233- وعلى الأمهات أن يقمن{[23]} بإرضاع أولادهن مدة عامين تامين مراعاة لمصلحة الطفل ، إذا طلب أحد الوالدين أو كلاهما استيفاء مدة الرضاعة تامة لاحتياج الولد إليها ، ويلزم الوالد - باعتبار الولد منسوباً إليه - بالإنفاق على الأمهات حينئذٍ بإطعامهن وكسوتهن على قدر طاقته بلا إسراف ولا تقتير . ولا ينبغي أن يُهضَم حق الأم في نفقتها أو حضانة ولدها ، كما لا ينبغي أن يكون الولد سبباً في إلحاق الضرر بأبيه بأن يكلف فوق طاقته أو يحرم حقه في ولده ، وإذا مات الأب أو كان فقيراً عاجزاً عن الكسب كانت النفقة على وارث الولد لو كان له مال ، فإن رغب الوالدان أو كلاهما في فطام الطفل قبل تمام العامين وقد تراضيا على ذلك ونظرا إلى مصلحة الرضيع فلا تبعة عليهما ، وإذا شئتم - أيها الآباء - أن تتخذوا مراضع للأطفال غير أمهاتهم فلا تبعة عليكم في ذلك ، ولتدفعوا إليهن ما اتفقتم عليه من الأجر بالرضا والمحاسنة ، وراقبوا الله في أعمالكم ، واعلموا أنه مطلع عليها ومجازيكم بها .
والحكم التالي يتعلق برضاع الأطفال بعد الطلاق . .
إن دستور الأسرة لا بد أن يتضمن بيانا عن تلك العلاقة التي لا تنفصم بين الزوجين بعد الطلاق . علاقة النسل الذي ساهم كلاهما فيه ، وارتبط كلاهما به ؛ فإذا تعذرت الحياة بين الوالدين فإن الفراخ الزغب لا بد لها من ضمانات دقيقة مفصلة ، تستوفي كل حالة من الحالات :
( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة . وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف . لا تكلف نفس إلا وسعها . لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده . وعلى الوارث مثل ذلك . فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما . وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم - إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف - واتقوا الله ، واعلموا أن الله بما تعملون بصير ) . .
إن على الوالدة المطلقة واجبا تجاه طفلها الرضيع . واجبا يفرضه الله عليها ولا يتركها فيه لفطرتها وعاطفتها التي قد تفسدها الخلافات الزوجية ، فيقع الغرم على هذا الصغير . إذن يكفله الله ويفرض له في عنق أمه . فالله أولى بالناس من أنفسهم ، وأبر منهم وأرحم من والديهم . والله يفرض للمولود على أمه أن ترضعه حولين كاملين ؛ لأنه سبحانه يعلم أن هذه الفترة هي المثلى من جميع الوجوه الصحية والنفسية للطفل . . ( لمن أراد أن يتم الرضاعة ) وتثبت البحوث الصحية والنفسية اليوم أن فترة عامين ضرورية لينمو الطفل نموا سليما من الوجهتين الصحية والنفسية . ولكن نعمة الله على الجماعة المسلمة لم تنتظر بهم حتى يعلموا هذا من تجاربهم . فالرصيد الإنساني من ذخيرة الطفولة لم يكن ليترك يأكله الجهل كل هذا الأمد الطويل ، والله رحيم بعباده . وبخاصة بهؤلاء الصغار الضعاف المحتاجين للعطف والرعاية .
وللوالدة في مقابل ما فرضه الله عليها حق على والد الطفل : أن يرزقها ويكسوها بالمعروف والمحاسنة ؛ فكلاهما شريك في التبعة ؛ وكلاهما مسؤول تجاه هذا الصغير الرضيع ، هي تمده باللبن والحضانة وأبوه يمدها بالغذاء والكساء لترعاه ؛ وكل منهما يؤدي واجبه في حدود طاقته :
ولا ينبغي أن يتخذ أحد الوالدين من الطفل سببا لمضارة الآخرة :
( لا تضار والدة بولدها ، ولا مولود له بولده ) . .
فلا يستغل الأب عواطف الأم وحنانها ولهفتها على طفلها ، ليهددها فيه أو تقبل رضاعة بلا مقابل . ولا تستغل هي عطف الأب على إبنه وحبه له لتثقل كاهله بمطالبها . .
والواجبات الملقاة على الوالد تنتقل في حالة وفاته إلى وارثه الراشد :
فهو المكلف أن يرزق الأم المرضع ويكسوها بالمعروف والحسنى . تحقيقا للتكافل العائلي الذي يتحقق طرفه بالإرث ، ويتحقق طرفه الآخر باحتمال تبعات المورث .
وهكذا لا يضيع الطفل إن مات والده . فحقه مكفول وحق أمه في جميع الحالات .
وعندما يستوفى هذا الاحتياط . . يعود إلى استكمال حالات الرضاعة . .
( فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما ) . .
فإذا شاء الوالد والوالدة ، أو الوالدة والوارث ، أن يفطما الطفل قبل استيفاء العامين ؛ لأنهما يريان مصلحة للطفل في ذلك الفطام ، لسبب صحي أو سواه ، فلا جناح عليهما ، إذا تم هذا بالرضى بينهما ، وبالتشاور في مصلحة الرضيع الموكول اليهما رعايته ، المفروض عليهما حمايته .
كذلك إذا رغب الوالد في أن يحضر لطفله مرضعا مأجورة ، حين تتحقق مصلحة الطفل في هذه الرضاعة ، فله ذلك على شرط أن يوفي المرضع أجرها ، وأن يحسن معاملتها :
( وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف ) . .
فذلك ضمان لأن تكون للطفل ناصحة ، وله راعية وواعية .
وفي النهاية يربط الأمر كله بذلك الرباط الإلهي . . بالتقوى . . بذلك الشعور العميق اللطيف الذي يكل إليه ما لا سبيل لتحقيقه إلا به :
هذا إرشاد من الله تعالى{[3991]} للوالدات : أن يرضعن أولادهن كمال الرضاعة ، وهي سنتان ، فلا اعتبار بالرضاعة بعد ذلك ؛ ولهذا {[3992]} قال : { لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } وذهب أكثر الأئمة إلى أنه لا يحرم من الرضاعة إلا ما كان دون الحولين ، فلو ارتضع المولود وعمره فوقهما لم يحرم .
قال{[3993]} الترمذي : " باب ما جاء أن الرضاعة لا تحرم إلا في الصغر{[3994]} دون الحولين " : حدثنا قتيبة ، حدثنا أبو عوانة ، عن هشام بن عروة ، عن فاطمة بنت المنذر ، عن أم سلمة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي ، وكان قبل الفطام " . وقال : هذا حديث حسن صحيح ، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم : أن الرضاعة لا تحرم إلا ما كان دون الحولين ، وما كان بعد الحولين الكاملين فإنه لا يحرم شيئًا . وفاطمة بنت المنذر بن الزبير بن العوام ، وهي امرأة هشام بن عروة{[3995]} .
قلت : تفرد الترمذي برواية هذا الحديث ، ورجاله على شرط الصحيحين ، ومعنى قوله : إلا ما كان في الثدي ، أي : في محل{[3996]} الرضاعة قبل الحولين ، كما جاء في الحديث ، الذي رواه أحمد ، عن وَكِيع وغندر ، عن شعبة ، عن عدي بن ثابت ، عن البراء بن عازب قال : لما مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن له مرضعًا{[3997]} في الجنة " . وهكذا أخرجه البخاري من حديث شعبة{[3998]} وإنما قال ، عليه السلام ، ذلك ؛ لأن ابنه إبراهيم ، عليه السلام ، مات وله سنة وعشرة أشهر ، فقال : " إن له مرضعًا في الجنة " يعني : تكمل رضاعه ، ويؤيده ما رواه الدارقطني ، من طريق الهيثم بن جميل ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الحولين " ، ثم قال : لم يسنده عن ابن عيينة غير الهيثم بن جميل ، وهو ثقة حافظ{[3999]} .
قلت : وقد رواه الإمام مالك في الموطأ ، عن ثور بن زيد ، عن ابن عباس موقوفًا{[4000]} {[4001]} . ورواه الدراوردي عن ثور ، عن عكرمة ، عن ابن عباس وزاد : " وما كان بعد الحولين فليس بشيء " ، وهذا أصح .
وقال أبو داود الطيالسي ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا رضاع بعد فصال ، ولا يُتْم بعد احتلام " ، وتمام الدلالة من هذا الحديث في قوله : { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } [ لقمان : 14 ] . وقال : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا } [ الأحقاف : 15 ] . والقول بأن الرضاعة لا تحرم بعد الحولين مروي عن
علي ، وابن عباس ، وابن مسعود ، وجابر ، وأبي هريرة ، وابن عمر ، وأم سلمة ، وسعيد بن المسيب ، وعطاء ، والجمهور . وهو مذهب الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، والثوري ، وأبي يوسف ، ومحمد ، ومالك في رواية ، وعنه : أن مدته سنتان وشهران ، وفي رواية : وثلاثة أشهر . وقال أبو حنيفة : سنتان وستة أشهر ، وقال زفر بن الهذيل : ما دام يرضع فإلى ثلاث سنين ، وهذا رواية عن الأوزاعي . قال مالك : ولو فطم الصبي دون الحولين فأرضعته امرأة بعد فصاله لم يحرم ؛ لأنه قد صار بمنزلة الطعام ، وهو رواية عن الأوزاعي ، وقد روي عن عمر وعلي أنهما قالا لا رضاع بعد فصال ، فيحتمل أنهما أرادا الحولين كقول الجمهور ، سواء فطم أو لم يفطم ، ويحتمل أنهما أرادا الفعل ، كقول مالك ، والله أعلم .
وقد روي في الصحيح{[4002]} عن عائشة ، رضي الله عنها : أنها كانت ترى رضاع الكبير يؤثر في التحريم ، وهو قول عطاء بن أبي رباح ، والليث بن سعد ، وكانت عائشة تأمر بمن تختار أن يدخل عليها من الرجال لبعض نسائها فترضعه ، وتحتج في ذلك بحديث سالم مولى أبي حذيفة حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم امرأة أبي حذيفة أن ترضعه ، وكان كبيرًا ، فكان يدخل عليها بتلك الرضاعة ، وأبى ذلك سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، ورأين{[4003]} ذلك من الخصائص ، وهو قول الجمهور . وحجة الجمهور - منهم الأئمة الأربعة ، والفقهاء السبعة ، والأكابر من الصحابة ، وسائر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى عائشة - ما ثبت في الصحيحين ، عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " انظرْنَ من إخوانكن ، فإنما الرضاعة من المجاعة " {[4004]} . وسيأتي الكلام على مسائل الرضاع ، وفيما يتعلق برضاع الكبير ، عند قوله تعالى : { وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ } [ النساء : 23 ]
وقوله : { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } أي : وعلى والد الطفل نفقة الوالدات وكسوتهن بالمعروف ، أي : بما جرت به عادة أمثالهن في بلدهنّ من غير إسراف ولا إقتار ، بحسب قدرته في يساره وتوسطه وإقتاره ، كما قال تعالى : { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا } [ الطلاق : 7 ] . قال الضحاك : إذا طلَّقَ [ الرجل ]{[4005]} زوجته وله منها ولد ، فأرضعت له ولده ، وجب على الوالد نفقتها وكسوتها بالمعروف .
وقوله : { لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا } أي : لا تدفعه{[4006]} عنها لتضر أباه بتربيته ، ولكن ليس لها دفعُه إذا ولدته حتى تسقيه اللّبأ{[4007]} الذي لا يعيش بدون تناوله غالبًا ، ثم بعد هذا لها رفعه عنها إذا شاءت ، ولكن إن كانت مضارة لأبيه فلا يحل لها ذلك ، كما لا يحل له انتزاعه منها لمجرد الضّرار لها . ولهذا قال : { وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ } أي : بأن يريد أن ينتزع الولد منها إضرارًا بها ، قاله مجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، والزهري ، والسدي ، والثوري ، وابن زيد ، وغيرهم .
وقوله : { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } قيل : في عدم الضرار لقريبه {[4008]} قاله مجاهد ، والشعبي ، والضحاك . وقيل : عليه مثل ما على والد الطفل من الإنفاق على والدة الطفل ، والقيام بحقوقها وعدم الإضرار بها ، وهو قول الجمهور . وقد استقصى ذلك ابن جرير في تفسيره . وقد استدل بذلك من ذهب من الحنفية والحنبلية إلى وجوب نفقة الأقارب بعضهم على بعض ، وهو مروي عن عمر بن الخطاب ، وجمهور السلف ، ويرشح ذلك بحديث الحسن ، عن سَمرة مرفوعًا : من ملك ذا رحم محرم عُتِق عليه{[4009]} .
وقد ذُكر أن الرضاعة بعد الحولين ربما ضرت{[4010]} الولد إما في بدنه أو عقله ، وقد قال سفيان الثوري ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة : أنه رأى امرأة تُرضع بعد الحولين . فقال : لا ترضعيه .
وقوله : { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } أي : فإن اتفقا والدا الطفل على فطامه قبل الحولين ، ورأيا في ذلك مصلحة له ، وتشاورا في ذلك ، وأجمعا{[4011]} عليه ، فلا جناح عليهما في ذلك ، فيؤْخَذُ منه : أن انفراد أحدهما بذلك دون الآخر لا يكفي ، ولا يجوز لواحد منهما أن يستبد بذلك من غير مشاورة الآخر ، قاله الثوري وغيره ، وهذا فيه احتياط للطفل ، وإلزام للنظر في أمره ، وهو من رحمة الله{[4012]} بعباده ، حيث حجر على الوالدين في تربية طفلهما وأرشدهما إلى ما يصلحه ويصلحهما كما قال في سورة الطلاق : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى } [ الطلاق : 6 ] .
وقوله : { وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ } أي : إذا اتفقت الوالدة والوالد على أن يتسلم منها الولد{[4013]} إما لعذر منها ، أو عذر له ، فلا جناح عليهما في بذله ، ولا عليه في قبوله منها إذا سلمها أجرتها الماضية بالتي هي أحسن ، واسترضع لولده غيرها بالأجرة بالمعروف . قاله غير واحد .
وقوله : { وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي : في جميع أحوالكم { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي : فلا يخفى عليه شيء من أحوالكم وأقوالكم .
انتقال من أحكام الطلاق والبينونة ؛ فإنه لما نهى عن العضل ، وكانت بعض المطلقات لهن أولاد في الرضاعة ويتعذر عليهن التزوج وهن مرضعات ؛ لأن ذلك قد يضر بالأولاد ، ويقلل رغبة الأزواج فيهن ، كانت تلك الحالة مثار خلاف بين الآباء والأمهات ، فلذلك ناسب التعرض لوجه الفصل بينهم في ذلك ، فإن أمر الإرضاع مهم ، لأن به حياة النسل ، ولأن تنظيم أمره من أهم شؤون أحكام العائلة .
وأعلم أن استخلاص معاني هذه الآية من أعقد ما عرض للمفسرين . فجملة { والوالدات يرضعن } معطوفة على جملة { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن } [ البقرة : 232 ] والمناسبة غير خفية .
والوالدت عام لأنه جمع معرف باللام ، وهو هنا مراد به خصوص الوالدات من المطلقات بقرينة سياق الآي التي قبلها من قوله : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } [ البقرة : 228 ] ولذلك وصلت هذه الجملة بالعطف للدلالة على اتحاد السياق ، فقوله : { والوالدات } معناه : والوالدات منهن ، أي من المطلقات المتقدم الإخبار عنهن في الآي الماضية ، أي المطلقات اللائي لهن أولاد في سن الرضاعة ، ودليل التخصيص أن الخلاف في مدة الإرضاع لا يقع بين الأب والأم إلاّ بعد الفراق ، ولا يقع في حالة العصمة ؛ إذ من العادة المعروفة عند العرب ومعظم الأمم أن الأمهات يرضعن أولادهن في مدة العصمة ، وأنهن لا تمتنع منه من تمتنع إلاّ لسبب طلب التزوج بزوج جديد بعد فراق والد الرضيع ؛ فإن المرأة المرضع لا يرغب الأزواج منها ؛ لأنها تشتغل برضيعها عن زوجها في أحوال كثيرة .
وجملة { يرضعن } خبر مراد به التشريع ، وإثبات حق الاستحقاق ، وليس بمعنى الأمر للوالدات والإيجاب عليهن ؛ لأنه قد ذكر بعد أحكام المطلقات ، ولأنه عقب بقوله { وإن أردتم أن تسترضعوا } فإن الضمير شامل للآباء والأمهات على وجه التغليب كما يأتي ، فلا دلالة في الآية على إيجاب إرضاع الولد على أمه ، ولكن تدل على أن ذلك حق لها ، وقد صرح بذلك في سورة الطلاق بقوله { وإن تعاسرتم فسترضع له أُخرى } [ الطلاق : 6 ] ولأنه عقب بقوله : { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } وذلك أجر الرضاعة ، والزوجة في العصمة ليس لها نفقة وكسوة لأجل الرضاعة ، بل لأجل العصمة .
وقوله : { أولادهن } صرح بالمفعول مع كونه معلوماً ، إيماء إلى أحقية الوالدات بذلك وإلى ترغيبهن فيه ؛ لأن في قوله : { أولادهن } تذكيراً لهن بداعي الحنان والشفقة ، فعلى هذا التفسير وهو الظاهر من الآية والذي عليه جمهور السلف ليست الآية واردة إلاّ لبيان إرضاع المطلقات أولادهن ، فإذا رامت المطلقة إرضاع ولدها فهي أولى به ، سواء كانت بغير أجر أم طلبت أجر مثلها ، ولذلك كان المشهور عن مالك : أن الأب إذا وجد من ترضع له غير الأم بدون أجر وبأقل من أجر المثل ، لم يُجب إلى ذلك ، كما سنبينه .
ومن العلماء من تأول الوالدات على العموم ، سواء كن في العصمة أو بعد الطلاق كما في القرطبي والبيضاوي ، ويظهر من كلام ابن الفرس في « أحكام القرآن » أنّ هذا قول مالك . وقال ابن رشد في « البيان والتحصيل » : إن قوله تعالى : { والوالدات يرضعن أولادهن } ومحمول على عمومه في ذات الزوج وفي المطلقة مع عسر الأب ، ولم ينسبه إلى مالك ، ولذلك قال ابن عطية : قوله : { يرضعن } خبر معناه الأمر على الوجوب لبعض الوالدات ، والأمر على الندب والتخيير لبعضهن وتبعه البيضاوي ، وفي هذا استعمال صيغة الأمر في القدر المشترك وهو مطلق الطلب ولا داعي إليه . والظاهر أن حكم إرضاع الأم ولدها في العصمة يستدل له بغير هذه الآية ، ومما يدل على أنه ليس المراد الوالدات اللائي في العصمة قوله تعالى : { وعلى المولود له رزقهن } الآية ، فإن اللائي في العصمة لهن النفقة والكسوة بالأصالة .
والحول في كلام العرب : العام ، وهو مشتق من تحول دورة القمر أو الشمس في فلكه من مبدأ مصطلح عليه ، إلى أن يرجع إلى السمت الذي ابتدأ منه ، فتلك المدة التي ما بين المبدأ والمرجع تسمى حولاً .
وحول العرب قمري وكذلك أقره الإسلام .
ووصف الحولين بكاملين تأكيد لرفع توهم أن يكون المراد حولاً وبعض الثاني ؛ لأن إطلاق التثنية والجمع في الأزمان والأسنان ، على بعض المدلول ، إطلاق شائع عند العرب ، فيقولون : هو ابن سنتين ويريدون سنة وبعض الثانية ، كما مر في قوله : { الحج أشهر معلومات } [ البقرة : 197 ] .
وقوله : { لمن أراد أن يتم الرضاعة } ، قال في « الكشاف » : « بيان لمن توجه إليه الحكم كقوله : { هيت لك } [ يوسف : 23 ] ، فلك بيان للمُهَيَّت له أي هذا الحكم لمن أراد أن يتم الإرضاع » أي فهو خبر مبتدأ محذوف ، كما أشار إليه ، بتقدير هذا الحكمُ لمِن أراد . قال التفتازاني : « وقد يصرح بهذا المبتدأ في بعض التراكيب كقوله تعالى : { ذلك لمن خشى العنت منكم } [ النساء : 25 ] ومَا صْدَقُ ( مَنْ ) هنا من يهمه ذلك : وهو الأب والأم ومن يقوم مقامهما من ولي الرضيع وحاضنه . والمعنى : أن هذا الحكم يستحقه من أراد إتمام الرضاعة ، وأباه الآخر ، فإن أرادا معاً عدم إتمام الرضاعة فذلك معلوم من قوله : { فإن أرادا فصالاً } الآية .
وقد جعل الله الرضاع حولين رعياً لكونهما أقصى مدة يحتاج فيها الطفل للرضاع إذا عرض له ما اقتضى زيادة إرضاعه ، فأما بعد الحولين فليس في نمائه ما يصلح له الرضاع بعدُ ، ولما كان خلاف الأبوين في مدة الرضاع لا ينشأ إلاّ عن اختلاف النظر في حاجة مزاج الطفل إلى زيادة الرضاع ، جعل الله القول لمن دعا إلى الزيادة ، احتياطاً لحفظ الطفل . وقد كانت الأمم في عصور قلة التجربة وانعدام الأطباء ، لا يهتدون إلى ما يقوم للطفل مقام الرضاع ؛ لأنهم كانوا إذا فطموه أعطوه الطعام ، فكانت أمزجة بعض الأطفال بحاجة إلى تطويل الرضاع ، لعدم القدرة على هضم الطعام وهذه عوارض تختلف .
وفي عصرنا أصبح الأطباء يعتاضون لبعض الصبيان بالإرضاع الصناعي ، وهم مع ذلك مجمعون على أنه لا أصلح للصبي من لبن أمه ، ما لم تكن بها عاهة أو كان اللبن غير مستوف الأجزاء التي بها تمام تغذية أجزاء بدن الطفل ، ولأن الإرضاع الصناعي يحتاج إلى فرط حذر في سلامة اللبن من العفونة : في قوامه وإنائه . وبلاد العرب شديدة الحرارة في غالب السنة ؛ ولم يكونوا يحسنون حفظ أطعمتهم من التعفن بالمكث ، فربما كان فطام الأبناء في العام أو ما يقرب منه يجر مضار للرضعاء ، وللأمزجة في ذلك تأثير أيضاً .
وعن ابن عباس أن التقدير بالحولين للولد الذي يمكث في بطن أمه ستة أشهر ، فإن مكث سبعة أشهر ، فرضاعه ثلاثة وعشرون شهراً ، وهكذا بزيادة كل شهر في البطن ينقص شهر من مدة الرضاعة حتى يكون لمدة الحمل والرضاع ثلاثون شهراً ؛ لقوله تعالى : { وحمله وفصله ثلاثون شهراً } [ الأحقاف : 15 ] ، وفي هذا القول منزع إلى تحكيم أحوال الأمزجة ؛ لأنه بمقدار ما تنقص مدة مكثه في البطن ، تنقص مدة نضج مزاجه . والجمهور على خلاف هذا وأن الحولين غاية لإرضاع كل مولود . وأخذوا من الآية أن الرضاع المعتبر هو ما كان في الحولين ، وأن ما بعدهما لا حاجة إليه ، فلذلك لا يجاب إليه طالبه .
وعبر عن الوالد بالمولود له ، إيماء إلى أنه الحقيق بهذا الحكم ؛ لأن منافع الولد منجرة إليه ، وهو لاحق به ومعتز به في القبيلة حسب مصطلح الأمم ، فهو الأجدر بإعاشته ، وتقويم وسائلها .
والرزق : النفقة ، والكسوة : اللباس ، والمعروف : ما تعارفه أمثالهم وما لا يجحف بالأب . والمراد بالرزق والكسوة هنا ما تأخذه المرضع أجراً عن إرضاعها ، من طعام ولباس لأنهم كانوا يجعلون للمراضع كسوة ونفقة ، وكذلك غالب إجاراتهم ؛ إذ لم يكن أكثر قبائل العرب أهل ذهب وفضة ، بل كانوا يتعاملون بالأشياء ، وكان الأجراء لا يرغبون في الدرهم والدينار ، وإنما يطلبون كفاية ضروراتهم ، وهي الطعام والكسوة ، ولذلك أحال الله تقديرهما على المعروف عندهم من مراتب الناس وسعتهم ، وعقبه بقوله : { لا تكلف نفس إلا وسعها } .
وجمل : { لا تكلف نفس إلا وسعها } إلى قول : { ولا مولود له بولده } معترضات بين جملة { وعلى المولود } وجملة { وعلى الوارث } فموقع جملة لا تكلف نفس إلا وسعها تعليل لقوله { بالمعروف } ، وموقع جملة { لا تضار وَالدة } إلى آخرها موقع التعليل أيضاً ، وهو اعتراض يفيد أصولاً عظيمة للتشريع ونظام الاجتماع .
والتكليف تفعيل بمعنى جعله ذا كلفة ، والكلفة : المشقة ، والتكلف : التعرض لما فيه مشقة ، ويطلق التكليف على الأمر بفعل فيه كلفة ، وهو اصطلاح شرعي جديد .
والوسع ، بتثليث الواو : الطاقة ، وأصله من وسع الإناء الشيء إذا حواه ولم يبق منه شيء ، وهو ضد ضاق عنه ، والوسع هو ما يسعه الشيء فهو بمعنى المفعول ، وأصله استعارة ؛ لأن الزمخشري في « الأساس » ذكر هذا المعنى في المجاز ، فكأنهم شبهوا تحمل النفس عملاً ذا مشقة باتساع الظرف للمحوي ، لأنهم ما احتاجوا لإفادة ذلك إلاّ عند ما يتوهم الناظر أنه لا يسعه ، فمن هنا استعير للشاق البالغ حد الطاقة .
فالوسع إن كان بكسر الواو فهو فعل بمعنى مفعول كذبح ، وإن كان بضمها فهو مصدر كالصلح والبرء صار بمعنى المفعول ، وإن كان بفتحها فهو مصدر كذلك بمعنى المفعول كالخلق والدرس والتكليف بما فوق الطاقة منفي في الشريعة . وبني فعل تكلف للنائب ليحذف الفاعل ، فيفيد حذفه عموم الفاعلين ، كما يفيد وقوع نفس ، وهو نكرة في سياق النفس ، عموم المفعول الأول لفعل تكلف : وهو الأنفس المكلفة ، وكما يفيد حذف المستثنى في قوله : { إلا وسعها } عموم المفعول الثاني لفعل تكلف ، وهو الأحكام المكلف بها ، أي لا يكلف أحد نفساً إلاّ وسعها ، وذلك تشريع من الله للأمة بأن ليس لأحد أن يكلف أحداً إلاّ بما يستطيعه ، وذلك أيضاً وعد من الله بأنه لا يكلف في التشريع الإسلامي إلاّ بما يستطاع : في العامة والخاصة ، فقد قال في آيات ختام هذه السورة { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } [ البقرة : 286 ] .
والآية تدل على عدم وقوع التكليف بما لا يطاق في شريعة الإسلام ، وسيأتي تفصيل هذه المسألة عند قوله تعالى : { لا يكلفو الله نفساً إلا وسعها } في آخر السورة .
وجملة { لا تضار والدة بولدها } اعتراض ثان ، ولم تعطف على التي قبلها تنبيهاً على أنها مقصودة لذاتها ، فإنها تشريع مستقل ، وليس فيها معنى التعليل الذي في الجملة قبلها بل هي كالتفريع على جملة { لا تكلف نفس إلا وسعها } ؛ لأن إدخال الضر على أحد بسبب ما هو بضعة منه ، يكاد يخرج عن طاقة الإنسان ؛ لأن الضرار تضيق عنه الطاقة ، وكونه بسبب من يترقب منه أن يكون سبب نفع أشد ألماً على النفس ، فكان ضره أشد . ولذلك اختير لفظ الوالدة هنا دون الأم كما تقدم في قوله : { يرضعن أولادهن } وكذلك القول في { ولا مولود له بولده } وهذا الحكم عام في جميع الأحوال من فراق أو دوام عصمة ، فهو كالتذييل ، وهو نهي لهما عن أن يكلف أحدهما الآخر ما هو فوق طاقته ، ويستغل ما يعلمه من شفقة الآخر على ولده فيفترص ذلك لإحراجه ، والإشفاق عليه .
وفي « المدونة » : عن ابن وهب عن الليث عن خالد بن يزيد عن زيد بن أسلم في قوله تعالى : { لا تضار والدة بولدها } الآية « يقول ليس لها أن تلقي ولدها عليه ولا يجد من يرضعه ، وليس له أن ينتزع منها ولدها ، وهي تحب أن ترضعه » وهو يؤيد ما ذكرناه .
وقيل : الباء في قوله : { بولدها وبولده } باء الإلصاق وهي لتعدية { تضار } فيكون مدخول الباء مفعولاً في المعنى لفعل { تضار } وهو مسلوب المفاعلة مراد منه أصل الضر ، فيصير المعنى : لا تضر الوالدة ولدها ولا المولود له ولده أي لا يكن أحد الأبويين بتعنته وتحريجه سبباً في إلحاق الضر بولده أي سبباً في إلجاء الآخر إلى الامتناع مما يعين على إرضاع الأم ولدها فيكون في استرضاع غير الأم تعريض المولود إلى الضر ونحو هذا من أنواع التفريط .
وقرأ الجمهور : ( لا تضار ) بفتح الراء مشددة على أن ( لا ) حرف نهي و ( تضار ) مجزوم بلا الناهية والفتحة للتخلص من التقاء الساكنين الذي نشأ عن تسكين الراء الأولى ليتأتى الإدغام وتسكين الراء الثانية للجزم وحرك بالفتحة لأنها أخف الحركات . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو برفع الراء على أن ( لا ) حرف نفي والكلام خبر في معنى النهي ، وكلتا القراءتين يجوز أن تكون على نية بناء الفعل للفاعل بتقدير : لا ( تضارر ) بكسر الراء الأولى وبنائه للنائب بتقدير فتح الراء الأولى ، وقرأه أبو جعفر بسكون الراء مخففة مع إشباع المد كذا نقل عنه في كتاب « القراءات » والظاهر أنه جعله من ضار يضير لا من ضار المضاعف . ووقع في « الكشاف » أنه قرأ بالسكون مع التشديد على نية الوقف أي إجراء للوصل مجرى الوقف ولذلك اغتفر التقاء الساكنين .
وقوله : { وعلى الوارث مثل ذلك } معطوف على قوله : { وعلى المولود له رزقهن } وليس معطوفاً على جملة { لا تضار والدة } لأن جملة { لا تضار } معترضة ، فإنها جاءت على الأسلوب الذي جاءت عليه جملة { لا تكلف نفس إلا وسعها } التي هي معترضة بين الأحكام لا محالة لوقوعها موقع الاستئناف من قوله { بالمعروف } ، ولما جاءت جملة { لا تضار } بدون عطف علمنا أنها استئناف ثان مما قبله ثم وقع الرجوع إلى بيان الأحكام بطريق العطف ، ولو كان المراد العطف على المستأنفات المعترضات لجيء بالجملة الثالثة بطريق الاستئناف .
وحقيقة الوارث هو من يصير إليه مال الميت بعد الموت بحق الإرث . والإشارة بقوله { ذلك } إلى الحكم المتقدم وهو الرزق والكسوة بقرينة دخول على عليه الدالة على أنه عديل لقوله : { وعلى المولود له رزقهن } وجوز أن يكون { ذلك } إشارة إلى النهي عن الإضرار المستفاد من قوله : { لا تضار والدة بولدها } كما سيأتي ، وهو بعيد عن الاستعمال ؛ لأنه لما كان الفاعل محذوفاً وحكم الفعل في سياق النهي كما هو في سياق النفي علم أن جميع الإضرار منهي عنه أياً ما كان فاعله ، على أن الإضرار منهي عنه فلا يحسن التعبير عنه بلفظ على الذي هو من صيغ الإلزام والإيجاب ، على أن ظاهر المِثل إنما ينصرف لمماثلة الذوات وهي النفقة والكسوة لا لمماثلة الحكم وهو التحريم .
وقد علم من تسمية المفروض عليه الإنفاق والكسوة وارثاً أن الذي كان ذلك عليه مات ، وهذا إيجاز .
والمعنى : فإن مات المولود له فعلى وارثه مثل ما كان عليه فإن على الواقعة بعد حرف العطف هنا ظاهرة في أنها مثل على التي في المعطوف عليه .
فالظاهر أن المراد وارث الأب وتكون أل عوضاً عن المضاف إليه كما هو الشأن في دخول أل على اسم غير معهود ولا مقصود جنسه وكان ذلك الاسم مذكوراً بعد اسم يصلح لأن يضاف إليه كما قال تعالى : { لئن لم ينته لنسفعا بالناصية } [ العلق : 15 ] وكما قال : { وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى } [ النازعات : 40 ,41 ] أي نهى نفسه ؛ فإن الجنة هي مأواه ، وقول إحدى نساء حديث أم زرع : « زوجي المَسُّ مَسُّ أَرْنَب والرِّيح رِيح زَرْنَب » وما سماه الله تعالى وارثاً إلاّ لأنه وارث بالفعل لا من يصلح لأن يكون وارثاً على تقدير موت غيره ؛ لأن اسم الفاعل إنما يطلق على الحال ما لم تقم قرينة على خلافه فما قال : { وعلى الوارث } إلاّ لأن الكلام على الحق تعليق بهذا الشخص في تركة الميت وإلاّ لقال : وعلى الأقارب أو الأولياء مثل ذلك على أنه يكون كلاماً تأكيداً حينئذٍ ؛ لأن تحريم الإضرار المذكور قبله لم يذكر له متعلق خاص ؛ فإن فاعل { تضار } محذوف . والنهي دال على منع كل إضرار يحصل للوالدة فما فائدة إعادة تحريم ذلك على الوارث كما قدمناه آنفاً .
واتفق علماء الإسلام على أن ظاهر الآية غير مراد ؛ إذ لا قائل بوجوب نفقة المرضع على وارث الأب ، سواء كان إيجابها على الوارث في المال الموروث بأن تكون مبدأة على المواريث للإجماع على أنه لا يبدأ إلاّ بالتجهيز ثم الدين ثم الوصية ، ولأن الرضيع له حظه في المال المرورث وهو إذا صار ذا مال لم تجب نفقته على غيره أم كان إيجابها على الوارث لو لم يسعها المال الموروث فيكمِّل من يده ، ولذلك طرقوا في هذا باب التأويل إما تأويل معنى الوارث وإما تأويل مرجع الإشارة وإما كليهما .
فقال الجمهور : المراد وارث الطفل أي من لو مات الطفل لورثه هو ، روي عن عمر بن الخطاب وقتادة والسدي والحسن ومجاهد وعطاء وإسحاق وابن أبي ليلى وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل فيتقرر بالآية ، أن النفقة واجبة على قرابة الرضيع وهم بالضرورة قرابة أبيه أي إذا مات أبوه ولم يترك مالاً : تجب نفقة الرضيع على الأقارب . على حسب قربهم في الإرث ويجري ذلك على الخلاف في توريث ذي الرحم المَحْرَم فهؤلاء يرون حقاً على القرابة إنفاق العاجز في مالهم كما أنهم يرثونه إذا ترك مالاً فهو من المواساة الواجبة مثل الدية .
وقال الضحاك وقبيصة بن ذؤيب وبشير بن نصر قاضي عمر بن عبد العزيز : المراد وارث الأب وأريد به نفس الرضيع .
فالمعنى : أنه إذا مات أبوه وترك مالاً فنفقته من إرثه . ويتجه على هذا أن يقال : ما وجه العدول عن التعبير بالولد إلى التعبير بالوارث ؟ فتجيب بأنه للإيماء إلى أن الأب إنما وجبت عليه نفقة الرضيع لعدم مال للرضيع ، فلهذا لما اكتسب مالاً وجب عليه في ماله ؛ لأن غالب أحوال الصغار ألا تكون لهم أموال مكتسبة سوى الميراث ، وهذا تأويل بعيد ؛ لأن الآية تكون قد تركت حكم من لا مال له .
وقيل : أريد بالوارث المعنى المجازي وهو الذي يبقى بعد انعدام غيره كما في قوله تعالى : { ونحن الوارثون } [ الحجر : 23 ] يعني به أم الرضيع قاله سفيان فتكون النفقة على الأم قال التفتازاني في « شرح الكشاف » « وهذا قَلق في هذا المقام إذ ليس لقولنا : فالنفقة على الأب وعلى من بقي من الأب والأم معنى يعتد به » يعني أن إرادة الباقي تشمل صورة ما إذا كان الباقي الأب ولا معنى لِعطفه على نفسه بهذا الاعتبار . وفي « المدونة » عن زيد بن أسلم وربيعة أن الوارث هو ولي الرضيع عليه مثل ما على الأب من عدم المضارة .
هذا كله على أن الآية محكمة لا منسوخة وأن المشار إليه بقوله : { مثل ذلك } هو الرزق والكسوة . وقال جماعة : الإشارة بقوله : { مثل ذلك } راجعة إلى النهي عن المشارة . قال ابن عطية : وهو لمالك وجميع أصحابه والشعبي والزهري والضحاك اهـ .
وفي « المدونة » في ترجمة ما جاء فيمن تلزم النفقة من كتاب إرخاء الستور عن ابن القاسم قال مالك { وعلى الوارث مثل ذلك } أي ألا يضار . واختاره ابن العربي بأنه الأصل فقال القرطبي : يعني في الرجوع إلى أقرب مذكور ، ورجحه ابن عطية بأن الأمة أجمعت على ألا يضار الوارث . واختلفوا : هل عليه رزق وكسوة اهـ يعني مورد الآية بما هو مجمع على حكمه ويترك ما فيه الخلاف .
وهنالك تأويل بأنها منسوخة ، رواه أسد بن الفرات عن ابن القاسم عن مالك قال : « وقول الله عز وجل : { وعلى الوارث مثل ذلك } هو منسوخ فقال النحاس : « ما علمت أحداً من أصحاب مالك بين ما الناسخ ، والذي يبينه أن يكون الناسخ لها عند مالك أنه لما أوجب الله للمتوفى عنها زوجها نفقةَ حول ، والسكنى من مال المتوفى ، ثم نسخ ذلك نسخ أيضاً عن الوارث » يريد أن الله لما نسخ وجوب ذلك في تركة الميت نسخ كل حق في التركة بعد الميراث ، فيكون الناسخ هو الميراث ، فإنه نسخ كل حق في المال على أولياء الميت .
وعندي أن التأويل الذي في « مدونة سحنون » بعيد لما تقدم آنفاً ، وأن ما نحاه مالك في رواية أسد بن الفرات عن ابن القاسم هو التأويل الصحيح ، وأن النسخ على ظاهر المراد منه ، والناسخ لهذا الحكم هو إجماع الأمة على أنه لاحق في مال الميت ، بعد جهازه وقضاء دينه ، وتنفيذ وصيته ، إلاّ الميراث فنُسخ بذلك كل ما كان مأموراً به أن يدفع من مال الميت مثل الوصية في قوله تعالى : { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين } [ البقرة : 180 ] الآية ، ومثل الوصية بسكنى الزوجة وإنفاقها في قوله تعالى : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم يتربصن بأنفسهن } [ البقرة : 240 ] ونسخ منه حكم هذه الآية وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله أعطى كل ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث » هذا إذا حمل الوارث في الآية على وارث الميت أي إن ذلك حق على جميع الورثة أيّاً كانوا بمعنى أنه مبدأ المواريث . وإذا حمل الوارث على من هو بحيث يرث الميت لو ترك الميت مالاً ، أعني قريبه ، بمعنى أن عليه إنفاق ابن قريبه ، فذلك منسوخ بوضع بيت المال وذلك أن هذه الآية شرعت هذا الحكم في وقت ضعف المسلمين ، لإقامة أود نظامهم بتربية أطفال فقرائهم ، وكان أولى المسلمين بذلك أقربهم من الطفل فكما كان يرث قريبه ، لو ترك مالاً ولم يترك ولداً فكذلك عليه أن يقام ببينة ، كما كان حكم القبيلة في الجاهلية في ضم أيتامهم ودفع دياتهم ، فلما اعتز الإسلام صار لجامعة المسلمين مال ، كان حقاً على جماعة المسلمين القيام بتربية أبناء فقرائهم ، وفي الحديث الصحيح « من ترك كَّلاً ، أو ضياعاً ، فعليَّ ، ومن ترك مالاً فلوارثه » ولا فرق بين إطعام الفقير وبين إرضاعه ، وما هو إلاّ نفقة ، ولمثله وضع بيت المال .
وقوله : { فإنأراد فصالاً } عطف على قوله { يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } لأنه متفرع عنه ، والضمير عائد على الوالدة والمولود له الواقعين في الجمل قبْل هذه .
والفصال : الفطام عن الإرضاع ، لأنه فصل عن ثدي مرضعه . وعن في قوله : { عن تراض } متعلقة بأرادا أي إرادة ناشئة عن التراضي ، إذ قد تكون إرادتهما صورية أو يكون أحدهما في نفس الأمر مرغماً على الإرادة ، بخوف أو اضطرار .
وقوله : { وتشاور } هو مصدر شاور إذا طلب المشورة . والمشورة قيل مشتقة من الإشارة لأن كل واحد من المتشاورين يشير بما يراه نافعاً فلذلك يقول المستشير لمن يستشيره : بماذا تشير عليَّ كأنَّ أصله أنه يشير للأمر الذي فيه النفع ، مشتق من الإشارة باليد ، لأن الناصح المدبر كالذي يشير إلى الصواب ويعينه له من لم يهتد إليه ، ثم عدي بعلى لما ضمن معنى التدبير ، وقال الراغب : إنها مشتقة من شار العسل إذا استخرجه ، وأياً ما كان اشتقاقها فمعناها إبداء الرأي في عمل يريد أن يعمله من يشاور وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : { وإذ قال ربك للملائكة إنى جاعل في الأرض خليفة } [ البقرة : 30 ] وسيجيء الكلام عليها عند قوله تعالى : { وشاورهم في الأمر } في سورة آل عمران ( 159 ) ، وعطف التشاور على التراضي تعليماً للزوجين شؤون تدبير العائلة ، فإن التشاور يظهر الصواب ويحصل به التراضي .
وأفاد بقوله : { فلا جناح عليهما } أن ذلك مباح ، وأن حق إرضاع الحولين مراعى فيه حق الأبوين وحق الرضيع ، ولما كان ذلك يختلف باختلاف أمزجة الرضعاء جعل اختلاف الأبوين دليلاً على توقع حاجة الطفل إلى زيادة الرضاع ، فأعمل قول طالب الزيادة منهما ، كما تقدم ، فإذا تشاور الأبوان وتراضيا بعد ذلك على الفصال كان تراضيهما دليلاً على أنهما رأيا من حال الرضيع ما يغنيه عن الزيادة ، إذ لا يظن بهما التمالؤ على ضر الولد ، ولا يظن إخفاء المصلحة عليهما بعد تشاورهما ، إذ لا يخفى عليهما حال ولدهما .
وقوله : { وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم } انتقال إلى حالة إرضاع الطفل غيرَ والدته إذا تعذر على الوالدة إرضاعه ، لمرضها ، أو تزوجها أو إن أبت ذلك حيث يجوز لها الإباء ، كما تقدم في الآية السابقة ، أي إن أردتم أن تطلبوا الإرضاع لأولادكم فلا إثم في ذلك .
والمخاطب بأردتم : الأبوان باعتبار تعدد الأبوين في الأمة وليس المخاطب خصوص الرجال ، لقوله تعالى فيما سبق { والوالدات يرضعن أولادهن } فعلم السامع أن هذا الحكم خاص بحالة تراضي الأبوين على ذلك لعذر الأم ، وبحالة فقد الأم . وقد علم من قوله : { فلا جناح عليكم } أن حالة التراضي هي المقصودة أولاً ، لأن نفي الجناح مؤذن بتوقعه ، وإنما يتوقع ذلك إذا كانت الأم موجودة وأريد صرف الابن عنها إلى مرضع أخرى ، لسبب مصطلح عليه ، وهما لا يريدان ذلك إلاّ حيث يتحقق عدم الضر للابن ، فلو علم ضر الولد لم يجز ، وقد كانت العرب تسترضع لأولادها ، لا سيما أهل الشرف . وفي الحديث " واسْتُرضِعْت في بني سعد " .
والاسترضاع أصله طلب إرضاع الطفل ، أي طلب أن ترضع الطفل غير أمه ، فالسين والتاء في ( تسترضعوا ) للطلب ومفعوله محذوف ، وأصله أن تسترضعوا مراضع لأولادكم ، لأن الفعل يعدَّى بالسين والتاء الدالين على الطلب إلى المفعول المطلوب منه الفعل فلا يتعدى إلاّ إلى مفعول واحد ، وما بعده يعدى إليه بالحرف وقد يحذف الحرف لكثرة الاستعمال ، كما حذف في استرضع واستنجح ، فعدي الفعل إلى المجرور على الحذف والإيصال ، وفي الحديث " واسترضعت في بني سعد " ووقع في « الكشاف » ما يقتضي أن السين والتاء دخلتا على الفعل المهموز المتعدي إلى واحد فزادتاه تعدية لثان ، وأصله أرضعت المرأة الولد ، فإذا قلت : استرضعتُها صار متعدياً إلى مفعولين ، وكأنَّ وجهه أننا ننظر إلى الحدث المراد طلبه ، فإن كان حدثاً قاصراً ، فدخلت عليه السين والتاء ، عدي إلى مفعول واحد ، نحو استنهضته فنهض ، وإن كان متعدياً فدخلت عليه السين والتاء عدي إلى مفعولين ، نحو استرضعتها فأرضعت ، والتعويل على القرينة ، إذ لا يطلب أصل الرضاع لا من الولد ولا من الأم ، وكذا : استنجحت الله سعيي ، إذ لا يطلب من الله إلاّ إنجاح السعي ، ولا معنى لطلب نجاح الله ، فبقطع النظر عن كون الفعل تعدى إلى مفعولين ، أو إلى الثاني بحذف الحرف ، نرى أنه لا معنى لتسلط الطلب على الفعل هنا أصلاً ، على أنه لولا هذا الاعتبار ، لتعذر طلب وقوع الفعل المتعدي بالسين والتاء ، وهو قد يطلب حصوله فما أوردوه على « الكشاف » : من أن حروف الزيادة إنما تدخل على المجرد لا المزيد مدفوع بأن حروف الزيادة إذا تكررت ، وكانت لمعان مختلفة جاز اعتبار بعضها داخلاً بعد بعض ، وإن كان مدخولها كلِّها هو الفعل المجرد .
وقد دل قوله : { وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم } على أنه ليس المراد بقوله { يرضعن } تشريع وجوب الإرضاع على الأمهات ، بل المقصود تحديد مدة الإرضاع وواجبات المرضع على الأب ، وأما إرضاع الأمهات فموكول إلى ما تعارفه الناس ، فالمرأة التي في العصمة ، إذا كان مثلها يُرضع ، يعتبر إرضاعها أولادها من حقوق الزوج عليها في العصمة ، إذ العرف كالشرط ، والمرأة المطلقة لا حق لزوجها عليها ، فلا ترضع له إلاّ باختيارها . ما لم يعرض في الحالين مانع أو موجب ، مثل عجز المرأة في العصمة عن الإرضاع لمرض ، ومثل امتناع الصبي من رضاع غيرها ، إذا كانت مطلقة بحيث يخشى عليه ، والمرأة التي لا يرضع مثلها وهي ذات القدر ، قد علم الزوج حينما تزوجها أن مثلها لا يرضع ، فلم يكن له عليها حق الإرضاع . هذا قول مالك ، إذ العرف كالشرط ، وقد كان ذلك عرفاً من قبل الإسلام وتقرر في الإسلام ، وقد جرى في كلام المالكية في كتب الأصول : أن مالكاً خصص عموم الوالدات بغير ذوات القدر ، وأن المخصص هو العرف ، وكنا نتابعهم على ذلك ولكني الآن لا أرى ذلك متجهاً ولا أرى مالكاً عمد إلى التخصيص أصلاً ، لأن الآية غير مسوقة لإيجاب الإرضاع ، كما تقدم .
وقوله : { إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف } أي إذا سلمتم إلى المراضع أجورهن . فالمراد بما آتيتم : الأجر ، ومعنى آتى في الأصل دفع ؛ لأنه معدى أتى بمعنى وصل ، ولما كان أصل إذا أن يكون ظرفاً للمستقبل مضمناً معنى الشرط ، لم يلتئم أن يكون مع فعل { آتيتم } الماضي .
وتأول في « الكشاف » { آتيتم } بمعنى : أردتم إيتاءه ، كقوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة } [ المائدة : 6 ] تبعاً لقوله : { وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم } ، والمعنى : إذا سلمتم أجور المراضع بالمعروف ، دون إجحاف ولا مطل .
وقرأ ابن كثير { أتيتم } بترك همزة التعدية . فالمعنى عليه : إذا سلمتم ما جئتم ، أي ما قصدتم ، فالإتيان حينئذٍ مجاز عن القصد ، كقوله تعالى : { إذ جاء ربه بقلب سليم } [ الصافات : 84 ] وقال زهير :
وما كان من خير أَتوه فإنما *** توارثَه آباءُ آبائِهم قَبْلُ
وقوله : { واتقوا الله } تذييل للتخويف ، والحث على مراقبة ما شرع الله ، من غير محاولة ولا مكابدة ، وقوله : { واعلموا أن الله } تذكير لهم بذلك ، وإلاّ فقد علموه . وقد تقدم نظيره آنفاً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{والوالدات يرضعن أولادهن}: يعني إذا طلقن. {حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة}: يعني يكمل الرضاعة، وليس الحولان بالفريضة، فمن شاء أرضع فوق الحولين، ومن شاء قصر عنهما.
{وعلى المولود له}: إذا طلق امرأته وله ولد رضيع ترضعه أمه، فعلى الأب رزق الأم والكسوة، {رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها}، يعني إلا ما أطاقت من النفقة والكسوة.
{لا تضار والدة بولدها}: لا يجعل بالرجل إذا طلق امرأته أن يضارها، فينزع منها ولدها وهي لا تريد ذلك، فيقطعه عن أمه، فيضارها بذلك بعد أن ترضى بعطية الأب من النفقة والكسوة.
ثم ذكر الأم، فقال: {ولا مولود له بولده}: يعني لا يجمل بالمرأة أن تضار زوجها وتلقى إليه ولدها. ثم قال في التقديم: {وعلى الوارث مثل ذلك}: وعلى من يرث اليتيم إذا مات الأب مثل ما على الأب من النفقة والكسوة لو كان حيا، فلا يضار الوارث الأم، وهي بمنزلة الأب إذا لم يكن لليتيم ماله.
{فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور}: واتفقا. {فلا جناح عليهما}: لا حرج ما لم يضار أحدهما صاحبه أن يفصلا الولد قبل الحولين، والأم أحق بولدها من المرضع إذا رضيت من النفقة والكسوة بما يرضي به غيرها، فإن لم ترض الأم بما يرضى به غيرها من النفقة، {فلا جناح عليهما}: فلا جناح على الوالد أن يسترضع لولده.
ويسلم للظئر أجرها، ولا كسوة لها، ولا رزق، وإنما هو أجرها، قوله سبحانه: {وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم} لأمر الله في المراضع، {ما آتيتم بالمعروف}: ما أعطيتم الظئر من فضل على أجرها.
{واتقوا الله}: ولا تعصوه فيما حذركم الله في هذه الآية من أمر المضارة والكسوة والنفقة للأم وأجر الظئر. ثم حذرهم، فقال: {واعلموا أن الله بما تعملون بصير}...
قال الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنَ اَرَادَ أَنْ يُّتِمَّ اَلرَّضَاعَةَ} فجعل الله عز وجل تمام الرضاع حولين كاملين.
وقال: {فَإِنَ اَرَادَا فِصَالا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} يعني ـ والله تعالى أعلم ـ قبل الحولين. فدل على أن إرخاصه عز وجل في فصال الحولين على أن ذلك إنما يكون باجتماعهما على فصاله قبل الحولين. وذلك لا يكون، والله تعالى أعلم، إلا بالنظر للمولود من والديه أن يكونا يريان أن فصاله قبل الحولين خير له من إتمام الرضاع له، لعلة تكون به أو بمرضعته، وأنه لا يقبل رضاع غيرها، أو ما أشبه هذا. وما جعل الله تعالى له غاية فالحكم بعد مضي الغاية فيه غيره قبل مُضِيِّهَا. (الأم: 5/28. ون أحكام الشافعي: 1/258-259.)... ــــــــــــ
قال الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنَ اَرَادَ أَنْ يُّتِمَّ اَلرَّضَاعَةَ وَعَلَى اَلْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ اِلا وُسْعَهَا لا تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى اَلْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنَ اَرَادَا فِصَالا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنَ اَرَدتُّمُ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمُ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا ءَاتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اَللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}. وقال تبارك وتعالى: {فَإِنَ اَرْضَعْنَ لَكُمْ فَئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَاتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى} إلى قوله: {بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}. قال الشافعي:... عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أن هندا ً قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس لي إلا ما أدخل عليَّ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف»...
ففي كتاب الله عز وجل ثم في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان أن الإجارة جائزة على ما يعرف الناس، إذ قال الله عز وجل: {فَإِنَ اَرْضَعْنَ لَكُمْ فَئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} والرضاع يختلف فيكون صبي أكثر رضاعا من صبي. وتكون امرأة أكثر لبنا من امرأة، ويختلف لبنها فيقل ويكثر، فتجوز الإجارة على هذا، لأنه لا يوجد فيه أقرب مما يحيط العلم به من هذا، فتجوز الإجارة على خدمة العبد قياسا على هذا، وتجوز في غيره مما يعرف الناس قياسا على هذا.
وبيان أن على الوالد نفقة الولد دون أمه، كانت أمه متزوجة أو مطلقة. ففي هذا دلالة على أن النفقة ليست على الميراث، وذلك أن الأم وارثة. وفرض النفقة والرضاع على الأب دونها.
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قول الله عز وجل: {وَعَلَى اَلْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} من أن لا تضار والدة بولدها، لا أن عليها الرضاع... وإذا وجب على الأب نفقة ولده في الحال التي لا يغني نفسه فيها، فكان ذلك عندنا لأنه منه لا يجوز أن يضيع شيئا منه. وكذلك إن كبر الولد زمنا لا يغني نفسه ولا عياله ولا حرفة له أنفق عليه الوالد، وكذلك ولد الولد لأنهم ولد. ويؤخذ بذلك الأجداد لأنهم آباء. وكانت نفقة الوالد على الولد إذا صار الوالد في الحال التي لا يقدر على أن يغني فيها نفسه أَوْجَب، لأن الولد من الوالد، وحق الوالد على الولد أعظم. وكذلك الجد، وأبو الجد، وآباؤه فوقه. وإن بعدوا لأنهم آباء.
قال: وإذا كانت هند زوجة لأبي سفيان وكانت القيم على ولدها لصغرهم بأمر زوجها فأذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تأخذ من مال أبي سفيان ما يكفيها وولدها بالمعروف، فمثلها الرجل يكون له على الرجل الحق بأي وجْهٍ ما كان فيمنعه إياه، فله أن يأخذ من ماله حيث وجده سرا وعلانية. وكذلك حق ولده الصغار، وحق من هو قيم بماله ممن توكله أو كفلهُ. (الأم: 5/100-101. ون الأم: 5/87. و أحكام الشافعي: 1/263-264. ومختصر المزني ص: 234. والرسالة: 517-518)...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره بذلك: والنساء اللواتي بنّ من أزواجهنّ ولهن وأولاد قد ولدنهم من أزواجهن قبل بينونتهن منهم بطلاق أو ولدنهم منهم بعد فراقهم إياهن من وطء كان منهم لهن قبل البينونة يرضعن أولادهن، يعني بذلك أنهن أحقّ برضاعهم من غيرهن. وليس ذلك بإيجاب من الله تعالى ذكره عليهن رضاعهم، إذا كان المولود له والدا حيا موسرا لأن الله تعالى ذكره قال في سورة النساء القصرى:"وإنْ تعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى" وأخبر تعالى أن الوالدة والمولود له إن تعاسرا في الأجرة التي ترضع بها المرأة ولدها، أن أخرى سواها ترضعه، فلم يوجب عليها فرضا رضاع ولدها، فكان معلوما بذلك أن قوله: "وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَيْنَ "دلالة على مبلغ غاية الرضاع التي متى اختلف الولدان في رضاع المولود بعدها، جعل حدّا يفصل به بينهما، لا دلالة على أن فرضا على الوالدات رضاع أولادهن.
وأما قوله حَوْلَيْن فإنه يعني به سنتين... وأصل الحول من قول القائل: حال هذا الشيء: إذا انتقل، ومنه قيل: تحوّل فلان من مكان كذا: إذا انتقل عنه.
فإن قال لنا قائل: وما معنى ذكر كاملين في قوله: "وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَيْنَ كامِلَيْنِ" بعد قوله يرضعن حولين وفي ذكر الحولين مستغنى عن ذكر الكاملين؟ إذ كان غير مشكل على سامع سمع قوله: "وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَيْنَ" ما يراد به، فما الوجه الذي من أجله زيد ذكر كاملين؟ قيل: إن العرب قد تقول: أقام فلان بمكان كذا حولين أو يومين أو شهرين، وإنما أقام به يوما وبعض آخر أو شهرا وبعض آخر، أو حولاً وبعض آخر فقيل حولين كاملين ليعرف سامع ذلك أن الذي أريد به حولان تامان، لا حول وبعض آخر، وذلك كما قال الله تعالى ذكره: "وَاذْكُروا اللّهَ فِي أيّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تأخّرَ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ". ومعلوم أن المتعجل إنما يتعجل في يوم ونصف، فكذلك ذلك في اليوم الثالث من أيام التشريق، وأنه ليس منه شيء تام، ولكن العرب تفعل ذلك في الأوقات خاصة، فتقول: اليوم يومان منذ لم أره، وإنما تعني بذلك يوما وبعض آخر، وقد توقع الفعل الذي تفعله في الساعة أو اللحظة على العام والزمان واليوم، فتقول زرته عام كذا، وقتل فلان فلانا زمان صفّين، وإنما تفعل ذلك لأنها لا تقصد بذلك الخبر عن عدد الأيام والسنين، وإنما تعني بذلك الأخبار عن الوقت الذي كان فيه المخبر عنه، فجاز أن ينطق بالحولين واليومين على ما وصفت قبل، لأن معنى الكلام في ذلك: فعلته إذ ذاك، وفي ذلك الوقت. فكذلك قوله: "وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَيْنَ كامِلَيْنِ" لما جاز الرضاع في الحولين وليسا بالحولين، فكان الكلام لو أطلق في ذلك بغير تضمين الحولين بالكمال. وقيل: "وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَيْنَ" محتملاً أن يكون معنيا به حول وبعض آخر نفي اللبس عن سامعيه بقوله: "كامِلَيْنِ" أن يكون مرادا به حول وبعض آخر، وأُبين بقوله: "كامِلَيْنِ" عن وقت تمام حدّ الرضاع، وأنه تمام الحولين بانقضائهما دون انقضاء أحدهما وبعض الاَخر.
ثم اختلف أهل التأويل في الذي دلت عليه هذه الآية من مبلغ غاية رضاع المولودين، أهو حدّ لكل مولود، أو هو حدّ لبعض دون بعض؟ فقال بعضهم: هو حدّ لبعض دون بعض... عن ابن عباس في التي تضع لستة أشهر: أنها ترضع حولين كاملين، وإذا وضعت لسبعة أشهر أرضعت ثلاثة وعشرين لتمام ثلاثين شهرا، وإذا وضعت لتسعة أشهر أرضعت واحدا وعشرين شهرا.
وقال آخرون: بل ذلك حدّ رضاع كل مولود اختلف والداه في رضاعه، فأراد أحدهما البلوغ إليه، والاَخر التقصير عنه. وقال آخرون: بل دل الله تعالى ذكره بقوله: "وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَيْنَ كامِلَيْنِ" على أن لا رضاع بعد الحولين، فإن الرضاع إنما هو كان في الحولين... عن ابن عباس وابن عمر أنهما قالا: إن الله تعالى ذكره يقول: "وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَيْنَ كَامِلَيْنِ" ولا نرى رضاعا بعد الحولين يحرّم شيئا.
وقال آخرون: بل كان قوله: "وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَيْنَ كَامِلَيْنِ" دلالة من الله تعالى ذكره عباده على أن فرضا على والدات المولودين أن يرضعنهم حولين كاملين، ثم خفف تعالى ذكره ذلك بقوله: "لِمَنْ أرَادَ أنْ يُتِمّ الرّضَاعَةَ" فجعل الخيار في ذلك إلى الاَباء والأمهات إذا أرادوا الإتمام أكملوا حولين، وإن أرادوا قبل ذلك فطم المولود كان ذلك إليهم على النظر منهم للمولود. وأولى الأقوال بالصواب في قوله: "وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَيْنَ كامِلَيْنِ لِمَنْ أرَادَ أنْ يُتِمّ الرّضَاعَةَ" هو أنه دلالة على الغاية التي ينتهي إليها في الرضاع المولود إذا اختلف والده، وأن لا رضاع بعد الحولين يحرّم شيئا، وأنه معني به كل مولود لستة أشهر كان وِلادُه، أو لسبعة أو لتسعة.
فأما قولنا: إنه دلالة على الغاية التي ينتهي إليها في الرضاع عند اختلاف الوالدين فيه فلأن الله تعالى ذكره لما حدّ في ذلك حدا، كان غير جائز أن يكون ما وراء حدّه موافقا في الحكم ما دونه، لأن ذلك لو كان كذلك، لم يكن للحدّ معنى معقول. وإذا كان ذلك كذلك، فلا شك أن الذي هو دون الحولين من الأجل لما كان وقت رضاع، كان ما وراءه غير وقت له، وأنه وقت لترك الرضاع، وأن تمام الرضاع لما كان تمام الحولين، وكان التامّ من الأشياء لا معنى إلى الزيادة فيه، كان لا معنى للزيادة في الرضاع على الحولين، وأن ما دون الحولين من الرضاع لما كان محرّما، كان ما وراءه غير محرّم. وإنما قلنا هو دلالة على أنه معني به كل مولود لأيّ وقت كان ولاده، لستة أشهر، أو سبعة، أو تسعة، لأن الله تعالى ذكره عم بقوله: "وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَيْنَ كامِلَيْنِ" ولم يخصص به بعض المولودين دون بعض. وقد دللنا على فساد القول بالخصوص بغير بيان الله تعالى ذكره ذلك في كتابه، أو على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابنا «كتاب البيان عن أصول الأحكام» بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
فإن قال لنا قائل: فإن الله تعالى ذكره قد بين ذلك بقوله: "وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرا" فجعل ذلك حدا للمعنيين كليهما، فغير جائز أن يكون حمل ورضاع أكثر من الحد الذي حدّه الله تعالى ذكره، فما نقص من مدة الحمل عن تسعة أشهر، فهو مزيد في مدة الرضاع، وما زيد في مدة الحمل نقص من مدة الرضاع، وغير جائز أن يجاوز بهما كليهما مدة ثلاثين شهرا، كما حدّه الله تعالى ذكره؟ قيل له: فقد يجب أن يكون مدة الحمل على هذه المقالة إن بلغت حولين كاملين، ألاّ يرضع المولود إلا ستة أشهر، وإن بلغت أربع سنين أن يبطل الرضاع فلا ترضع، لأن الحمل قد استغرق الثلاثين شهرا وجاوز غايته. أو يزعم قائل هذه المقالة أن مدة الحمل لن تجاوز تسعة أشهر، فيخرج من قول جميع الحجة، ويكابر الموجود والمشاهد، وكفى بهما حجة على خطأ دعواه إن ادّعى ذلك، فإلى أيّ الأمرين لجأ قائل هذه المقالة وضح لذوي الفهم فساد قوله.
فإن قال لنا قائل: فما معنى قوله إن كان الأمر على ما وصفت: "وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرا" وقد ذكرت آنفا أنه غير جائز أن يكون ما جاوز حدّ الله تعالى ذكره نظير ما دون حدّه في الحكم، وقد قلت: إن الحمل والفصال قد يجاوزان ثلاثين شهرا؟ قيل: إن الله تعالى ذكره لم يجعل قوله: "وحَمْلُهُ وفصاله ثلاثون شهرا "حدا تعبد عباده بأن لا يجاوزه، كما جعل قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة"، حدا لرضاع المولود الثابت الرضاع، وتعبد العباد بحمل والديه عند اختلافهما فيه، وإرادة أحدهما الضرار به. وذلك أن الأمر من الله تعالى ذكره إنما يكون فيما يكون للعباد السبيل إلى طاعته بفعله والمعصية بتركه، فأما ما لم يكن لهم إلى فعله ولا إلى تركه سبيل، فذلك مما لا يجوز الأمر به ولا النهي عنه ولا التعبد به.
فإذ كان ذلك كذلك، وكان الحمل مما لا سبيل للنساء إلى تقصير مدته ولا إلى إطالتها، فيضعنه متى شئن، ويتركن وضعه إذا شئن كان معلوما أن قوله: "وحمله وفصاله ثلاثون شهرا"، إنما هو خبر من الله تعالى ذكره عن أن من خلقه من حملته وولدته وفصلته في ثلاثين شهرا لا أمر بأن لا يتجاوز في مدة حمله وفصاله ثلاثون شهرا، لما وصفنا. وكذلك قال ربنا تعالى ذكره في كتابه: (وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا) [سورة الأحقاف: 15]، فإن ظن ذو غباء أن الله تعالى ذكره إذ وصف أن من خلقه من حملته أمه ووضعته وفصلته في ثلاثين شهرا، فواجب أن يكون جميع خلقه ذلك صفتهم وأن ذلك دلالة على أن حمل كل عباده وفصاله ثلاثون شهرا فقد يجب أن يكون كل عباده صفتهم أن يقولوا إذا بلغوا أشدهم وبلغوا أربعين سنة: (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ) [سورة الأحقاف: 15]، على ما وصف الله به الذي وصف في هذه الآية.
وفي وجودنا من يستحكم كفره بالله، وكفرانه نعم ربه عليه، وجرأته على والديه بالقتل والشتم وضروب المكاره، عند استكماله الأربعين من سنيه وبلوغه أشده ما يعلم أنه لم يعن الله بهذه الآية صفة جميع عباده، بل يعلم أنه إنما وصف بها بعضا منهم دون بعض، وذلك ما لا ينكره ولا يدفعه أحد. لأن من يولد من الناس لسبعة أشهر، أكثر ممن يولد لأربع سنين ولسنتين؛ كما أن من يولد لتسعة أشهر، أكثر ممن يولد لستة أشهر ولسبعة أشهر.
{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}: وعلى آباء الصبيان للمراضع" رزقهن"، يعني: رزق والدتهن.
ويعني ب "الرزق ": ما يقوتهن من طعام، وما لا بد لهن من غذاء ومطعم.
و" كسوتهن"، ويعني: ب "الكسوة ": الملبس.
ويعني بقوله:"بالمعروف ": بما يجب لمثلها على مثله، إذ كان الله تعالى ذكره قد علم تفاوت أحوال خلقه بالغنى والفقر، وأن منهم الموسع والمقتر وبين ذلك. فأمر كلا أن ينفق على من لزمته نفقته من زوجته وولده على قدر ميسرته، كما قال تعالى ذكره: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا) [سورة الطلاق: 7].
وكما {لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلا وُسْعَهَا}: لا تحمل نفس من الأمور إلا ما لا يضيق عليها، ولا يتعذر عليها وجوده إذا أرادت. وإنما عنى الله تعالى ذكره بذلك: لا يوجب الله على الرجال من نفقة من أرضع أولادهم من نسائهم البائنات منهم، إلا ما أطاقوه ووجدوا إليه السبيل، كما قال تعالى ذكره: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ) [سورة الطلاق: 7].
والوسع: الفعل من قول القائل: وسعني هذا الأمر، ويقال: "هذا الذي أعطيتك وسعي"، أي: ما يتسع لي أن أعطيك، فلا يضيق علي إعطاؤكه. وأعطيتك من جهدي، إذا أعطيته ما يجهدك فيضيق عليك إعطاؤه.
فمعنى قوله:"لا تكلف نفس إلا وسعها"، هو ما وصفت: من أنها لا تكلف إلا ما يتسع لها بذل ما كلفت بذله، فلا يضيق عليها ولا يجهدها. {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ}:
اختلفت القرأة في قراءة ذلك؛ فقرأه عامة قرأة أهل الحجاز والكوفة والشام: "لا تضار والدة بولدها" بفتح الراء، بتأويل: لا تضارَرْ على وجه النهي.
وقرأ ذلك بعض أهل الحجاز وبعض أهل البصرة: "لا تضار والدة بولدها"، رفع، ومن قرأه كذلك لم يحتمل قراءته معنى النهي، ولكنها تكون على معنى الخبر عطفا بقوله: "لا تضار" على قوله: "لا تكلف نفس إلا وسعها".
وقد زعم بعض نحويي البصرة أن معنى من رفع:"لا تضار والدة بولدها"، هكذا في الحكم: -أنه لا تضار والدة بولدها- أي: ما ينبغي أن تضار. فلما حذفت ينبغي، وصار "تضار" في وضعه، صار على لفظه...
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ بالنصب، لأنه نهي من الله تعالى ذكره كل واحد من أبوي المولود عن مضارة صاحبه له، حرام عليهما ذلك بإجماع المسلمين. فلو كان ذلك خبرا، لكان حراما عليهما ضرارهما به كذلك.
عن مجاهد: "لا تضار والدة بولدها"، لا تأبى أن ترضعه ليشق ذلك على أبيه، ولا يضار الوالد بولده، فيمنع أمه أن ترضعه ليحزنها.
عن قتادة، قال: نهى الله تعالى عن الضرار وقدم فيه، فنهى الله أن يضار الوالد فينتزع الولد من أمه، إذا كانت راضية بما كان مسترضعا به غيرها= ونهيت الوالدة أن تقذف الولد إلى أبيه ضرارا.
وقال بعضهم: الوالدة التي نهى الرجل عن مضارتها: ظئر الصبي... فمعنى الكلام: لا يضارر والد مولود والدته بمولوده منها، ولا والدة مولود والده بمولودها منه، ثم ترك ذكر الفاعل في يضار، فقيل: لا تضار والدة بولدها، ولا مولود له بولده... فإذا كان الله تعالى ذكره قد نهى كل واحد من أبوي المولود عن مضارة صاحبه بسبب ولدهما، فحقّ على إمام المسلمين إذا أراد الرجل نزع ولده من أمه بعد بينونتها منه، وهي تحضنه وتكلفه وترضعه بما يحضنه به غيرها ويكلفه به ويرضعه من الأجرة، أن يأخذ الوالد بتسليم ولدها ما دام محتاجا الصبي إليها في ذلك بالأجرة التي يعطاها غيرها. وحقّ إذا كان الصبيّ لا يقبل ثدي غير والدته، أو كان المولود له لا يجد من يرضع ولده، وإن كان يقبل ثدي غير أمه، أو كان معدما لا يجد ما يستأجر به مرضعا ولا يجد ما يتبرّع عليه برضاع مولوده، أن يأخذ والدته البائنة من والده برضاعه وحضانته لأن الله تعالى ذكره حرم على كل واحد من أبويه ضرار صاحبه بسببه، فالإضرار به أحرى أن يكون محرّما مع ما في الإضرار به من مضارّة صاحبه.
"وَعَلى الوَارثِ مِثْلُ ذَلِكَ".
اختلف أهل التأويل في الوارث الذي عنى الله تعالى ذكره بقوله: "وَعَلى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ" وأي وارث هو؟ ووارث من هو؟ فقال بعضهم: هو وارث الصبي، وقالوا: معنى الآية: وعلى وارث الصبي إذا كان أبوه ميتا الذي كان على أبيه في حياته.
ثم اختلف قائلو هذه المقالة في وارث المولود الذي ألزمه الله تعالى مثل الذي وصف، فقال بعضهم: هم وارث الصبيّ من قبل أبيه من عصبته كائنا من كان أخا كان أو عمّا أو ابن عم أو ابن أخ... عن عطاء وقتادة في يتيم ليس له شيء: أتجبر أولياؤه على نفقته؟ قالا: نعم، ينفق عليه حتى يدرك.
عن الضحاك قال: إن مات أبو الصبيّ وللصبيّ مال أخذ رضاعه من المال، وإن لم يكن له مال أخذ من العصبة، فإن لم يكن للعصبة مال أجبرت عليه أمه.
وقال آخرون منهم: بل ذلك على وارث المولود من كان من الرجال والنساء.
عن قتادة أنه كان يقول: على وارث المولود ما كان على الوالد من أجر الرضاع إذا كان الولد لا مال له على الرجال والنساء على قدر ما يرثون.
وقال آخرون منهم: هو من ورثته من كان منهم ذا رحم محرم للمولود، فأما من كان ذا رحم منه وليس بمحرم كابن العم والمولى ومن أشبههما فليس من عناه الله بقوله: "وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ".
والذين قالوا هذه المقالة: أبو حنيفة، وأبو يوسف، محمد.
وقالت فرقة أخرى: بل الذي عنى الله تعالى ذكره بقوله: "وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ" المولود نفسه...الوارث: هو الصبي.
وتأويل ذلك على ما تأوّله هؤلاء: وعلى الوارث المولود مثل ما كان على المولود له.
وقال آخرون: بل هو الباقي من والدي المولود بعد وفاة الاَخر منهما. "مِثْلُ ذَلِكَ":
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "مِثْلُ ذَلِكَ"؛ فقال بعضهم: تأويله: وعلى الوارث للصبيّ بعد وفاة أبويه مثل الذي كان على والده من أجر رضاعه ونفقته إذا لم يكن للمولود مال.
وقال آخرون: بل تأويل ذلك: "وعلى الوارث مثل ذلك": أن لا يضارّ. وقال آخرون: بل تأويل ذلك: وعلى وارث المولود مثل الذي كان على المولود له من رزق والدته وكسوتها بالمعروف. وقال آخرون: معنى ذلك: وعلى الوارث مثل ما ذكره الله تعالى ذكره. وأولى الأقوال بالصواب في تأويل قوله: "وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ": أن يكون المعنى بالوارث: المولود، وفي قوله: "مِثْلُ ذَلِكَ" أن يكون معنيا به مثل الذي كان على والده من رزق والدته وكسوتها بالمعروف إن كانت من أهل الحاجة، وهي ذات زمانة وعاهة، ومن لا احتراف فيها ولا زوج لها تستغني به، وإن كانت من أهل الغنى والصحة فمثل الذي كان على والده لها من أجر رضاعة.
وإنما قلنا هذا التأويل أولى بالصواب مما عداه من سائر التأويلات التي ذكرناها، لأنه غير جائز أن يقال في تأويل كتاب الله تعالى ذكره قول إلا بحجة واضحة على ما قد بينا في أول كتابنا هذا وإذ كان ذلك كذلك، وكان قوله: "وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ" محتملاً ظاهره: وعلى الوارث الصبي المولود مثل الذي كان على المولود له، ومحتملاً. وعلى وارث المولود له مثل الذي كان عليه في حياته من ترك ضرار الوالدة ومن نفقة المولود، وغير ذلك من التأويلات على نحو ما قد قدمنا ذكره، وكان الجميع من الحجة قد أجمعوا على أن من ورثة المولود من لا شيء عليه من نفقته وأجر رضاعه، وصحّ بذلك من الدلالة على أن سائر ورثته غير آبائه وأمهاته وأجداده وجداته من قِبَل أبيه أو أمه في حكمه، في أنهم لا يلزمهم له نفقة ولا أجر رضاع، إذ كان مولى النعمة من ورثته، وهو ممن لا يلزمه له نفقة ولا أجر رضاع فوجب بإجماعهم على ذلك أن حكم سائر ورثته غير من استثني حكمه وكان إذا بطل أن يكون معنى ذلك ما وصفنا من أنه معنّي به ورثة المولود، فبطول القول الاَخر وهو أنه معنّي به ورثة المولود له سوى المولود أحرى، لأن الذي هو أقرب بالمولود قرابة ممن هو أبعد منه إذا لم يصحّ وجوب نفقته وأجر رضاعه عليه، فالذي هو أبعد منه قرابة أحرى أن لا يصحّ وجوب ذلك عليه.
وأما الذي قلنا من وجوب رزق الوالدة وكسوتها بالمعروف على ولدها إذا كانت الوالدة بالصفة التي وصفنا على مثل الذي كان يجب لها من ذلك على المولود له، فما لا خلاف فيه من أهل العلم جميعا، فصح ما قلنا في الآية من التأويل بالنقل المستفيض وراثة عمن لا يجوز خلافه، وما عدا ذلك من التأويلات فمتنازع فيه، وقد دللنا على فساده.
"فإنْ أرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِمَا": إن أراد والد المولود ووالدته فصالاً، يعني فصال ولدهما من اللبن. ويعني بالفصال: الفطِام، وهو مصدر من قول القائل: فاصلت فلانا أفاصله مفاصلة وفِصالاً: إذا فارقه من خلطة كانت بينهما، فكذلك فصال الفطيم، إنما هو منعه اللبن وقطعه شربه، وفراقه ثدي أمّه إلا الاغتذاء بالأقوات التي يغتذي بها البالغ من الرجال. "عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُما وتَشَاوُرٍ": فإنه يعني بذلك: عن تراض من والدي المولود وتشاور منهما.
ثم اختلف أهل التأويل في الوقت الذي أسقط الله الجناح عنها إن فطماه عن تراض منهما وتشاور، وأيّ الأوقات الذي عناه الله تعالى ذكره بقوله: "فإنْ أرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُما وتَشَاوُرٍ"؛ فقال بعضهم: عنى بذلك: فإن أرادا فصالاً في الحولين عن تراض منهما وتشاور، فلا جناح عليهما... عن السدي: فإنْ أرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُما وتَشَاوُرٍ يقول: إذا أرادا أن يفطماه قبل الحولين فتراضيا بذلك، فليفطماه.
وقال آخرون: معنى ذلك: "فإن أراد فصالاً عن تراض منهما وتشاور، فلا جناح عليهما" في أيّ وقت أرادا ذلك، قبل الحولين أراد ذلك أم بعد الحولين. "عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُما وتَشَاوُرٍ": عن تراض منهما وتشاور فيما فيه مصلحة المولود لفطمه. وأولى التأويلين بالصواب، تأويل من قال: فإن أراد فصالاً في الحولين عن تراض منهما وتشاور، لأن تمام الحولين غاية لتمام الرضاع وانقضائه، ولا تشاور بعد انقضائه وإنما التشاور والتراضي قبل انقضاء نهايته. فإن ظنّ ذو غفلة أن للتشاور بعد انقضاء الحولين معنى صحيحا، إذا كان من الصبيان من تكون به علة يحتاج من أجلها إلى تركه والاغتذاء بلبن أمه، فإن ذلك إذا كان كذلك، فإنما هو علاج كالعلاج بشرب بعض الأدوية لا رضاع. فأما الرضاع الذي يكون في الفصال منه قبل انقضاء آخره تراض وتشاور من والدي الطفل الذي أسقط الله تعالى ذكره لفطمهما إياه الجناح عنهما قبل انقضاء آخر مدته، فإنما الحدّ الذي حدّه الله تعالى ذكره بقوله: "وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أوْلاَدَهُنّ حَوْلَيْن كامِلَيْنِ لمَنْ أرَادَ أنْ يُتِمّ الرّضاعَةَ" على ما قد أتينا على البيان عنه فيما مضى قبل. وأما الجناح: فالحرج.
"وَإنْ أرَدْتُمْ أنْ تَسْتَرْضِعُوا أوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكَمْ إذَا سَلّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بالمَعْرُوفِ": وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم مراضع غير أمهاتهم إذا أبت أمهاتهم أن يرضعنهم بالذي يرضعنهم به غيرهن من الأجر، أو من خيفة ضيعة منكم على أولادكم بانقطاع ألبان أمهاتهم أو غير ذلك من الأسباب، فلا حرج عليكم في استرضاعهن إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف.
عن الضحاك، قال: ليس للمرأة أن تترك ولدها بعد أن يصطلحا على أن ترضع، ويسلمان ويجبران على ذلك. قال: فإن تعاسروا عند طلاق أو موت في الرضاع فإنه يعرض على الصبيّ المراضع، فإن قبل مرضعا صار ذلك وأرضعته، وإن لم يقبل مرضعا فعلى أمه أن ترضعه بالأجر إن كان له مال أو لعصبته، فإن لم يكن له مال ولا لعصبته أكرهت على رضاعه.
واختلفوا في قوله: "إذَا سَلّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بالمَعْرُوفِ"؛ فقال بعضهم: معناه: إذا سلمتم لأمهاتهم ما فارقتموهنّ عليه من الأجرة على رضاعهن بحساب ما استحقته إلى انقطاع لبنها، أو الحال التي عذر أبو الصبّي بطلب مرضع لولده غير أمه واسترضاعه له.
وقال آخرون: معنى ذلك: إذا سلمتم للاسترضاع عن مشورة منكم ومن أمهات أولادكم الذين تسترضعون لهم، وتراض منكم ومنهن باسترضاعهم. وقال آخرون: بل معنى ذلك: إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف إلى التي استرضعتموها بعد إباء أم المرضع من الأجرة بالمعروف.
وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك قول من قال تأويله: وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم إلى تمام رضاعهن، ولم تتفقوا أنتم ووالدتهم على فصالهم، ولم تروا ذلك من صلاحهم، فلا جناح عليكم أن تسترضعوهم ظؤورة إن امتنعت أمهاتهم من رضاعهم لعلة بهنّ أو لغير علة إذا سلمتم إلى أمهاتهم وإلى المسترضعة الاَخرة حقوقهنّ التي آتيتموهنّ بالمعروف. يعني بذلك المعنى الذي أوجبه الله لهنّ عليكم، وهو أن يوفيهنّ أجورهنّ على ما فارقهنّ عليه في حال الاسترضاع ووقت عقد الإجارة.
وإنما قضينا لهذا التأويل أنه أولى بتأويل الآية من غيره، لأن الله تعالى ذكره ذكر قبل قوله: "وَإنْ أرَدْتُمْ أنْ تَسْتَرْضِعُوا أوْلادَكُمْ" أمر فصالهم، وبين الحكم في فطامهم قبل تمام الحولين الكاملين، فقال: "فإنْ أرَادَا فصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُما" في الحولين الكاملين، "فلا جناح عليها". فالذي هو أولى بحكم الآية، إذ كان قد بين فيها وجه الفصال قبل الحولين أن يكون الذي يتلو ذلك حكم ترك الفصال وإتمام الرضاع إلى غاية نهايته، وأن يكون إذ كان قد بين حكم الأم إذا هي اختارت الرضاع بما يرضع به غيرها من الأجرة، أن يكون الذي يتلو ذلك من الحكم بيان حكمها وحكم الولد إذا هي امتنعت من رضاعه كما كان ذلك كذلك في غير هذا الموضع من كتاب الله تعالى، وذلك في قوله: "فإنْ أرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنّ أجُورُهَنّ وأتْمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى"، فأتبع ذكر بيان رضا الوالدات برضاع أولادهن، ذكر بيان امتناعهنّ من رضاعهن، فكذلك ذلك في قوله: "وَإنْ أرَدْتُمْ أنْ تَسْتَرْضِعُوا أوْلادَكُمْ". وإنما اخترنا في قوله: "إذَا سَلّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بالمَعْرُوفِ" ما اخترنا من التأويل لأن الله تعالى ذكره فرض على أبي المولود تسليم حقّ والدته إليها مما آتاها من الأجرة على رضاعها له بعد بينونتها منه، كما فرض عليه ذلك لمن استأجره لذلك ممن ليس من مولده بسبيل وأمره بإيتاء كل واحدة منهما حقها بالمعروف على رضاع ولده فلم يكن قوله: «إذا سلمتم» بأن يكون معنيا به إذا سلمتم إلى أمهات أولادكم الذين يرضعون حقوقهن بأولى منه بأن يكون معنيا به إذا سلمتم ذلك إلى المراضع سواهن ولا الغرائب من المولود بأولى أن يكنّ معنيات بذلك من الأمهات، إذ كان الله تعالى ذكره قد أوجب على أبي المولود لكل من استأجره لرضاع ولده من تسليم أجرتها إليها مثل الذي أوجب عليه من ذلك للأخرى، فلم يكن لنا أن نحيل ظاهر تنزيل إلى باطن ولا نقل عام إلى خاص إلا بحجة يجب التسليم لها فصح بذلك ما قلنا.
"بالمَعْرُوفِ": بالإجمال والإحسان وترك البخس والظلم فيما وجب للمراضع.
"وَاتّقُوا اللّهَ وَاعْلَمُوا أنّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصيرٌ": وَاتّقُوا اللّهَ وخافوا الله فيما فرض لبعضكم على بعض من الحقوق، وفيما ألزم نساءكم لرجالكم ورجالكم لنسائكم، وفيما أوجب عليكم لأولادكم فاحذروه أن تخالفوه فتعتدوا في ذلك وفي غيره من فرائضه وحقوقه حدوده، فتستوجبوا بذلك عقوبته، واعلموا أن الله بما تعملون من الأعمال أيها الناس سرّها وعلانيتها، وخفيها وظاهرها، وخيرها وشرّها، بصير يراه ويعلمه، فلا يخفى عليه شيء، ولا يغيب عنه منه شيء، فهو يحصي ذلك كله عليكم حتى يجازيكم بخير ذلك وشرّه. ومعنى بصير ذو إبصار، وهو في معنى مبصر.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{والوالدات يرضعن أولادهن} [قال بعضهم: هن المطلقات {يرضعن أولادهن}، وهو كقوله تعالى: {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} [الطلاق: 6]، ذكر ههنا الأجر، وذكر هناك الرزق والكسوة، وهما واحد، وقال آخرون: لا؛ ولكن قوله: {والوالد يرضعن أولادهن}: هن المنكوحات، وقوله: {فإن أرضعن لكم فأتوهن أجورهن} [الطلاق: 6]: هن المطلقات. دليل ذلك الأجر في أحدهما وذكر الرزق والكسوة في الأخرى، على أن المنكوحة إذا استؤجرت على رضاع ولدها منه، ويستوجب قبل الزوج الرزق والكسوة، فدل هذا على أن ذكر الأجر في المطلقات وذكر الرزق والكسوة في المنكوحات.
فإن قيل: ما فائدة ذكر الرزق والكسوة في المنكوحات في الرضاع؟ وقد يستوجب ذلك في غير الراضع؟ قيل: فائدة ذكر الرزق والكسوة فيه، والله أعلم، لأنها تحتاج إلى فضل طعام وفضل كسوة لمكان الرضاع، ألا ترى أن لها أن تفطر لذلك؟ فثبت أن لها فضل حاجة في حال الرضاع ما لا تقع لها تلك الحاجة في غير حال الرضاع، فخرج ذكر الرزق والكسوة فيه... ذكر تلك الزيادة والفضل، والله أعلم...
وفي القرآن أن مؤنة الرضاع على الأب من أوجه: أحدهما: قوله تعالى: {وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى} [الطلاق: 6]، والثاني: قوله [عز وجلا]: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف}، والثالث: قوله [تعالى]: {لمن أراد أن يتم الرضاعة} فثبت أنه حق على الوالد إلى أن ذكر فيه إيتاء الآخر. وفيه دلالة على أن شرط الطعام والكسوة للظئر يجوز بقوله: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن} غير أن الكسوة لا تجوز إلا بإعلام الجنس، والطعام يجوز؛ لأن الظئر لا تكسى كسوة الأهل، وتطعم طعامهم، فلا بد في الكسوة ليست بذات غاية تعرف، فاحتيج إلى ذكر الجنس ليقع في حد قرب المعرفة والعلم. أما الطعام فهو ذو غاية عند الناس غير متفاوت ولا متفاضل عندهم، لذلك جاز هذا، ولم يجز الآخر إلا أن يعلم الجنس، فإذا أعلم الجنس فحينئذ يصير عندهم كالطعام، والله أعلم...
وقوله: {حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} ليس فيه جعل الحولين شرطا في الرضاع [لوجوه]:
أحدهما: قوله: {لمن أراد أن يتم الرضاعة} فلو لم يحتمل الزيادة والنقصان لم يكن قوله: {لمن أراد} معنى.
والثاني: الإرادة والقدرة ربما تذكر على غير إرادة وقدرة في الحقيقة، ولكن على إرادة حقيقة الفعل، دليله قوله صلى الله عليه وسلم: (من أراد الحج فليفعل كذا، ومن استطاع [أن يفعل] كذا فيفعل) [بنحو أحمد 1/214] ليس ذلك على حقيقة القدرة والإرادة. ولكن هذا، والله أعلم، على معنى: من فعل كذا فليفعل كذا. فكذلك الأول ليس على حقيقة الإرادة ولكن ذكر تلك لما لم يكن الفعل إلا القدرة وإرادة، والله أعلم.
والثالث: لا يخلو ال {حولين} من أن يقدر بالأهلة، فقد ينتقص عن سنتين، أو أن يقدر بالأيام، فقد يزداد على المعروف من الوقت، فثبت أنه بحيث الاحتمال لما ذكرنا، إذ يحتمل {لمن أراد} أن يزيد حتى يتم، أو {لمن أراد} أن يقتصر على التمام. على أن الآية ليست في حق الحرمة، لكنها في حق الفعل؛ إذ قد تجب الحرمة لا بحولين. وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه في تأولي قوله: {وحمله وفصلاه ثلاثون شهرا} [الأحقاف: 15] وقوله: {وفصلاه في عامين} [لقمان: 14] [أنه] قال: (إن كان الحمل ستة أشهر ففصاله في عامين، وإن كان تسعة أشهر فيقدر الباقي) فدل هذا على أن الحولين ليسا بشرط في الفطام، ولا وقت له، يجوز الزيادة عليه ولا النقصان، والله أعلم...
وقوله: {لا تكلف نفس إلا وسعها}... يعني طاقتها وقدرتها... ومعناه: لا يكلف الزوج بالإنفاق عليها والكسوة إلا ما يحتمل ملكه، وإن كانت حاجتها تفضل عما يحتمله ملكه، لم يفرض عليه إلا ما احتمله [ملكه]، والله أعلم، كقوله: {لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها} [الطلاق: 7]...
وقوله: {وعلى الوارث مثل ذلك} اختلف في تأويله]؛ [ف] قال بعضهم...: هو راجع إلى النفقة والكسوة دون المضارة، وهو قولنا لوجهين:
أحدهما: أن نسق الكلام إنما هو على قوله: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} فنسقه على حرف {على} أولى من نسقه على حرف {لا} يتضح لأنه لو حمل على قوله: {لا تضار} لكان ما يوازيه من الكلام، إنما هو الوارث مثل ذلك.
والثاني: أنه لو حمل على إضرار من الوارث بالولد في الميراث لقال: وعلى المورث بحق الميراث، فلا ضرر يقع فيه، بل يقع الإنفاق، فثبت أن حمله عليه أحق...
ثم اختلف في قوله: {وعلى الوارث}؛ قال بعضهم: أراد بالوارث الوالد والأم والجد، ولا يدخل ذو الرحم المحرم فيه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
غايةُ الرحمة التي يُضْرب بها المَثَلُ رحمةُ الأمهات؛ فأَمَرَ الله سبحانه الأمهاتِ بإكمال الرحمة بإرضاع المولود حَوْلَين كاملين، وقطعُ الرضاعة عنه قبل الحولين إشارةٌ إلى أن رحمة الله بالعبد أتمُّ من رحمة الأمهات...
{لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا}. ادخارُ المستطاع بُخْلٌ، والوقوفُ -عند العجز- عذر...
{وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}. يعني الوالد بولده يعني فيما يلزم من النفقة والشفقة. فكما يجب حق المولود على الوالدين يجب حق الوالدين على المولود...
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
قرأ ابن كثير: {ما آتيتم}: وفي الروم {وما آتيتم من ربا} بقصر الألف، ومعناه ما فعلتم يقال: أتيت جميلاً إذا فعلته، فعلى هذه القراءة يكون التسليم بمعنى الطاعة والانقياد، لا بمعنى تسليم الأجرة، يعني إذا سلمتم لأمره، وانقدتم لحكمه، وقيل: إذا سلمتم للاسترضاع عن تراض واتفاق دون الضرار...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{بالمعروف} متعلق بسلمتم، أمروا أن يكونوا عند تسليم الأجرة مستبشري الوجوه. ناطقين بالقول الجميل، مطيبين لأنفس المراضع بما أمكن، حتى يؤمن تفريطهن بقطع معاذيرهن...
هذا الكلام وإن كان في اللفظ خبرا إلا أنه في المعنى أمر وإنما جاز ذلك لوجهين الأول: تقدير الآية: والوالدات يرضعن أولادهن في حكم الله الذي أوجبه، إلا أنه حذف لدلالة الكلام عليه والثاني: أن يكون معنى يرضعن: ليرضعن، إلا أنه حذف ذلك للتصرف في الكلام مع زوال الإيهام...
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{واتقوا الله}: مبالغة في المحافظة على ما شرع في أمر الأطفال والمراضع...
وعبر ب {إنْ} دون {إِذَا} لأن النفوس مجبولة على محبة الولد فإرادتهم الفصال أقل بالنسبة إلى إرادة الرضاع، فكأنه غير واقع، أو يكون أفاد أنّه غير مرجوح شرعا. وعبر في الثاني ب {إذا} لأن استرضاع الولد للأجنبية مرجوح بالنسبة إلى إرضاع أمه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان النكاح قد يكون عنه ولادة فيكون عنها رضاع وقد تكون المرضعة زوجة وقد تكون أجنبية والزوجة قد تكون متصلة وقد تكون منفصلة وكان الفراق بالطلاق أكثر منه بالموت وسّطه بين عدتي الطلاق والوفاة لإدلائه إلى كل بسبب واهتماماً بشأنه وحثاً على الشفقة على الصغير وشدة العناية بأمره لأن الأم ربما كانت مطلقة فاستهانت بالولد إيذاء للزوج إن كان الطلاق عن شقاق أو رغبة في زوج آخر، وكذا الأب فقال تعالى عاطفاً على ما تقديره مثلاً: فالنساء لهن أحكام كثيرة وقد علمتم منها هنا أصولاً تفهم من بصره الله كثيراً من الفروع، والمطلقات إن لم يكن بينكم وبينهن علقة بولادة أو نحوها فلا سبيل لكم عليهن.
قال الحرالي: لما ذكر سبحانه وتعالى أحكام الاشتجار بين الأزواج التي عظم متنزل الكتاب لأجلها وكان من حكم تواشج الأزواج وقوع الولد وأحكام الرضاع نظم به عطفاً أيضاً على معاني ما يتجاوزه الإفصاح ويتضمنه الإفهام لما قد علم من أن إفهام القرآن أضعاف إفصاحه بما لا يكاد ينتهي عده فلذلك يكثر فيه الخطاب عطفاً أي على غير مذكور ليكون الإفصاح أبداً مشعراً بإفهام يناله من وهب روح العقل من الفهم كما ينال فقه الإفصاح من وهبه الله نفس العقل الذي هو العلم فقال تعالى: {والوالدات} أي من المطلقات وغيرهن، وأمرهن بالإرضاع في صيغة الخبر الذي من شأنه أن يكون قد فعل وتم تنبيهاً على تأكيده وإن كان الندب بما أفهمه إيجاب الأجرة لهن هنا و في سورة الطلاق وما يأتي من الاسترضاع فقال: {يرضعن أولادهن}. قال الحرالي: جعل تعالى الأم أرض النسل الذي يغتذي من غذائها في البطن دماً كما يغتذي أعضاؤها من دمها فكان لذلك لبنها أولى بولدها من غيرها ليكون مغذاه وليداً من مغذاه جنيناً فكان الأحق أن يرضعن أولادهن، وذكره بالأولاد ليعم الذكور والإناث؛ وقال: الرضاعة التغذية بما يذهب الضراعة وهو الضعف والنحول بالرزق الجامع الذي هو طعام وشراب وهو اللبن الذي مكانه الثدي من المرأة والضرع من ذات الظلف...
ولما ذكر الرضاع ذكر مدته ولما كان المقصود مجرد تحول الزمان بفصوله الأربعة... فقال: {حولين} و الحول تمام القوة في الشيء الذي ينتهي لدورة الشمس وهو العام الذي يجمع كمال النبات الذي يتم فيه قواه -قاله الحرالي. وكأنه مأخوذ مما له قوة التحويل.
ولما كان الشيء قد يطلق على معظمه مجازاً فيصح أن يراد حول و بعض الثاني بين أن المراد الحقيقة قطعاً لتنازع الزوجين في مدة الرضاع وإعلاماً بالوقت المقيد للتحريم... "بقوله: {كاملين}
ولما كان ذلك ربما أفهم وجوب الكمال نفاه بقوله: {لمن} أي هذا الحكم لمن {أراد أن يتم الرضاعة} فأفهم أنه يجوز الفطام للمصلحة قبل ذلك وأنه لا رضاع بعد التمام... قال الحرالي: وهو أي الذي يكتفى به دون التمام هو ما جمعه قوله تعالى: {وحمله وفصاله ثلاثون شهراً} [الأحقاف: 15] فإذا كان الحمل تسعاً كان الرضاع أحداً وعشرين شهراً، وإذا كان حولين كان المجموع ثلاثاً وثلاثين شهراً فيكون ثلاثة آحاد وثلاثة عقود فيكون ذلك تمام الحمل والرضاع ليجتمع في الثلاثين تمام الرضاع وكفاية الحمل...
ولما أوهم أن ذلك يكون مجاناً نفاه بقوله: {وعلى} ولما كانت الوالدية لا تتحقق في الرجل كما تتحقق في المرأة وكان النسب يكتفى فيه بالفراش وكان للرجل دون المرأة فقال: {المولود له} أي على فراشه {رزقهن} أي المرضعات لأجل الرضاع سواء كن متصلات أو منفصلات فلو نشزت المتصلة لم يسقط وإن سقط ما يخص الزوجية.
ولما كان اشتغالها بالرضاع عن كل ما يريده الزوج من الاستمتاع ربما أوهم سقوط الكسوة ذكرها فقال: {وكسوتهن} أجرة لهن. قال الحرالي: الكسوة رياش الآدمي الذي يستر ما ينبغي ستره من الذكر والأنثى وقال: فأشعرت إضافة الرزق والكسوة إليهن باعتبار حال المرأة فيه وعادتها بالسنة لا بالبدعة...
ولما كان الحال مختلفاً في النفقة والكسوة باختلاف أحوال الرجال والنساء قال: {بالمعروف} أي- من حال كل منهما. قال الحرالي: فأكد ما أفهمته الإضافة وصرح الخطاب بإجماله...
ثم علله أو فسره بالحنيفية التي منَّ علينا سبحانه وتعالى بها فقال: {لا تكلف} قال الحرالي: من التكليف وهو أن يحمل المرء على أن يكلف بالأمر كلفة بالأشياء التي يدعوه إليها طبعه {نفس} أي لا يقع تكليفها وإن كان له سبحانه وتعالى أن يفعل ما يشاء {إلا وسعها} أي ما تسعه وتطيقه لا كما فعل سبحانه بمن قبل، كان أحدهم يقرض ما أصاب البول من جلده بالمقراض والوسع قال الحرالي ما يتأتى بمنة وكمال قوة.
ولما كانت نتيجة ذلك حصول النفع ودفع الضر قال: {لا تضار والدة بولدها} أي لا تضر المنفق به ولا يضرها، وضم الراء ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب على الخير وهو آكد، وفتح الباقون على النهي، ويحتمل فيها البناء للفاعل والمفعول {ولا مولود له بولده} أي المولود على فراشه ليس له أن يضر الوالدة به وليس لها أن تضره به ولا أن تضر الولد بتفريط ونحوه حملاً للمفاعلة على الفعل المجرد، وكل من أسند سبحانه وتعالى المضارة إليه أضاف إليه الولد استعطافاً له عليه وتحريكاً لطبعه إلى مزيد نفعه.
قال الحرالي: ففيه إيذان بأن لا يمنع الوالد الأم أن ترضع ولدها فيضرها في فقدها له ولا يسيء معاملتها في رزقها وكسوتها بسبب ولدها، فكما لم يصلح أن يمسكها زوجة إلا بمعروف لم يصلح أن يسترضعها إلا بالمعروف ولا يتم المعروف إلا بالبراءة من المضارة. وفي إشعاره تحذير الوالدات من ترك أولادهن لقصد الإضرار مع ميل الطبع إلى القيام بهم وكذلك في إشعاره أن لا تضره في سرف رزق ولا كسوة...
ولما تم الأمر بالمعروف وما تبعه من تفسيره وكان ذلك على تقدير وجود الوالد إذ ذاك بين الحال بعده فقال: {وعلى الوارث} أي وارث الوالد وهو الرضيع {مثل ذلك} أي المأمور به من المعروف على ما فسره به في ماله إن مات والده والوارث. قال الحرالي: المتلقى من الأحياء عن الموتى ما كان لهم من حق أو مال...
وقيل في الوارث غير ذلك لأنه تقدم ذكر الوالدات والولد والمولود له فاحتمل أن يضاف الوارث إلى كل منهم.
ولما بين أمد الرضاع وأمر النفقة صرح بما أفهمه الكلام من جواز الفطام قبل التمام فقال مسبباً عما أفهمته العبارة: {فإن أرادا} أي الوالدان {فصالاً} أي فطاماً قبل تمام الحولين للصغير عن الرضاع. قال الحرالي: وهو من الفصل وهو عود المتواصلين إلى بين سابق...
ولما بين ذلك نبه على أنه لا يجوز إلا مع المصلحة فقال: {عن تراض منهما} ثم بين أن الأمر خطر يحتاج إلى تمام النظر بقوله: {وتشاور} أي إدارة للكلام في ذلك ليستخرج الرأي الذي ينبغي أن يعمل به.
قال الحرالي: فأفصح بإشعار ما في قوله: {أن يتم} وأن الكفاية قد تقع بدون الحولين فجعل ذلك لا يكون برياً من المضارة إلا باجتماع إرادتهما وتراضيهما وتشاورهما لمن له تبصرة لئلا تجتمعا على نقص الرأي، قال عليه الصلاة والسلام "ما خاب من استخار ولا ندم من استشار "والمشورة أن تستخلص حلاوة الرأي وخالصه من خلايا الصدور كما يشور العسل جانيه...
{فلا جناح عليهما} فيما نقصاه عن الحولين لأنهما غير متهمين في أمره واجتماع رأيهما فيه ورأي من يستشيرانه قلّ ما يخطئ. قال الحرالي: فيه إشعار بأنها ثلاث رتب: رتبة تمام فيها الخير والبركة، ورتبة كفاية فيها رفع الجناح، وحالة مضارة فيها الجناح... وقد أفهم تمام هذه العناية أن الإنسان كلما كان أضعف كانت رحمة الله له أكثر وعنايته به أشد.
ولما بين رضاع الوالدات وقدمه دليلاً على أولويته أتبعه ما يدل على جواز غيره فقال: {وإن أردتم} أي أيّها الرجال {أن تسترضعوا} أي أن تطلبوا من يرضع {أولادكم} من غير الأمهات {فلا جناح} أي ميل بإثم {عليكم إذا سلمتم} أي إلى المراضع {ما آتيتم} أي ما جعلتم لهن من العطاء {بالمعروف} موفراً طيبة به أنفسكم من غير تشاحح ولا تعاسر لأن ذلك أقطع لمعاذير المراضع فهو أجدر بالاجتهاد في النصيحة وعدم التفريط في حق الصغير.
ولما كان التقدير: فافعلوا جميع ما أمرتكم به وانتهوا عن جميع ما نهيتكم عنه فقد جمعت لكم مصالح الدارين في هذا الكتاب الذي هو هدى للمتقين، عطف عليه قوله: {واتقوا الله} أي الذي له القدرة الشاملة والعلم الكامل. ثم خوفهم سطواته بقوله منبهاً على عظم هذه الأحكام {واعلموا} وعلق الأمر بالاسم الأعظم الجامع لجميع الأسماء الحسنى فقال: {أن الله} أي المحيط بصفات الكمال تعظيماً للمقام ولذلك أكد علمه سبحانه وتعالى هنا على نحو ما مضى في {وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم} [البقرة: 215] بتقديم قوله للإعلام بمزيد الاهتمام {بما تعملون} أي من سر وعلن.
ولما كانت هذه الأحكام أدق مما في الآية التي بعدها وكثير منها منوط بأفعال القلوب ختمها بما يدل على البصر والعلم فقال: {بصير} أي بالغ العلم به فاعملوا بحسب ذلك.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{والوالدات يُرْضِعْنَ أولادهن} شروعٌ في بيان الأحكام المتعلقة بأولادهن خصوصاً واشتراكاً وهو أمرٌ أُخرِجَ مُخرجَ الخبر مبالغةً في الحمل على تحقق مضمونِه ومعناه الندبُ أو الوجوبُ إن خص بمادة عدم قَبول الصبيِّ ثديَ الغير أو فقدانِ الظِئْر أو عجزِ الوالدِ عن الاستئجار، والتعبيرُ عنهن بالعنوان المذكور لِهزّ عَطفِهن نحوَ أولادِهن، والحكمُ عام للمطلقات وغيرهن، وقيل: خاصٌّ بهن إذ الكلامُ فيهن.
{حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} التأكيدُ بصفة الكمال لبيان أن التقديرَ تحقيقيٌّ لا تقريبيٌّ مبني على المسامحة المعتادة.
{لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة}: بيانٌ لمن يُتوجّه إليه الحكمُ أي ذلك لمن أراد إتمامَ الرضاعة وفيه دلالةٌ على جواز النقص وقيل: اللام متعلقة ب"يرضعن" فإن الأبَ يجبُ عليه الإرضاعُ كالنفقة، والأمُ ترضع له كما يقال: أرضعت فلانةٌ لفلان ولدَه
{وَعلَى المولود لَهُ}: أي الوالد فإن الولد يولد له ويُنسَب إليه، وتغييرُ العبارة للإشارة إلى المعنى المقتضي لوجوب الإرضاعِ، ومؤونة المرضعة عليه
{رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ}: أجرةٌ لهن، واختلف في استئجار الأمِّ وهو غيرُ جائز عندنا ما دامت في النكاح أو العدة، جائزٌ عند الشافعي رحمه الله {بالمعروف} حسبما يراه الحاكم ويفي به وسعَه
{لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا}: تعليل لإيجاب المُؤَن بالمعروف أو تفسيرٌ للمعروف وهو نص على أنه تعالى لا يكلف العبدَ ما لا يُطيقُه وذلك لا ينافي إمكانه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{والوالدات يرضعن أولادهن}: أمر جاء بصيغة الخبر للمبالغة في تقريره... وزعم بعضهم أنه خبر على بابه أي أن شأن الوالدات ذلك، وأنت ترى أنه لا فائدة في الإخبار عن الواقع المعلوم للناس في مقام بيان الأحكام، وكأن صاحب هذا القول أراد أن يقوي به قول الفقهاء الذين يرون أنه لا يجب على الوالدة إرضاع ولدها إلا إذا تعينت مرضعا بأن كان لا يقبل غير ثديها كما يعهد من بعض الأطفال، أو كان الوالد عاجزا عن استئجار ظئر ترضعه، أو قدر ولم يجد الظئر، على أن هؤلاء الفقهاء لم يروا جعل الخبر بمعنى الأمر مانعا من حكمهم هذا، فقد حملوه على الندب في حال الاختبار، قالوا لأن لبن الأم أنفع للولد من لبن الظئر، وخاصة إذا لم يكن ولد الظئر في سنه، والظاهر الأمر للوجوب مطلقا فالأصل أنه يجب على الأم إرضاع ولدها واختاره الأستاذ الإمام، يعني إن لم يكن هناك عذر مانع من مرض ونحوه، ولا يمنع الوجوب جواز استنابة الظئر عنها مع أمن الضرر، لأن هذا هو الوجوب للمصلحة لا للتعبد، فهو كالنفقة على القريب بشرطها، فإذا اتفق الوالدان على استئجار ظئر ورأيا أنها تقوم مقام الوالدة فلا بأس...
وقال الأستاذ الإمام: إن لبن المرضع يؤثر في جسم الطفل وفي أخلاقه وسجاياه ولذلك يحتاط في انتقاء المراضع ويتجنب استرضاع المريضة وفاسدة الأخلاق والآداب، ولكن لا يخشى من لبن الأم وإن كان بها علة في بدنها أو في أخلاقها لأن ما يأخذه من طبيعتها فإنما يأخذه وهو في الرحم فاللبن لا يزيده شيئا...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
الحكم التالي يتعلق برضاع الأطفال بعد الطلاق.. إن دستور الأسرة لا بد أن يتضمن بيانا عن تلك العلاقة التي لا تنفصم بين الزوجين بعد الطلاق. علاقة النسل الذي ساهم كلاهما فيه، وارتبط كلاهما به؛ فإذا تعذرت الحياة بين الوالدين فإن الفراخ الزغب لا بد لها من ضمانات دقيقة مفصلة، تستوفي كل حالة من الحالات:... إن على الوالدة المطلقة واجبا تجاه طفلها الرضيع. واجبا يفرضه الله عليها ولا يتركها فيه لفطرتها وعاطفتها التي قد تفسدها الخلافات الزوجية، فيقع الغرم على هذا الصغير. إذن يكفله الله ويفرض له في عنق أمه. فالله أولى بالناس من أنفسهم، وأبر منهم وأرحم من والديهم. والله يفرض للمولود على أمه أن ترضعه حولين كاملين؛ لأنه سبحانه يعلم أن هذه الفترة هي المثلى من جميع الوجوه الصحية والنفسية للطفل.. {لمن أراد أن يتم الرضاعة} وتثبت البحوث الصحية والنفسية اليوم أن فترة عامين ضرورية لينمو الطفل نموا سليما من الوجهتين الصحية والنفسية. ولكن نعمة الله على الجماعة المسلمة لم تنتظر بهم حتى يعلموا هذا من تجاربهم. فالرصيد الإنساني من ذخيرة الطفولة لم يكن ليترك يأكله الجهل كل هذا الأمد الطويل، والله رحيم بعباده. وبخاصة بهؤلاء الصغار الضعاف المحتاجين للعطف والرعاية... وللوالدة في مقابل ما فرضه الله عليها حق على والد الطفل: أن يرزقها ويكسوها بالمعروف والمحاسنة؛ فكلاهما شريك في التبعة؛ وكلاهما مسؤول تجاه هذا الصغير الرضيع، هي تمده باللبن والحضانة وأبوه يمدها بالغذاء والكساء لترعاه؛ وكل منهما يؤدي واجبه في حدود طاقته: {لا تكلف نفس إلا وسعها}.. ولا ينبغي أن يتخذ أحد الوالدين من الطفل سببا لمضارة الآخرة: {لا تضار والدة بولدها، ولا مولود له بولده}.. فلا يستغل الأب عواطف الأم وحنانها ولهفتها على طفلها، ليهددها فيه أو تقبل رضاعة بلا مقابل. ولا تستغل هي عطف الأب على ابنه وحبه له لتثقل كاهله بمطالبها...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
انتقال من أحكام الطلاق والبينونة؛ فإنه لما نهى عن العضل، وكانت بعض المطلقات لهن أولاد في الرضاعة ويتعذر عليهن التزوج وهن مرضعات؛ لأن ذلك قد يضر بالأولاد، ويقلل رغبة الأزواج فيهن، كانت تلك الحالة مثار خلاف بين الآباء والأمهات، فلذلك ناسب التعرض لوجه الفصل بينهم في ذلك، فإن أمر الإرضاع مهم، لأن به حياة النسل، ولأن تنظيم أمره من أهم شؤون أحكام العائلة.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
بيّن الله سبحانه وتعالى حقوق الزوجين، وما لكل واحد منهما على صاحبه، ثم أحكام الافتراق إن لم تكن المودة سائدة، وبهذا بين العشرة الحسنة والتسريح بإحسان، أو الفراق الجميل. و بعد بيان حقوق الزوجين في الاجتماع والافتراق، أخذ سبحانه وتعالى يبين حقوق من كانوا ثمرة لهذا الزواج، في حالي الاجتماع والافتراق أيضا، وهذه الآية تبين ذلك، وقد ذكرت أول حق يتقرر للطفل فور ولادته، وهو حق التغذية الأولى التي تناسب سنه، وتكون لحمه، وتنشز عظمه، ولذا قال سبحانه وتعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة}. الوالدات: هن الأمهات، سواء أكن أزواجا لآباء الأولاد أم كن مطلقات منهم،
والتعبير عن الأمهات بالوالدات فيه إشارة إلى أمرين:
أحدهما – أنهن اللائي ولدنهم وكن الوعاء الذي برزوا منه إلى الوجود، ولقد تربوا فيه ومنه تغذوا، فكان من الحق أن يتغذوا منه حتى يستغنوا عنه، وفي هذا إيماء إلى وجوب الإرضاع على الأمهات.
و ثانيهما – أن الغذاء الذي يناسب الطفل في مهده هو الغذاء الذي يكون من نوع ما كان يتغذى منه في بطن أمه، وكان في التعبير بالوالدات إشارة إلى ذلك، لأن الولادة انفصال الحمل عن أمه وبروزه إلى الوجود، فهي تشير إلى الصلة بين المكان الذي خرج منه، وحياته التي يستقبلها، وذلك إيماء إلى وجوب التناسب بين الحالين، والتناسب بينهما من حيث الغذاء، يوجب التجانس بين حالي الغذاء، وذلك يوحي من جهة ثانية إلى وجوب إرضاع الأم ولدها، وهو ما سيقت له الجملة السامية.
وقوله تعالى: {حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} يفيد أن الإرضاع اللازم للغذاء لا يتجاوز حولين كاملين، و وصف الحولين بأنهما كاملان، للإشارة إلى النهاية الكاملة التي لا يدخلها تجاوز ولا تسامح، وليتناسب مع قوله: {لمن أراد أن يتم الرضاعة} و إن بيان الحدود من حيث الابتداء والانتهاء يجب أن يكون دقيقا، وإن الناس قد يعدون ما دون الحولين إذا كان قليلا كشهر أو نحوه غير ناقص للمدة، فذكر سبحانه وتعالى وصف الكمال، لينفي مثل هذا الاحتمال.
و في التعبير عن السنة بالحول في هذا المقال، إشارة إلى معنى دقيق، يبين أنه في انتهاء السنتين يكون الطفل قد بلغ حد الاستغناء، ذلك أن كلمة حول تدل على التحول من حال إلى حال، فيكون التعبير بها مشيرا إلى تحول الطفل في مدارج نموه من وقت ظهوره في الوجود، ورؤيته شمسه، فإنه ينتقل شهرا بعد آخر في التغذية، تبعا لنمو قواه، وحاجة جسمه، فهو يبتدئ ضعيفا لا يستطيع أن يتناول غذاءه إلا من ثدي أمه، ثم يتناول غيره قليلا، ثم يزاد حتى إذا أتى على الحولين حالت الحال، واستغنى تماما عن الرضاعة، ولذا قال سبحانه: {لمن أراد أن يتم الرضاعة} وهذه الجملة السامية تشير إلى أنه قد يستغني الطفل عن أمه قبل الحولين، وأن من أراد التمام إن وجدت أسبابه يصل إلى نهاية الحولين، سواء أ كان المريد الأب أو الأم.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
الربع الثالث من الحزب الرابع في المصحف الكريم:
وقد تناولت الآيات الكريمة في هذا الربع بجانب أحكام الرضاعة، عدة الوفاة، والتعريض بخطبة النساء أثناءها، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}. إلى آخر ما نزل في هذا الموضوع، وتناولت الطلاق قبل التمكن من الدخول، والصداق المحدود حين العقد والمحدود بعده، فقال تعالى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً}. إلى آخر ما نزل في نفس الموضوع، وتناولت وجوب المحافظة على الصلوات في حالتي الأمن والخوف، فقال تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ}. إلى آخر الآيات، وتناولت كذلك المتعة التي يقدمها الزوج لزوجته عند الفراق، فقال تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ}.
ومن هذه الآيات التي اشتمل عليها الدستور القرآني الكريم يتجلى مبلغ عناية الإسلام بتكوين نسل إسلامي صحيح سليم، ويتضح ما للطفل الوليد على ضعفه وضآلته من مكانة مرموقة وحرمة خاصة عند خالقه ورازقه، فهو سبحانه لم يترك أمره موكولا إلى شهوة الأب والأم، يفعل به كل منهما ما يشاء، بل تدخل الحق سبحانه وتعالى لتقرير حقوق الطفل على والديه، وطالبهما بصيانة هذه الحقوق وضمانها على الوجه الأكمل، منذ اللحظة الأولى التي يفارق فيها بطن أمه ويرى النور. وطبقا لمقتضى هذه الآيات تتكفل الأم نفسها بإرضاع وليدها، أداء لرسالة الأمومة على وجهها الكامل، دون كبر ولا بخل ولا أنانية، مادامت صحيحة سليمة، وتمتد مدة الرضاعة من ثدييها عامين كاملين، وذلك تمكينا للوليد من تغذيته تغذية طبيعية نظيفة، وحماية له من الجراثيم والعناصر الغريبة من جهة، ومن المواد الغذائية التي لا يقوى جهازه الضعيف على هضمها، من جهة أخرى، حتى يمر الوليد بمرحلة نموه الأولى-وهي أخطر المراحل- في سلامة وأمان، وراحة واطمئنان، فهذه هي الرضاعة التامة التي ينصح بها كتاب الله، إذ يقول: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}.
قال الإمام مالك: كل أم يلزمها رضاع ولدها بما أخبر الله تعالى من حكم الشريعة فيها. لكن إذا كانت للزوجين-الأب والأم-أو لأحدهما مصلحة مشروعة تستلزم التخفيض من مدة الرضاع المقدرة بسنتين، وتقتضي فطام وليدهما بعد مرور ما يقارب السنتين، ولم يكن ينتج عن هذا التخفيض والفطام المبكر أي ضرر على الوليد، فإن الشارع لا يقف في طريق التخفيض ولا يؤخذ عليه، بشرط أن يتم كل ذلك بعد اتفاق الأب والأم عليه، وتشاورهما وتراضيهما في شأنه، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً}. أي فطاما لوليدهما {عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}. ولم يغفل كتاب الله الإشارة إلى الحكم المشروع في الأحوال التي قد يضطر فيها إلى الاستغناء عن إرضاع الأم لوليدها، وتأجير ظئر لإرضاعه بدلا منها إذا كان يقبل الرضاع من غير أمه، مثال ذلك أن تكون الأم غير قادرة على القيام بإرضاع وليدها بحيث يخشى عليه من الضياع والتقصير إذا بقي في حضنها، أو أن يكون الأب في حالة فيزيولوجية لا تسمح له بالاستغناء عن زوجته مدة الرضاعة، بحيث يتضرر بانشغالها عنه، ويطالبها بالتفرغ له، أو لأن يكون الأب والأم يخافان على وليدهما من آثار الغيل وعواقبه السيئة، ففي مثل هذه الأحوال يتخير الأب لوليده مرضعة بأجر تنوب عن أمه، إما حفظا لمصلحة الوليد، وإما حفظا لمصلحة الوالدين، وذلك قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ}. ونظرا إلى أن نفقة الولد تجب على والده بحكم الشرع، ونظرا إلى أن تغذية ولده الرضيع إنما تتم عن طريق الرضاعة التي تقوم بها والدته، أو من ينوب عنها في إرضاعه، فقد أوجب الله على والد الرضيع أن ينفق على والدته أو مرضعته من غير تقتير ولا إسراف، في حدود استطاعته وعلى قدر حاله من سعة أو ضيق، ويشمل الإنفاق كل ما يلزم لمعيشتها وكسوتها، ويظهر وجه الحاجة إلى لزوم هذه النفقة بالنسبة للأم التي طلقها الأب قبل ولادة الطفل، أو طلقها عقب ولادته وإبان الرضاعة ولم يقبل الطفل إلا ثديها، وذلك قوله تعالى في هذا الربع من سورة البقرة: {وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا}. وقوله تعالى في سورة الطلاق: {فإِنَ أَرْضَعنَ لَكُم فَئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}.
انظر إلى عظمة الإسلام ها هو ذا الحق سبحانه يتكلم عن إرضاع الوالدات لأولادهن بعد عملية الطلاق، فالطلاق يورث الشقاق بين الرجل والمرأة، والحق سبحانه وتعالى ينظر للمسألة نظرة الرحيم العليم بعباده، فيريد أن يحمي الثمرة التي نتجت من الزواج قبل أن يحدث الشقاق بين الأبوين، فيبلغنا: لا تجعلوا شقاقكم وخلافكم وطلاقكم مصدر تعاسة للطفل البريء الرضيع. وهذا كلام عن المطلقات اللاتي تركن بيوت أزواجهن، لأن الله يقول بعد ذلك: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} ومادامت الآية تحدثت عن {رزقهن وكسوتهن} فذلك يعني أن المرأة ووليدها بعيدة عن الرجل، لأنها لو كانت معه لكان رزق الوليد وكسوته أمرا مفروغا منه. والحق سبحانه يفرض هنا حقا للرضيع، وأمه لم تكن تستحقه لولا الرضاع. وبعض الناس فهموا خطأ أن الرزق والكسوة للزوجات عموما ونقول لهم: لا. إن الرزق والكسوة هنا للمطلقات اللاتي يرضعن فقط...
ويريد الحق سبحانه أن يجعل هذا الحق أمرا مفروغا منه، فشرع حق الطفل في أن يتكفله والده بالرزق والكسوة حتى يكون الأمر معلوما لديه حال الطلاق. وقوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} نلحظ فيه أنه لم يأت بصيغة الأمر فلم يقل: يا والدات أرضعن، لأن الأمر عرضة لأن يطاع وأن يعصى، لكن الله أظهر المسألة في أسلوب خبري على أنها أمر واقع طبيعي ولا يخالف...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وهذا تخطيط شرعي لموضوع الرضاع في ما يخضع له من تحديد وما يترتب عليه من مسؤوليات، سواء في ذلك حالة بقاء العلاقات الزوجية أو حالة انقطاعها بالطلاق. وهذا أمر تفرضه الحاجة إلى رعاية الطفل في فترة الرضاع، وإلى الحقوق العاطفية والمادية التي تحكم علاقة الأم والأب في رعايتهما له. ففي مجال التحديد الزمني، تطرح الآية الحولين فترة طبيعية للرضاع ينبغي للوالدين أن يراعياها في تغذية الطفل وتنميته جسدياً. فربما كان في ذلك الكثير الكثير من العناصر الأساسية التي تبني له قوّته وتمنحه الحيوية والمناعة.
وهناك نقطة لا بُدَّ للأبوين من مراعاتها في مسألة الرضاع، فإنّه يمنح الطفل شعوراً بالأمان في عملية الاحتضان في حال الرضاع، كما يعطيه الإحساس بالامتلاء العاطفي الذي يتحوّل، تدريجياً، إلى حالة من الاسترخاء اللذيذ والقوّة الداخلية. والولد في حساب المسؤولية المادية هو ابن الأب؛ فهو الذي يكون النسب إليه، وهو الذي يجب عليه تربيته ورعايته وحفظه من كلّ سوء... أمّا الأم، فلا يجب عليها من ذلك أي شيء ما عدا الأمور التي تتوقف عليها الحياة مما لا يمكن لغيرها أن تقدّمه. فإذا أرادت أن تقوم بشيء من ذلك، كان لها الحقّ في طلب النفقة من رزق وكسوة كأجرة على خدماتها الرضاعية وغير الرضاعية.
ولعلّ التركيز على الرزق والكسوة من جهة ما يمثّلان من حاجة طبيعية للوالدة في ما تحتاجه مما تصرف فيه الأجرة التي تستحقها، لا لخصوصية فيها بالذات. ولا بُدَّ من أن تكون النفقة في حدود المعروف الذي يتمثّل بما تحتاجه مما يتناسب مع وضعها الاجتماعي من ناحية مادية؛ وذلك بالمستوى الذي لا يزيد على طاقة الرّجل في الإنفاق. فلا بُدَّ من مراعاة مستواه المادي، ليتناسب مع طاقته؛ وذلك هو قوله تعالى: {وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا}
وبذلك يتحقّق التوازن الإنساني في المسؤولية المادية. فإذا كان الرّجل غنياً في ماله، وكانت المرأة في مستوى معين من الحاجة، وكانت رعايتها للطفل تفرض عليها التفرغ له كما يوحي به جوّ الآية فقد يكون من الطبعي أن يراعي المشرّع حالة المرأة التي لا تضيق بها حالة الرّجل. أمّا إذا كانت موارده محدودة، بحيث لا يستطيع مواجهة حاجات المرأة بشكل كامل، فإنَّ الواجب عليه أن يعطيه جهده وطاقته في ما يملك من جهد الطاقة، لأنَّ من غير الطبيعي أن يكلّف غير ذلك مما لا تستطيعه موارده المالية...
وقد نستوحي هذا التوازن، الذي يلاحظ فيه التشريع الحالة الطبيعية لكلا الطرفين في قوله تعالى: {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ}، فقد نفهم منه أن لا يحاول كلّ من الطرفين أن يمارس ضغطاً على الآخر بسبب ولده، كوسيلة من وسائل اعتبار الولد أداة ضغط. وقد تعدّدت الآراء والأحاديث في تفسير هذا الضغط الذي يُراد منه الإضرار من جانب الزوج الأب كأن يحول بين الوالدة وولدها بمنعها عن حضانته أو رؤيته أو ما أشبه ذلك... فإنَّ ذلك حرج ومضارة عليها، وأمّا من جانب الزوجة بأن تمنعه عن رؤيته... وفي ضوء ذلك، نستوحي من هذه الفقرة من الآية التركيز على التحذير عن العلاقة المعقّدة التي يتحرّك فيها كلّ طرف من الزوجين من خلال العُقد الداخلية السلبية المنطلقة من الحالة المتأزّمة الكامنة في طبيعة علاقتهما الخاصة، فيحاول كلّ منهما أن ينفّس عن عقدته تجاه الآخر بما يملكه من وسائل الضغط الطبيعية، فيحرمه من بعض المجالات التي تتصل بعاطفته وتقترب من مسؤوليته، أو يعطّل عليه فرصةً مناسبةً كان من الممكن أن يحصل منها على خير كبير، ولا سيما في ما يتعلّق بأمر الولد الذي تلتقي فيه العاطفة بالمسؤولية، ما يجعل من الإضرار المتبادل فرصة لاستغلال الجانب العاطفي في وضع مضادّ، أو الاستفادة من طبيعة المسؤولية في المواقف السلبية الصعبة.
وفي ضوء ذلك، قد نستفيد منها قاعدة فقهية «جزئية» من خلال القاعدة الكبرى «لا ضرر ولا ضرار» تتصل بحقّ الوالد في ولده بأن تكون له الفرصة في تلبية حاجاته الأبوية العاطفية. فليس للأم التي قد يكون لها الحقّ في حضانته أن تمنع والده من رؤيته أو رعايته في تلك الحال تحت تأثير عقدةٍ خاصة ناشئة من الطلاق أو غيره ثأراً منه، لأنَّ ذلك، وأمثاله، يمثّل حالة الضرار به. وهكذا الحال في سلوك الأب مع أم الولد بعد انقضاء حضانتها له أو انفصالها الواقعي عنه، فليس له أن يضارها بمنعها من رؤية ولدها ورعايته العاطفية في وقت معين، بالدرجة التي تلبي فيها حاجة الأمومة في نفسها، بقدر ما يتسع له الوضع الطبيعي في أمثال تلك الحالات.
وقد يكون لهذا التوافق الوالدي بين الوالد والوالدة تأثير كبير على روحية الطفل ونفسيته وشعوره بالأمان بينهما. وربما هذا ملحوظ في هذا التشريع، لأنَّ مضارة كلّ منهما للآخر في الولد يجعل الولد ممزّقاً بينهما في مشاعره وتصرّفاته، بحيث يؤدي ذلك إلى تكوين عقدةٍ خطيرة في نفسه قد تترك تأثيرها السلبي على مستقبل حياته في ذاته، وفي واقع حياته مع الآخرين.
{فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً} فطاماً، {عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ} فللزوجين أن يتفقا على اختصار مدّة الرضاع، إذا تراضيا وتشاورا في الموضوع، ورأيا المصلحة للطفل في ذلك، باعتبار أنَّ القضية لا تعدوهما في نطاق ما لهما من الحقّ في رعاية شؤون الطفل في هذين الحولين، على أساس حقّ الولاية للأب وحقّ الحضانة للأم. فإذا حصل الرضى منهما، {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} فلا مجال للمنع. {وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلادَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ} ويمكن للأم أن تتنازل عن حقّها في إتمام الرضاعة، وقد تطلب أجراً أكبر من الأجر المتعارف الذي تطلبه بقية المراضع... فللأب أن يطلب لولده رضاع امرأة أخرى، بعد أن يدفع للأم حقّها في رضاعها السابق، لأنَّ الحقّ له في ذلك بعد سقوط حقها بإسقاطها إياه، أو بتجاوزها الحدّ المعقول للأجر... فله أن يتصرّف بما يشاء في حدود مصلحة الطفل.
وقد نستوحي من هذه الآية أمرين:
الأول: إنَّ اللّه أراد للأبوين أن يتشاورا في القضايا المتصلة بالولد، وأن يحاولا تحويل هذه الشورى إلى نقاط حاسمة إيجابية يتراضيان عليها. فلا يريد لأحدهما أن يتحدّث مع الآخر من موقع عقدةٍ، أو بذهنية تشنج نفسي؛ بل من موقع تعاون على مصلحة الطفل. فإذا واجها مشكلة تختلف نظرة أحدهما عن الآخر فيها في تحديد ما هو الأصلح للطفل، فعليهما معالجتها بطريقة لا تضر به، ولا بهما؛ وذلك بالبحث عن البدائل التي تتجاوز الرأي الذي اختلفا فيه. وإذا كانت الآية تتحدّث عن التشاور والتراضي في دائرة رضاع الطفل، فإنها توحي بأنَّ هذا هو الأسلوب الذي ينبغي للأبوين أن يمارساه في رعايتهما للطفل في أموره الخاصة المتعلّقة بجسده وروحه وشعوره وعقله وحركته في الحياة.
الثاني: إنَّ اللّه جعل للمرأة الحقّ في طلب التعويض عن عملها المنزلي، فلم يلزمها الشارع ببذل عملها حتى إرضاع ولدها مجاناً في النطاق القانوني، بل ألزم الزوج الأب بأن يقدّم لها أجراً على ذلك؛ ولها الأولوية على غيرها في إرضاع ولدها، إلاَّ إذا طلبت أجراً زائداً على المقدار المتعارف بين النّاس.
{وَاتَّقُواْ اللّه وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وكان ختام الآية دعوةً للتقوى، وتذكيراً بأنَّ اللّه خبيرٌ بما يعمله الإنسان، بصير بكلّ حركاته وتصرّفاته في نطاق ذاته أو في علاقته بالآخرين؛ وذلك لإيقاظ الروح الواعية المحاسبة في الوقوف عند حدود اللّه في ما أحلّه وما حرمه، ليعيش الإنسان الجوّ الإسلامي المنضبط في حياته العامة والخاصة على هُدى أحكام اللّه وشرائعه. وفي هذا إيحاء للأبوين أن تنطلق تصرفاتهما ومبادراتهما من روح التقوى المنفتحة على الوعي الإيماني في رقابة اللّه على ما يسرانه ويعلنانه، لا من روح الانتقام؛ حتى يتوازنا في نظرتهما إلى الأمور وفي معالجتهما لأوضاع طفلهما بما يحقّق له المصلحة على خطّ المسؤولية التي يحملانها من خلال أوامر اللّه ونواهيه.