وفيما يشبه الإنكار يخاطب الرسول [ ص ] الذي كان يحزنه أن يكذب قومه بالقرآن ويعرضوا عن الهدى ، ويذهبوا في الطريق الذي يعلم [ ص ] أنه مود بهم إلى الهلاك . . فيما يشبه الإنكار يقول للرسول [ ص ] :
( فلعلك باخع نفسك على آثارهم . إن لم يؤمنوا بهذا الحديث . أسفا ) !
أي فلعلك قاتل نفسك أسفا وحزنا عليهم ، إن لم يؤمنوا بهذا القرآن . وما يستحق هؤلاء أن تحزن عليهم وتأسف .
{ فلعلّك باخع نفسك } قاتلها . { على آثارهم } إذا ولوا عن الإيمان ، لما يداخله من الوجد على توليهم بمن فارقته أعزته فهو يتحسر على آثارهم ويبخع نفسك وجدا عليهم . وقرئ { باخع نفسك } على الإضافة . { إن لم يؤمنوا بهذا الحديث } بهذا القرآن . { أسفا } للتأسف عليهم أو متأسفا عليهم ، والأسف فرط الحزن والغضب . وقرئ " أن " بالفتح على لأن فلا يجوز أعمال " باخع " إلا إذا جعل حكاية حال ماضية .
هذه الآية تسلية للنبي عليه السلام ، وقوله { فلعلك } تقرير وتوفيق بمعنى الإنكار عليه أي لا تكن كذلك ، و «الباخع نفسه » هو مهلكها وجداً وحزناً على أمر ما ، ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
ألا أيها ذا الباخع الوجد نفسه . . . لشيء نحته عن يديه المقادر{[7743]}
يريد نحته فخفف وقوله { على آثارهم } ، استعارة فصيحة ، من حيث لهم إدبار وتباعد عن الإيمان ، وإعراض عن الشرع فكأنهم من فرط إدبارهم قد بعدوا فهو في آثارهم يحزن عليهم ، وقوله { بهذا الحديث } أي بالقرآن الذي يحدثك به ، و { أسفاً } نصب على المصدر ، قال الزجاج : و «الأسف » المبالغة في حزن أو غضب .
قال القاضي أبو محمد : و «الأسف » في هذا الموضع الحزن ، لأنه على من لا يملكه ولا هو تحت يد الأسف ، ولو كان الأسف من مقتدر على من هو في قبضته وملكه لكان غضباً ، كقوله تعالى : { فلما آسفونا }{[7744]} [ الزخرف : 55 ] أي أغضبونا وإذا تأملت هذا في كلام العرب اطرد ، وذكره منذر بن سعيد وقال قتادة : هنا { أسفاً } غضباً ، قال مجاهد { أسفاً } جزعاً وقال قتادة أيضاً : حزناً ، ومن هذه اللفظة قول الأعشى : [ الطويل ]
أرى رجلاً منكم أسيفاً كأنما . . . يضم إلى كشحيه كفّاً مخضبا{[7745]}
تفريع على جملة { وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً } [ الكهف : 4 ] باعتبارهم مكذبين كافرين بقرينة مقابلة المؤمنين بهم في قوله : { وبشر المؤمنين } [ الكهف : 2 ] ثم قوله : { وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً } [ الكهف : 4 ] .
و ( لعل ) حقيقتها إنشاء الرجاء والتوقع ، وتستعمل في الإنكار والتحذير على طريقة المجاز المرسل لأنهما لا زمان لتوقع الأمر المكروه .
وهي هنا مستعملة في تحذير الرسول عليه الصلاة والسلام من الاغتمام والحزن على عدم إيمان من لم يؤمنوا من قومه . وذلك في معنى التسلية لقلة الاكتراث بهم .
والباخع : قاتل نفسه ، كذا فسره ابن عباس ومجاهد والسدّي وابن جبير . وفسره البخاري بمهلك . وتفسيره يرجع إلى أبي عبيدة .
وفي اشتقاقه خلاف ، فقيل مشتق من البِخاع بالباء الموحدة ( بوزن كتاب ) وهو عرق مستبطن في القفا فإذا بلغ الذابحُ البخاع فذلك أعمق الذبح ، قاله الزمخشري في قوله تعالى : لعلك باخع نفسك في سورة الشعراء ( 3 ) وانفرد الزمخشري بذكر هذا الاشتقاق في الكشاف } و « الفائق » و « الأساس » . قال ابن الأثير في « النهاية » : « بحثت في كتب اللغة والطب فلم أجد البِخاع بالموحدة » يعني أن الزمخشري انفرد بهذا الاشتقاق وبإثبات البخاع اسماً لهذا العرق . قلت : كفى بالزمخشري حجة فيما أثبته . وقد تبعه عليه المطرزي في « المُغرب » وصاحب « القاموس » . فالبخع : أصله أن يبلغ الذابح بالذبح إلى القفا ثم أطلق على القتل المشوب بغيظ .
والآثار : جمع أثر وهو ما يؤثره ، أي يُبقيه الماشي أو الراكب في الرمل أو الأرض من مواطىء أقدامه وأخفاف راحلته . والأثر أيضاً ما يبقيه أهل الدار إذا ترحلوا عنها من تافه آلاتهم التي كانوا يعالجون بها شؤونهم كالأوتاد والرماد .
وحرف ( على ) للاستعلاء المجازي فيجوز أن يكون المعنى : لعلك مهلك نفسك لأجل إعراضهم عنك كما يُعرض السائر عن المكان الذي كان فيه ، فتكون ( على ) للتعليل .
ويجوز أن يكون المعنى تمثيل حال الرسول صلى الله عليه وسلم في شدة حرصه على اتباع قومه له وفي غمه من إعراضهم . وتمثيل حالهم في النفور والإعراض بحال من فارقه أهله وأحبتُه فهو يرى آثار ديارهم ويحزن لفراقهم . ويكون حرف ( على ) ظرفاً مستقراً في موضع الحال من ضمير الخطاب ، ومعنى ( على ) الاستعلاء المجازي وهو شدة الاتصال بالمكان .
وكأن هذا الكلام سيق إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر أوقات رجائه في إيمانهم إيماء إلى أنهم غير صائرين إلى الإيمان ، وتهيئة نفسه أن تتحمل ما سيلقاه من عنادهم رأفة من ربه به ، ولذلك قال : { إن لم يؤمنوا بهذا الحديث } بصيغة الفعل المضارع المقتضية الحصول في المستقبل ، أي إن استمر عدم إيمانهم .
واسم الإشارة وبيانُه مراد به القرآن ، لأنه لحضوره في الأذهان كأنه حاضر في مقام نزول الآية فأشير إليه بذلك الاعتبار . وبُيّن بأنه الحديث .
والحديث : الخبر . وإطلاق اسم الحديث على القرآن باعتبار أنه إخبار من الله لرسوله ، إذ الحديث هو الكلام الطويل المتضمن أخباراً وقصصاً . سمي الحديث حديثاً باعتبار اشتماله على الأمر الحديث ، أي الذي حدث وجَد ، أي الأخبار المستجدة التي لا يعلمها المخاطب ، فالحديث فعيل بمعنى مفعول . وانظر ما يأتي عند قوله تعالى : { الله نزل أحسن الحديث } في سورة الزمر ( 23 ) .
وأسفاً } مفعول له من { باخع نفسك } أي قاتلها لأجل شدة الحزن ، والشرط معترض بين المفعولين ، ولا جواب له للاستغناء عن الجواب بما قَبْل الشرط .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.