( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً )
أما اللمسة الثانية ، فهي صورة مفزعة : صورة النار في البطون . . وصورة السعير في نهاية المطاف . . إن هذا المال . . نار . . وإنهم ليأكلون هذه النار . وإن مصيرهم لإلى النار فهي النار تشوي البطون وتشوي الجلود . هي النار من باطن وظاهر . هي النار مجسمة حتى لتكاد تحسها البطون والجلود ، وحتى لتكاد تراها العيون ، وهي تشوي البطون والجلود !
ولقد فعلت هذه النصوص القرآنية ، بإيحاءاتها العنيفة العميقة فعلها في نفوس المسلمين . خلصتها من رواسب الجاهلية . هزتها هزة عنيفة ألقت عنها هذه الرواسب . وأشاعت فيها الخوف والتحرج والتقوى والحذر من المساس - أي مساس - بأموال اليتامى . . كانوا يرون فيها النار التي حدثهم الله عنها في هذه النصوص القوية العميقة الإيحاء . فعادوا يجفلون أن يمسوها ويبالغون في هذا الإجفال !
من طريق عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : لما نزلت : ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ) . . الآية . . انطلق من كان عنده يتيم ، فعزل طعامه من طعامه ، وشرابه من شرابه ، فجعل يفضل الشيء ، فيحبس له ، حتى يأكله أو يفسد . فاشتد ذلك عليهم . فذكروا ذلك لرسول الله [ ص ] فأنزل الله : ( ويسألونك عن اليتامى . قل : إصلاح لهم خير ، وإن تخالطوهم فإخوانكم . والله يعلم المفسد من المصلح ، ولو شاء الله لأعنتكم . . )الآية فخلطوا طعامهم بطعامهم ، وشرابهم بشرابهم . .
وكذلك رفع المنهج القرآني هذه الضمائر ، إلى ذلك الأفق الوضيء ؛ وطهرها من غبش الجاهلية ذلك التطهير العجيب . .
{ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما } ظالمين ، أو على وجه الظلم . { إنما يأكلون في بطونهم } ملء بطونهم . { نارا } ما يجر إلى النار ، ويؤول إليها . وعن أبي بردة رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال : " يبعث الله قوما من قبورهم تتأجج أفواههم نارا " . فقيل : من هم ؟ فقال : " ألم تر أن الله يقول : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا } { وسيصلون سعيرا } سيدخلون نارا وأي نار " . وقرأ ابن عامر وابن عياش عن عاصم بضم الياء مخففا . وقرئ به مشددا يقال صلى النار قاسى حرها ، وصليته شويته وأصليته وصليته ألقيته فيها ، والسعير فعيل بمعنى مفعول من سعرت النار إذا ألهبتها .
جملة معترضة تفيد تكرير التحذير من أكل مال اليتامى ، جرّتهُ مناسبة التعرّض لقسمة أموال الأموات ، لأنّ الورثة يكثر أن يكون فيهم يتامى لكثرة تزوّج الرجال في مدّة أعمارهم ، فقلّما يخلو ميِّت عن ورثة صغار ، وهو مؤذن بشدّة عناية الشارع بهذا الغرض ، فلذلك عاد إليه بهذه المناسبة .
وقوله : { ظلماً } حال من { يأكلون } مقيِّدة ليخرج الأكلُ المأذون فيه بمثل قوله : { ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف } [ النساء : 6 ] ، فيكون كقوله : { ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } [ النساء : 29 ] .
ثم يجوز أن يكون ( نارا ) من قوله : { إنما يأكلون في بطونهم ناراً } مراداً بها نار جهنّم ، كما هو الغالب في القرآن ، وعليه ففِعْلُ { يأكلون } ناصب ( ناراً ) المذكور على تأويل يأكلون ما يفضي بهم إلى النار ، فأطلق النار مجازاً مرسلاً بعلاقة الأَوْل أو السببية أي ما يفضي بهم إلى عذاب جهنّم ، فالمعنى أنّهم حين يأكلون أموال اليتامى قد أكلوا ما يفضي بهم إلى جهنّم .
وعلى هذا فعطف جملة : { وسيصلون سعيراً } عَطْف مرادف لمعنى جملة { يأكلون في بطونهم ناراً } .
ويجوز أن يكون اسم النار مستعاراً للألم بمعنى أسباب الألم فيكون تهديداً بعذاب دنيوي أو مستعاراً للتلف لأنّ شأن النار أن تلتهم ما تصيبه ، والمعنى إنّما يأخذون أموالاً هي سبب في مصائب تعتريهم في ذواتهم وأموالهم كالنار إذا تدنو من أحد فتؤلمه وتتلف متاعه ، فيكون هذا تهديداً بمصائب في الدنيا على نحو قوله تعالى : { يمحق اللَّه الربا } [ البقرة : 276 ] ويكون عطف جملة { وسيصلون سعيراً } جارياً على ظاهر العطف من اقتضاء المغايرة بين المتعاطفين ، فالجملة الأولى تهديد بعذاب في الدنيا ، والجملة الثانية وعيد بعذاب الآخرة .
وذِكْرُ { في بطونهم } على كلا المعنيين مجرّد تخييل وترشيح لاستعارة { يأكلون } لمعنى يأخذون ويستحوذون .
والسين في { سيصلون } حرف تنفيس أي استقبال ، أي أنها تدخل على المضارع فتمحّضه للاستقبال ، سوءا كان استقبالاً قريباً أو بعيداً ، وهي مرادفة سوف ، وقيل : إنّ سوف أوسع زمانا . وتفيدان في مقام الوعد تحقيقَ الوعد وكذلك التوعّد .
ويَصْلَوْن مضارع صَلِي كرضي إذا قاسى حرّ النار بشدّة ، كما هنا ، يقال : صلى بالنار ، ويكثر حذف حرف الجرّ مع فعل صَلي ونصب الاسم بعده على نزع الخافض ، قال حُمَيْد بن ثور :
لا تَصْطَلي النارَ إلاّ يَجْمَرا أَرجَا *** قد كسَّرَت مِن يلجوج له وَقَصَا
وهو الوارد في استعمال القرآن باطراد .
وقرأ الجمهور : وسيَصلونَ بفتح التحتية مضارع صَلي ، وقرأه ابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم بضم التحتية مضارع أصلاه إذا أحرقه ومبنيا للنائب .
{ والسعير } النار المسعَّرة أي الملتهبة ، وهو فعيل بمعنى مفعول ، بني بصيغة المجرّد ، وهو من المضاعف ، كما بنى السميع من أَسْمَع ، والحكيم من أَحْكم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.