيب الذين أجرموا صغار } أي : ذلة وهوان بعد كبرهم وعظمتهم { عند الله } أي : يوم القيامة ، جزاء على منازعتهم له تعالى في كبره برد آياته ورسالته ، واعتراضهم عليه في تخصيصه بالرسالة غيرهم ، { وعذاب شديد } يعني : في الآخرة . { بما كانوا يمكرون } في الدنيا إضرارا بالأنبياء .

قال ابن كثير : لما كان المكر غالبا ، إنما يكون خفيا ، وهو التلطف في التحيل والخديعة ، قوبلوا بالعذاب الشديد من الله يوم القيامة ، جزاء وفاقا . ولا يظلم ربك أحدا . وجاء في ( الصحيحين ) {[3683]} عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ينصب لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة ، فيقال : هذه غدرة فلان بن فلان ؟ .

/ والحكمة في هذا ، أنه لما كان الغدر خفيا لا يطلع عليه الناس ، فيوم القيامة يصير عَلَمًا منشورا على صاحبه بما فعل . انتهى .


[3678]:- [25/ الفرقان/ 21] {...لقد استكبروا في أنفسهم وعتو عتوا كبيرا}
[3679]:- [74/ المدثر/ 52].
[3680]:- أخرجه في المسند بالصفحة رقم 107 من الجزء الرابع (طبعة الحلبي).
[3681]:- وأخرجه مسلم في: 43- كتاب الفضائل، حديث رقم 1 (طبعتنا).
[3682]:- أخرجه في المسند بالصفحة رقم 210 من الجزء الأول (طبعة الحلبي) والحديث رقم 1788 (طبعة المعارف) ونصه: قال العباس: بلغه صلى الله عليه وسلم بعض ما يقول الناس. قال فصعد المنبر فقال: "من أنا؟ قالوا: أنت رسول الله. فقال: انا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب. إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه، وجعلهم فرقتين، فجعلني في خير فرقة. وخلق القبائل، فجعلني في خير قبيلة. وجعلهم بيوتات، فجعلني في خيرهم بيتا، فأنا خيركم بيت وخيركم نفسا".
[3683]:- هذا الحديث أخرجه البخاري: عن ابن مسعود وأنس في: 58- كتاب الجزية والموادعة، 22- باب إثم الغادر للبر والفاجر، حديث رقم 1503 و1504. وأخرجه عن ابن عمر في هذا الباب، حديث رقم 1505. وعن ابن عمر أيضا في: 78- كتاب الأدب، 99- باب ما يدعى الناس بآبائهم، من طريقين. وفي: 90- كتاب الحيل، 9- باب إذا غصب جارية فزعم أنها ماتت. وفي: 92- كتاب الفتن، 21- باب إذا قال عند قوم شيئا، ثم خرج فقال بخلافه. وأخرجها مسلم في: 32- كتاب الجهاد، حديث 9- 14 (طبعتنا). وفي هذه الأحاديث كلهن لم ترد (عند استه). أما الحديث الذي وردت به، فهو ما انفرد به مسلم وأخرجه في: 32- كتاب الجهاد، حديث 15- (طبعتنا) عن أبي سعيد الخدري.