( رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً )
إولئك الرسل - من قص الله على رسوله منهم ومن لم يقصص - اقتضت عدالة الله ورحمته أن يبعث بهم إلى عبادة يبشرونهم بما أعده الله للمؤمنين الطائعين من نعيم ورضوان ؛ وينذرونهم ما أعده الله للكافرين العصاة من جحيم وغضب . . كل ذلك :
( لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) . .
ولله الحجة البالغة في الأنفس والآفاق ؛ وقد أعطى الله البشر من العقل ما يتدبرون به دلائل الإيمان في الأنفس والآفاق . ولكنه - سبحانه - رحمة منه بعباده ، وتقديرا لغلبة الشهوات على تلك الأداة العظيمة التي أعطاها لهم - أداة العقل - اقتضت رحمته وحكمته أن يرسل إليهم الرسل ( مبشرين ومنذرين ) يذكرونهم ويبصرونهم ؛ ويحاولون استنقاذ فطرتهم وتحرير عقولهم من ركام الشهوات ، التي تحجب عنها أو تحجبها عن دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق .
عزيزا : قادرا على أخذ العباد بما كسبوا . حكيما : يدبر الأمر كله بالحكمة ويضع كل أمر في نصابه . . والقدرة والحكمة لهما عملهما فيما قدره الله في هذا الأمر وارتضاه . .
ونقف من هذه اللفتة : ( لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) أمام حشد من الإيحاءات اللطيفة العميقة ونختار منه ثلاثا على سبيل الاختصار الذي لا يخرج بنا من الظلال .
نقف منها : أولا : أمام قيمة العقل البشري ووظيفته ودوره في أخطر قضايا " الإنسان " قضية الإيمان بالله ؛ التي تقوم عليها حياته في الأرض من جذورها ؛ بكل مقوماتها واتجاهاتها وواقعياتها وتصرفاتها ؛ كما يقوم عليها مآله في الآخرة وهي أكبر وأبقى .
لو كان الله - سبحانه - وهو أعلم بالإنسان وطاقاته كلها ، يعلم أن العقل البشري ، الذي وهبه للإنسان ، هو حسب هذا الإنسان في بلوغ الهدى لنفسه والمصلحة لحياته ، في دنياه وآخرته ، لوكله إلى هذا العقل وحده ؛ يبحث عن دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق ، ويرسم لنفسه كذلك المنهج الذي تقوم عليه حياته ، فتستقيم على الحق والصواب ؛ ولما أرسل إليه الرسل على مدى التاريخ ؛ ولما جعل حجته على عباده هي رسالة الرسل إليهم ؛ وتبليغهم عن ربهم ؛ ولما جعل حجة الناس عنده - سبحانه - هي عدم مجيء الرسل إليهم : ( لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) . . ولكن لما علم الله - سبحانه - أن العقل الذي آتاه للإنسان أداة قاصرة بذاتها عن الوصول إلى الهدى - بغير توجيه من الرسالة وعون وضبط - وقاصرة كذلك عن رسم منهج للحياة الإنسانية يحقق المصلحة الصحيحة لهذه الحياة ؛ وينجي صاحبه من سوء المآل في الدنيا والآخرة . . لما علم الله - سبحانه - هذا شاءت حكمته وشاءت رحمته أن يبعث للناس بالرسل ، وألا يؤاخذ الناس إلا بعد الرسالة والتبليغ : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا ) . . وهذه تكاد تكون إحدى البديهيات التي تبرز من هذا النص القرآني . . فإن لم تكن بديهية فهي إحدى المقتضيات الحتمية . .
إذن . . ما هي وظيفة هذا العقل البشري ؛ وما هو دوره في قضية الإيمان والهدى ؛ وفي قضية منهج الحياة ونظامها ؟
إن دور هذا العقل أن يتلقى عن الرسالة ؛ ووظيفته أن يفهم ما يتلقاه عن الرسول . ومهمة الرسول أن يبلغ ، ويبين ، ويستنقذ الفطرة الإنسانية مما يرين عليها من الركام . وينبه العقل الإنساني إلى تدبر دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق ؛ وأن يرسم له منهج التلقي الصحيح ، ومنهج النظر الصحيح ؛ وأن يقيم له القاعدة التي ينهض عليها منهج الحياة العملية ، المؤدي إلى خير الدنيا والآخرة .
وليس دور العقل أن يكون حاكما على الدين ومقرراته من حيث الصحة والبطلان ، والقبول أو الرفض - بعد أن يتأكد من صحة صدورها عن الله ؛ وبعد أن يفهم المقصود بها : أي المدلولات اللغوية والاصطلاحية للنص - ولو كان له أن يقبلها أو يرفضها - بعد إدراك مدلولها ، لأنه هو لا يوافق على هذا المدلول ! أو لا يريد أن يستجيب له - ما استحق العقاب من الله على الكفر بعد البيان . . فهو إذن ملزم بقبول مقررات الدين متى بلغت إليه عن طريق صحيح ، ومتى فهم عقله ما المقصود بها وما المراد منها . .
إن هذه الرسالة تخاطب العقل . . بمعنى أنها توقظه ، وتوجهه ، وتقيم له منهج النظر الصحيح . . لا بمعنى أنه هو الذي يحكم بصحتها أو بطلانها ، وبقبولها أو رفضها . ومتى ثبت النص كان هو الحكم ؛ وكان على العقل البشري أن يقبله ويطيعه وينفذه ؛ سواء كان مدلوله مألوفا له أو غريبا عليه . .
إن دور العقل - في هذا الصدد - هو أن يفهم ما الذي يعنيه النص . وما مدلوله الذي يعطيه حسب معاني العبارة في اللغة والاصطلاح . وعند هذا الحد ينتهي دوره . . إن المدلول الصحيح للنص لا يقبل البطلان أو الرفض بحكم من هذا العقل . فهذا النص من عند الله ، والعقل ليس إلها يحكم بالصحة أو البطلان ، وبالقبول أو الرفض لما جاء من عند الله .
وعند هذه النقطة الدقيقة يقع خلط كثير . . سواء ممن يريدون تأليه العقل البشري فيجعلونه هو الحكم في صحة أو بطلان المقررات الدينية الصحيحة . . أو ممن يريدون إلغاء العقل ، ونفي دوره في الإيمان والهدى . . والطريق الوسط الصحيح هو الذي بيناه هنا . . من أن الرسالة تخاطب العقل ليدرك مقرراتها ؛ وترسم له المنهج الصحيح للنظر في هذه المقررات ، وفي شؤون الحياة كلها . فإذا أدرك مقرراتها - أي إذا فهم ماذا يعني النص - لم يعد أمامه إلا التصديق والطاعة والتنفيذ . . فهي لا تكلف الإنسان العمل بها سواء فهمها أم لم يفهمها . وهي كذلك لا تبيح له مناقشة مقرراتها متى أدرك هذه المقررات ، وفق مفهوم نصوصها . . مناقشتها ليقبلها أو يرفضها . ليحكم بصحتها أو خطئها . . وقد علم أنها جاءته من عند الله . الذي لا يقص إلا الحق ، ولا يأمر إلا بالخير .
والمنهج الصحيح في التلقي عن الله ، هو ألا يواجه العقل مقررات الدين الصحيحة - بعد أن يدرك المقصود بها - بمقررات له سابقة عليها ؛ كونها لنفسه من مقولاته " المنطقية " ! أو من ملاحظاته المحدودة ؛ أو من تجاربه الناقصة . . إنما المنهج الصحيح أن يتلقى النصوص الصحيحة ، ويكون منها مقرراته هو ! فهي أصح من مقرراته الذاتية ؛ ومنهجها أقوم من منهجه الذاتي - قبل أن يضبط بموازين النظر الدينية الصحيحة - ومن ثم لا يحاكم العقل مقررات الدين - متى صح عنده أنها من الله - إلى أية مقررات أخرى من صنعه الخاص !
. . إن العقل ليس إلها ، ليحاكم بمقرراته الخاصة مقررات الله . .
إن له أن يعارض مفهوما عقليا بشريا للنص بمفهوم عقلي بشري آخر له . . هذا مجاله ، ولا حرج عليه في هذا ولا حجر ما دام هنالك من الأصول الصحيحة مجال للتأول والأفهام المتعددة . وحرية النظر - على أصوله الصحيحة وبالضوابط التي يقررها الدين نفسه - مكفولة للعقول البشرية في هذا المجال الواسع . وليس هنالك من هيئة ، ولا سلطة ، ولا شخص ، يملك الحجر على العقول ، في إدراك المقصود بالنص الصحيح وأوجه تطبيقه - متى كان قابلا لأوجه الرأي المتعددة ، ومتى كان النظر في حدود الضوابط الصحيحة والمنهج الصحيح ، المأخوذ من مقررات الدين - وهذا كذلك معنى أن هذه الرسالة تخاطب العقل . .
إن الإسلام دين العقل . . نعم . . بمعنى أنه يخاطب العقل بقضاياه ومقرراته ؛ ولا يقهره بخارقة مادية لا مجال له فيها إلا الإذعان . ويخاطب العقل بمعنى أنه يصحح له منهج النظر ويدعوه إلى تدبر دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق ؛ ليرفع عن الفطرة ركام الإلف والعادة والبلادة ؛ وركام الشهوات المضلة للعقل والفطرة . ويخاطب العقل بمعنى أنه يكل إليه فهم مدلولات النصوص التي تحمل مقرراته ، ولا يفرض عليه أن يؤمن بما لا يفهم مدلولة ولا يدركه . . فإذا وصل إلى مرحلة إدراك المدلولات وفهم المقررات لم يعد أمامه إلا التسليم بها فهو مؤمن ، أو عدم التسليم بها فهو كافر . . وليس هو حكما في صحتها أو بطلانها . وليس هو مأذونا في قبولها أو رفضها ، كما يقول من يبتغون أن يجعلوا من هذا العقل إلها ، يقبل من المقررات الدينية الصحيحة ما يقبل ، ويرفض منها ما يرفض ، ويختار منها ما يشاء ، ويترك منها ما يشاء . . فهذا هو الذي يقول الله عنه : ( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ؟ ) ويرتب عليه صفة الكفر ، ويرتب عليه كذلك العقاب . .
فإذا قرر الله - سبحانه - حقيقة في أمر الكون ، أو أمر الإنسان ، أو أمر الخلائق الأخرى . أو إذا قرر أمرا في الفرائض ، أو في النواهي . . فهذا الذي قرره الله واجب القبول والطاعة ممن يبلغ إليه . متى أدرك المدلول المراد منه . .
إذا قال الله سبحانه ( الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن ) . . ( أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي ) ( والله خلق كل دابة من ماء ) . . ( خلق الإنسان من صلصال كالفخار ، وخلق الجان من مارج من نار ) . . إلى آخر ما قال - سبحانه - عن طبيعة الكون والكائنات والأحياء والأشياء . . فالحق هو ما قال . وليس للعقل أن يقول - بعد أن يفهم مدلول النصوص والمقررات التي تنشئها - إنني لا أجد هذا في مقرراتي ، أو في علمي ، أو في تجاربي . . فكل ما يبلغه العقل في هذا معرض للخطأ والصواب . وما قرره الله - سبحانه - لا يحتمل إلا الحق والصواب .
وإذا قال الله سبحانه : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) . . ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا مابقي من الربا إن كنتم مؤمنين . فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ، وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ) ( وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى . . . ) . . ( وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن . . ) . . إلى آخر ما قال في شأن منهج الحياة البشرية فالحق هو ما قال - سبحانه - وليس للعقل أن يقول : ولكنني أرى المصلحة في كذا وكذا مما يخالف عن أمر الله ، أو فيما لم يأذن به الله ولم يشرعه للناس . . فما يراه العقل مصلحة يحتمل الخطأ والصواب ، وتدفع إليه الشهوات والنزوات . . وما يقرره الله - سبحانه - لا يحتمل إلا الصحة والصلاح . .
وما قرره الله سبحانه من العقائد والتصورات ، أو من منهج الحياة ونظامها ، سواء في موقف العقل إزاءه . . متى صح النص ، وكان قطعي الدلالة ؛ ولم يوقت بوقت . . فليس للعقل أن يقول : آخذ في العقائد والشعائر التعبدية ؛ ولكني أرى أن الزمن قد تغير في منهج الحياة ونظامها . . فلو شاء الله أن يوقت مفعول النصوص لوقته . فما دام النص مطلقا فإنه يستوي زمان نزوله وآخر الزمان . . احترازا من الجرأة على الله ، ورمي علمه بالنقص والقصور - سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا . . إنما يكون الاجتهاد في تطبيق النص العام على الحالة الجزئية ؛ لا في قبول المبدأ العام أو رفضه ، تحت أي مقولة من مقولات العقل في جيل من الأجيال !
وليس في شيء من هذا الذي نقرره انتقاص من قيمة العقل ودوره في الحياة البشرية . . فإن المدى أمامه واسع في تطبيق النصوص على الحالات المتجددة - بعد أن ينضبط هو بمنهج النظر وموازينه المستقاة من دين الله وتعليمه الصحيح - والمدى أمامه أوسع في المعرفة بطبيعة هذا الكون وطاقاته وقواه ومدخراته ؛ وطبيعة الكائنات فيه والأحياء ؛ والانتفاع بما سخر الله له من هذا الكون ومن هذه الكائنات والأحياء ؛ وتنمية الحياة وتطويرها وترقيتها - في حدود منهج الله - لا كما تبتغي الشهوات والأهواء التي تضل العقل وتغطي الفطرة بالركام ! .
ونقف من هذه اللفتة : ( لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) وقفة أخرى :
نقف منها أمام التبعة العظيمة الملقاة على الرسل - صلوات الله عليهم - ومن بعدهم على المؤمنين برسالاتهم - تجاه البشرية كلها . . وهي تبعة ثقيلة بمقدار ما هي عظيمة . .
إن مصائر البشرية كلها في الدنيا وفي الآخرة سواء ، منوطة بالرسل وبأتباعهم من بعدهم . فعلى أساس تبليغهم هذا الأمر للبشر ، تقوم سعادة هؤلاء البشر أو شقوتهم ، ويترتب ثوابهم أو عقابهم . . في الدنيا والآخرة .
إنه أمر هائل عظيم . . ولكنه كذلك . . ومن ثم كان الرسل - صلوات الله عليهم - يحسون بجسامه ما يكلفون . وكان الله - سبحانه - يبصرهم بحقيقة العبء الذي ينوطه بهم . . وهذا هو الذي يقول الله عنه لنبيه : ( إنا سنلقي عليك قولا ثقيلًا ) . . ويعلمه كيف يتهيأ له ويستعد : ( يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا . نصفه أو انقص منه قليلا . أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا . . إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ) . . ( إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا . فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا . واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا . ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا ) . . وهذا هو الذي يشعر به نبيه [ ص ] وهو يأمره أن يقول وأن يستشعر حقيقة ما يقول : قل : إني لن يجيرني من الله أحد ، ولن أجد من دونه ملتحدا . . إلا بلاغا من الله ورسالاته . . ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا ، إلا من ارتضى من رسول ، فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا . . ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم . وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددًا ) . .
إنه الأمر الهائل العظيم . . أمر رقاب الناس . . أمر حياتهم ومماتهم . . أمر سعادتهم وشقائهم . . أمر ثوابهم وعقابهم . . أمر هذه البشرية ، التي إما أن تبلغ إليها الرسالة فتقبلها وتتبعها فتسعد في الدنيا والآخرة . وإما أن تبلغ إليها فترفضها وتنبذها فتشقى في الدنيا والآخرة . وإما ألا تبلغ إليها فتكون لها حجة على ربها ، وتكون تبعة شقائها في الدنيا وضلالها معلقة بعنق من كلف التبليغ فلم يبلغ !
فأما رسل الله - عليهم الصلاة والسلام - فقد أدوا الأمانة وبلغوا الرسالة ، ومضوا إلى ربهم خالصين من هذا الالتزام الثقيل . . وهم لم يبلغوها دعوة باللسان ، ولكن بلغوها - مع هذا - قدوة ممثلة في العمل ، وجهادا مضنيا بالليل والنهار لإزالة العقبات والعوائق . . سواء كانت هذه العقبات والعوائق شبهات تحاك ، وضلالات تزين ، أو كانت قوى طاغية تصد الناس عن الدعوة وتفتنهم في الدين . كما صنع رسول الله [ ص ] خاتم النبيين . بما أنه المبلغ الأخير . وبما أن رسالته هي خاتمة الرسالات . فلم يكتف بإزالة العوائق باللسان . إنما أزالها كذلك بالسنان ( حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ) . .
وبقي الواجب الثقيل على من بعده . . على المؤمنين برسالته . . فهناك أجيال وراء أجيال جاءت وتجيء بعده [ ص ] وتبليغ هذه الأجيال منوط - بعده - بأتباعه . ولا فكاك لهم من التبعة الثقيلة - تبعة إقامة حجة الله على الناس ؛ وتبعة استنقاذ الناس من عذاب الآخرة وشقوة الدنيا - إلا بالتبليغ والأداء . . على ذات المنهج الذي بلغ به رسول الله [ ص ] وأدى . . فالرسالة هي الرسالة ؛ والناس هم الناس . . وهناك ضلالات وأهواء وشبهات وشهوات . . وهناك قوى عاتية طاغية تقوم دون الناس ودون الدعوة ؛ وتفتنهم كذلك عن دينهم بالتضليل وبالقوة . . الموقف هو الموقف ؛ والعقبات هي العقبات ، والناس هم الناس .
ولا بد من بلاغ ، ولا بد من أداء . بلاغ بالبيان . وبلاغ بالعمل حتى يكون المبلغون ترجمة حية واقعة مما يبلغون . وبلاغ بإزالة العقبات التي تعترض طريق الدعوة ؛ وتفتن الناس بالباطل وبالقوة . . وإلا فلا بلاغ ولا أداء . .
إنه الأمر المفروض الذي لا حيلة في النكوص عن حمله . . وإلا فهي التبعة الثقيلة . تبعة ضلال البشرية كلها ؛ وشقوتها في هذه الدنيا ، وعدم قيام حجة الله عليها في الآخرة ! وحمل التبعة في هذا كله ، وعدم النجاة من النار . .
فمن ذا الذي يستهين بهذه التبعة ؟ وهي تبعة تقصم الظهر وترعد الفرائص وتهز المفاصل ؟ !
إن الذي يقول : إنه " مسلم " إما أن يبلغ ويؤدي هكذا . وإلا فلا نجاة له في دنيا ولا في أخرى . . إنه حين يقول : إنه " مسلم " ثم لا يبلغ ولا يؤدي . . كل ألوان البلاغ والأداء هذه ، إنما يؤدي شهادة ضد الإسلام الذي يدعيه ! بدلا من أداء شهادة له ، تحقق فيه قوله تعالى : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا ) .
وتبدأ شهادته للإسلام ، من أن يكون هو بذاته . ثم ببيته وعائلته . ثم بأسرته وعشيرته ، صورة واقعية من الإسلام الذي يدعو إليه . . وتخطو شهادته الخطوة الثانية بقيامه بدعوة الأمة - بعد دعوة البيت والأسرة والعشيرة - إلى تحقيق الإسلام في حياتها كلها . . الشخصية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية . . وتنتهي شهادته بالجهاد لإزالة العوائق التي تضل الناس وتفتنهم من أي لون كانت هذه العوائق . . فإذ استشهد في هذا فهو إذن " شهيد " أدى شهادته لدينه ، ومضى إلى ربه . . وهذا وحده هو " الشهيد " .
وفي نهاية المطاف نقف وقفة خاشعة أمام جلال الله وعظمته ؛ ممثلة في علمه ، وعدله ، ورعايته ، وفضله ، ورحمته وبره . . بهذا الكائن الإنساني الذي يجحد ويطغى . .
نقف أمام عظمة العلم بهذا الكائن ؛ وما أودعه من القوى والطاقات ؛ وما ركب في كينونته من استعدادات الهدى والضلال . وما رتبه على هذا العلم حين لم يكله إلى عقله وحده . . على عظمة هذه الأداة التي وهبها له ؛ وعلى كثرة ما في الأنفس والآفاق من دلائل الهدى وموجبات الإيمان . . فلقد علم الله أن هذه الأداة العظيمة تنوشها الشهوات والنزوات ؛ وأن الدلائل المبثوثة في تضاعيف الكون وأطواء النفس قد يحجبها الغرض والهوى ، ويحجبها الجهل والقصور . . ومن ثم لم يكل إلى العقل البشري تبعة الهدى والضلال - إلا بعد الرسالة والبيان - ولم يكل إليه بعد البيان والاهتداء وضع منهج الحياة ، إنما وكل إليه تطبيق منهج الحياة الذي يقرره له الله . . ثم ترك له ما وراء ذلك - وهو ملك عريض - يبدع فيه ما شاء ، ويغير فيه ما شاء ، ويركب فيه ما شاء ، ويحلل فيه ما شاء . منتفعا بتسخير الله لهذا الملك كله لهذا الإنسان وهو الذي يخطى ء عقله ويصيب ، وتعثر قدمه وتستقيم على الطريق !
ونقف أمام عظمة العدل الذي يرتب للناس حجة على الله - سبحانه - لو لم يرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين . هذا مع احتشاد كتاب الكون المفتوح ، وكتاب النفس المكنون بالآيات الشواهد على الخالق ، ووحدانيته ، وتدبيره وتقديره ، وقدرته وعلمه . . ومع امتلاء الفطرة بالأشواق والهواتف إلى الاتصال ببارئها والإذعان له ، والتناسق والتجاوب والتجاذب بينها وبين دلائل وجود الخالق في الكون والنفس . . ومع هبة العقل الذي يملك أن يحصي الشواهد ويستنبط النتائج . . ولكن الله - سبحانه - بما يعلم من عوامل الضعف التي تطرأ على هذه القوى كلها ، فتعطلها ، أو تفسدها ، أو تطمسها ، أو تدخل في حكمها الخطأ والشطط ، قد أعفى الناس من حجية الكون ، وحجية الفطرة ، وحجية العقل ، ما لم يرسل أليهم الرسل ليستنقذوا هذه الأجهزة كلها مما قد يرين عليها ، وليضبطوا بموازين الحق الإلهي الممثل في الرسالة ، هذه الأجهزة ، فتصح أحكامها حين تستقيم على ضوابط المنهج الإلهي . . وعندئذ فقط يلزمها الإقرار والطاعة والاتباع ؛ أو تسقط حجتها وتستحق العقاب . .
ونقف أمام عظمة الرعاية والفضل والرحمة والبر بهذا المخلوق الذي يكرمه الله ويختاره ، على ما يعلم به من ضعف ونقص ؛ فيكل إليه هذا الملك العريض . . خلافة الأرض . . وهو بالقياس إليه ملك عريض ! وإن كان في ملك الله ذرة تمسكها يد الله فلا تضيع في ملكه الكبير !
ثم تشاء رعايته وفضله ورحمته وبره ، ألا تدعه لما أودع في كينونته من فطرة هادية ولكنها تطمس ؛ ومن عقل هاد ولكنه يضل ؛ بل يتفضل عليه ربه فيرسل إليه الرسل تترى . . وهو يكذب ويعاند ؛ ويشرد وينأى ؛ فلا يأخذه ربه بأخطائه وخطاياه ؛ ولا يحبس عنه بره وعطاياه ، ولا يحرمه هداه على أيدي رسله الهداة . . ثم لا يأخذه بالعقاب في الدنيا أو في الآخرة حتى تبلغه الرسل ؛ فيعرض ويكفر ، ويموت وهو كافر لا يتوب ولا ينيب . .
ومن عجب أن يأتي على هذا الإنسان زمان يزعم لنفسه أنه استغنى عن ربه . . استغنى عن رعايته وفضله ورحمته وبره . . استغنى عن هدايته ودينه ورسله . . استغنى بالأداة التي علم ربه أنها لا تغنيه - ما لم تقوم بمنهج الله - فلم يكتب عليه عقابا إلا بعد الرسالة والبيان . . فيتمثل لنا الطفل الذي يحس ببعض القوة في ساقيه فيروح يبعد عنه اليد التي تسنده ، ليتكفأ ويتعثر ! غير أن الطفل في هذا المثال أرشد وأطوع للفطرة . إذ أنه بمحاولة الاستقلال عن اليد التي تسنده يجيب داعي الفطرة في استحثاث طاقات كامنة في كيانه ؛ وإنماء قدرات ممكنة النماء ؛ وتدريب عضلات وأعصاب تنمو وتقوى بالتدريب . . أما إنسان اليوم الذي يبعد عنه يد الله ، ويتنكب هداه ، فإن كينونته - بكل ما يكمن فيها من قوى - يعلم الله أنها لا تشتمل على قوة مكنونة تملك الاستغناء عن يد الله وهداه . وقصارى ما في قواه أنها ترشد وتضبط وتستقيم برسالة الله . وتضل وتختل وتضطرب إذا هي استقلت بنفسها ، وتنكبت هداه !
وخطأ وضلال - إن لم يكن هو الخداع والتضليل - كل زعم يقول : إن العقول الكبيرة كانت حرية أن تبلغ بدون الرسالة ما بلغته بالرسالة . . فالعقل ينضبط - مع الرسالة - بمنهج النظر الصحيح ؛ فإذا أخطأ بعد ذلك في التطبيق كان خطؤه كخطأ الساعة التي تضبط ، ثم تغلبها عوامل الجو والمؤثرات ، وطبيعة معدنها الذي يتأثر بهذه المؤثرات ، لا كخطأ الساعة التي لم تضبط أصلا ، وتركت للفوضى والمصادفة ! وشتان شتان !
وآية أن ما يتم بالرسالة - عن طريق العقل نفسه - لا يمكن أن يتم بغيرها ؛ فلا يغني العقل البشري عنها . . أن تاريخ البشرية لم يسجل أن عقلا واحدا من العقول الكبيرة النادرة اهتدى إلى مثل ما اهتدت إليه العقول العادية المتوسطة بالرسالة . . لا في تصور اعتقادي ؛ ولا في خلق نفسي ، ولا في نظام حياة ، ولا في تشريع واحد لهذا النظام . .
إن عقول أفلاطون وأرسطو من العقول الكبيرة قطعا . . بل إنهم ليقولون : إن عقل أرسطو هو أكبر عقل عرفته البشرية - بعيدا عن رسالة الله وهداه - فإذا نحن راجعنا تصوره لإلهه - كما وصفه - رأينا المسافة الهائلة التي تفصله عن تصور المسلم العادي لإلهه مهتديا بهدى الرسالة .
وقد وصل أخناتون - في مصر القديمة - إلى عقيدة التوحيد - وحتى مع استبعاد تأثره في هذا بإشعاع عقيدة التوحيد في رسالة إبراهيم ورسالة يوسف - فإن الفجوات والأساطير التي في عقيدة أخناتون تجعل المسافة بينها وبين توحيد المسلم العادي لإلهه بعيدة بعيدة .
وفي الخلق نجد في الفترة التي هيمن فيها الإسلام في صدر الإسلام نماذج للأوساط ممن رباهم الرسول [ ص ] لا تتطاول إليها إعناق الأفذاذ على مدار التاريخ ممن لم تخرجهم رسالة سماوية .
وفي المبادى ء والنظم والتشريعات لا نجد أبدا ذلك التناسق والتوازن ، مع السمو والرفعة التي نجدها في نظام الإسلام ومبادئه وتشريعاته . ولا نجد أبدا ذلك المجتمع الذي أنشأه الإسلام يتكرر لا في زمانه ولا قبل زمانه ولا بعد زمانه في أرض أخرى ، بتوازنه وتناسقه ويسر حياته وتناغمها . .
إنه ليس المستوى الحضاري المادي هو الذي يكون عليه الحكم . فالحضارة المادية تنمو بنمو وسائلها التي ينشئها " العلم " الصاعد . . ولكن ميزان الحياة في فترة من الفترات هو التناسق والتوازن بين جميع أجزائها وأجهزتها وأوضاعها . . هو التوازن الذي ينشى ء السعادة والطمأنينة ، والذي يطلق الطاقات الإنسانية كلها لتعمل دون كبت ودون مغالاة في جانب من جوانبها الكثيرة . . والفترة التي عاشت بالإسلام كاملا لم تبلغها البشرية - بعيدا عن الرسالة - في أي عصر . . والخلخلة وعدم الاتزان هو الطابع الدائم للحياة في غير ظل الإسلام ؛ مهما التمعت بعض الجوانب ؛ ومهما تضخمت بعض الجوانب . فإنما تلتمع لتنطفى ء جوانب أخرى . وإنما تتضخم على حساب الجوانب الأخرى . . والبشرية معها تتأرجح وتحتار وتشقى .
وقوله : { رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ } أي : يبشرون من أطاع الله واتبع رضوانه بالخيرات ، وينذرون من خالف أمره وكذب رسله بالعقاب والعذاب .
وقوله : { لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } أي : أنه تعالى أنزل كتبه وأرسل رسله بالبشارة والنذارة ، وبين ما يحبه ويرضاه مما يكرهه ويأباه ؛ لئلا يبقى لمعتذر عذر ، كما قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى } [ طه : 134 ] ، وكذا قوله تعالى : { وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ]{[8752]} } [ القصص : 47 ] .
وقد ثبت في الصحيحين{[8753]} عن ابن مسعود ، [ رضي الله عنه ]{[8754]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا أحَدَ أغَيْرَ من الله ، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظَهَر منها وما بطن ، ولا أحدَ أحبَّ إليه المدحُ من الله ، من أجل ذلك مدح نفسه ، ولا أحدَ أحَبَّ إليه العُذر من الله ، من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين " وفي لفظ : " من أجل ذلك أرسل رسله ، وأنزل كتبه " .
{ رسلا مبشرين ومنذرين } نصب على المدح أو بإضمار أرسلنا ، أو على الحال ويكون رسلا موطئا لما بعده كقولك مررت بزيد رجلا صالحا . { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } فيقولوا لولا أرسلت إليها رسولا فينبهنا ويعلمنا ما لم نكن نعلم ، وفيه تنبيه على أن بعثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلى الناس ضرورة لقصور الكل عن إدراك جزيئات المصالح والأكثر عن إدراك كلياتها ، واللام متعلقة بأرسلنا أو بقوله { مبشرين ومنذرين } ، و{ حجة } اسم كان وخبره { للناس } أو { على الله } والآخر حال ، ولا يجوز تعلقه بحجة لأنه مصدر وبعد ظرف لها أو صفة . { وكان الله عزيزا } لا يغلب فيما يريد { حكيما } فيما دبر من أمر النبوة وخص كل نبي بنوع من الوحي والإعجاز .
قوله : { رُسُلاً } حال من المذكورين ، وقد سمّاهم رسلاً لما قدّمناه ، وهي حال موطّئة لصفتها ، أعني مبشّرين ؛ لأنَّه المقصود من الحال .
وقوله : { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } تعليل لقوله : { مبشرين ومنذرين } ولا يصحّ جعله تعليلاً لقوله : { إنا أوحينا إليك } لأنّ ذلك مسوق لبيان صحّة الرسالة مع الخُلُوّ عن هبوط كتاب من السماء ردّاً على قولهم : { حتّى تُنزّل علينا كتاباً نقرؤه } [ الإسراء : 93 ] . فموقع قوله : { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } موقع الإدماج تعليماً للأمّة بحكمة من الحكم في بعثته الرسل .
والحجّة ما يدُلّ على صدق المدّعي وحقّيّة المعتذر ، فهي تقتضي عدم المؤاخذة بالذنب أو التقصير . والمراد هنا العذر البيّن الذي يوجب التنصّل من الغضب والعقاب . فإرسال الرسل لقطع عذر البشر إذا سئلوا عن جرائم أعمالهم ، واستحقّوا غضب الله وعقابه . فعلم من هذا أنّ للنّاس قبل إرسال الرسل حجّة إلى الله أن يقولوا : { لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتّبع آياتك ونكون من المؤمنين } [ القصص : 47 ] .
وأشعرت الآية أنّ من أعمال النّاس ما هو بحيث يُغضب الله ويعاقب عليه ، وهي الأفعال التي تدلّ العقول السليمة على قبْحها لإفضائها إلى الفساد والأضرار البيّنة . ووجه الإشعار أنّ الحجّة إنَّما تُقابِل محاولةَ عمل مّا ، فلمّا بعث الله الرسل لقطع الحجّة علمنا أنّ الله حين بعث الرسل كان بصدد أنْ يؤاخذ المبعوث إليهم ، فاقتضت رحمته أن يقطع حجّتهم ببعثة الرسل وإرشادهم وإنذارهم ، ولذلك جعل قطع الحجّة علّة غائيّة للتبشير والإنذار : إذ التبشير والإنذار إنَّما يبيّنان عواقب الأعمال ، ولذلك لم يعلّل بعثه الرسل بالتنبيه إلى ما يرضي الله وما يسخطه .
فهذه الآية ملجئة جميعَ الفرق إلى القول بأنّ بعثة الرسل تتوقّف عليها المؤاخذة بالذنوب ، وظاهرها أنّ سائر أنواع المؤاخذة تتوقّف عليها ، سواء في ذلك الذنوب الراجعة إلى الاعتقاد ، والراجعة إلى العمل ، وفي وجوب معرفة الله . فإرسال الرسل عندنا من تَمَام العدل من الله لأنّه لو لم يرسلهم لكانت المؤاخذة بالعذاب مجرّد الإطلاق الذي تقتضيه الخالقية إذْ لا يسأل عمّا يفعل ، وكانت عدلاً بالمعنى الأعمّ .
فأمّا جمهورُ أهل السنّة ، الذين تترجم عن أقوالهم طريقة الأشعري ، فعمّموا وقالوا : لا يثبت شيء من الواجبات ، ولا مؤاخذة على ترك أو فعل إلاّ ببعثة الرسل حتّى معرفة الله تعالى ، واستدلّوا بهذه الآية وغيرها : مثل { وما كنّا معذّبين حتّى نبعث رسولاً } [ الإسراء : 15 ] وبالإجماع . وفي دعوى الإجماع نظر ، وفي الاستدلال به على أصل من أصول الدين نظر آخر ، وفي الاستدلال بالآيات ، وهي ظواهر ، على أصل من أصول الدين نظر ثالث ، إلاّ أن يقال : إنَّها تكاثرت كثرة أبلغتها إلى مرتبة القطع ، وهذا أيضاً مجال للنظر ، وهم ملجَئُون إلى تأويل هذه الآية ، لأنّهم قائلون بمؤاخذة أهل الفترة على إشراكهم بالله . والجواب أن يقال : إنّ الرسل في الآية كلٌّ إفْرادِي ، صادق بالرسول الواحد ، وهو يختلف باختلاف الدعوة . فأمّا الدعوة إلى جملة الإيمان والتوحيد فَقد تقرّرت بالرسل الأوّلين ، الّذين تقرّر من دعواتهم عند البشر وجوبُ الإيمان والتوحيد ، وأمّا الدعوة إلى تفصيل الآيات والصفات وإلى فروع الشرائع ، فهي تتقرّر بمجيء الرسل الذين يختصّون بأمم معروفة .
وأمّا المعتزلة فقد أثبتوا الحسن والقبح الذاتيين في حالة عدم إرسال رسول ؛ فقالوا : إنّ العقل يثبت به وجوب كثير من الأحكام ، وحرمة كثير ، لا سيما معرفة الله تعالى ، لأنّ المعرفة دافعة للضرّ المظنون ، وهو الضرّ الأخروي ، من لحاق العذاب في الآخرة ، حيث أخبر عنه جمع كثير ، وخوف ما يترتَّب على اختلاف الفِرق في معرفة الصانع قبل المعرفة الصحيحة من المحاربات ، وهو ضرّ دنيويّ ، وكلّ ما يدفع الضرّ المظنونَ أو المشكوك واجب عقلاً ، كمن أراد سلوك طريق فأخبر بأنّ فيه سَبُعاً ، فإنّ العقل يقتضي أن يتوقّف ويبحث حتّى يعلم أيسلك ذلك الطريق أم لا ، وكذلك وجوب النظر في معجزة الرسل وسائر ما يؤدّي إلى ثبوت الشرائع .
فلذلك تأوّلوا هذه الآية بما ذكره في « الكشاف » إذ قال : « فإن قلت : كيف يكون للنّاس على الله حجّة قبل الرسل وهم محجوجون بما نصبه الله من الأدلّة التي النظر فيها موصّل إلى المعرفة ، والرسلُ في أنفسهم لم يتوصّلوا إلى المعرفة بالنظر في تلك الأدلّة ، أي قبل الرسالة . قلت : الرسل منبِّهون عن الغفلة وباعثون على النظر مع تبليغ ما حمّلوه من أمور الدّين وتعليم الشرائع ؛ فكان إرسالهم إزاحة للعلّة وتتميماً لإلزام الحجّة » . يعني أنّ بعثة الرسل رحمة من الله لا عدل ، ولو لم يبعثهم لكانت المؤاخذة على القبائح عدلاً ، فبعثة الرسل إتمام للحجّة في أصل المؤاخذة ، وإتمام للحجّة في زيادة التزكية أن يقول النّاس : ربّنا لِمَ لَمْ ترشدنا إلى ما يرفع درجاتنا في مراتب الصدّيقين وقصرتنا على مجرّد النجاة من العذاب ، حين اهتدينا لأصل التّوحيد بعقولنا .
وقال الماتريدي بموافقة الجمهور فيما عدا المعرفة بالله تعالى عند إرادة إفحام الرسل خاصّة لأنّه رآه مبنَى أصول الدّين ، كما يشير إليه قول صدر الشريعة في « التوضيح » « أي يكون الفعل صفة يحمد فاعل الفعل ويثاب لأجلها أو يذمّ ويعاقب لأجلها ؛ لأنّ وجوب تصديق النبي إنْ توقّف على الشرع يلزم الدور » وصرّح أيضاً بأنَّها تعرف بالشرع أيضاً .
وقد ضايق المعتزلةُ الأشاعرة في هذه المسألة بخصوص وجوب المعرفة فقالوا : لو لم تجب المعرفة إلاّ بالشرع للزم إفحامُ الرسل ، فلم تكن للبعثة فائدة . ووجه اللزوم أنّ الرسول إذا قال لأحد : انظرْ في معجزتي حتّى يظهر صدقي لديك ، فله أن يقول : لا أنظر ما لم يجب عليّ ، لأنّ ترك غير الواجب جائز ، ولا يجب عليّ حتّى يثبتَ عندي الوجوب بالشرع ، ولا يثبت الشرع ما دمتُ لم أنظر ، لأنّ ثبوت الشرع نَظَريّ لا ضروري . وظَاهَرَهم الماتريديّةُ وبعضُ الشافعيّة على هذا الاستدلال .
ولم أر للأشاعرة جواباً مقنعاً ، سوى أنّ إمام الحرمين في « الإرشاد » أجاب : بأنّ هذا مشترك الإلزام لأنّ وجوب التأمّل في المعجزة نظري لا ضروريّ لا محالة ، فلمن دعاه الرسول أن يقول : لا أتأمل في المعجزة ما لم يجب ذلك عليّ عقلاً ، ولا يجب عليّ عقلاً ما لم أنظر ، لأنّه وجوب نظري ، والنّظري يحتاج إلى ترتيب مقدّمات ، فأنا لا أرتّبها .
وتبعه على هذا الجواب جميع المتكلّمين بعده من الأشاعرة مثل البيضاوي والعضد والتفتزاني . وقال ابن عرفة في « الشامل » : إنّه اعتراف بلزوم الإفحام فلا يزيل الشبهة بل يعمّمها بيننا وبينهم ، فلم يحصل دفع الإشكال وكلام ابن عرفة ردٌّ متمكّن . والظاهر أنّ مراد إمام الحرمين أن يُسقط استدلال المعتزلة لأنفسهم على الوجوب العقلي بتمحّض الاستدلال بالأدلة الشرعيّة وهو مطلوبنا .
وأنَا أرى أن يكون الجواب بأحد طريقين :
أولهما : بالمنع ، وهو أن نمنع أن يكون وجوب سماع دعوة الرسول متوقّفاً على الإصغاء إليه ، والنظر في معجزته ، وأنّه لو لم يثبت وجوب ذلك بالعقل يلزم إفحام الرسول ، بل ندّعي أنّ ذلك أمر ثبت بالشرائع الّتي تعاقب ورودها بين البشر ، بحيث قد علم كلّ مَن له علاقة بالمدنيَّة البشرية بأنّ دُعاة أتَوا إلى النّاس في عصور مختلفة ، ودعوتهم واحدة : كلّ يقول إنّه مبعوث من عند الله ليدعو النّاس إلى ما يريده الله منهم ، فاستقرّ في نفوس البشر كلّهم أنّ هنالك إيماناً وكفراً ، ونجاة وارتباقاً ، استقراراً لا يجدون في نفوسهم سبيلاً إلى دفعه ، فإذا دعا الرسول النّاس إلى الإيمان حضرت في نفس المدعوّ السامعِ تلك الأخبار الماضية والمحاورات ، فوجب عليه وجوباً اضطرارياً استماعُه والنظرُ في الأمر المقرّر في نفوس البشر ، ولذلك آخذَ الله أهل الفترة بالإشراك كما دلّت عليه نصوص كثيرة من الكتاب والسنّة . ولذلك فلو قَدّرْنا أحداً لم يخالط جماعات البشر ، ولم يسبق له شعور بأنّ النّاس آمنوا وكفروا وأثبتوا وعطّلوا ، لَما وجب عليه الإصغاء إلى الرسول لأنّ ذلك الانسياق الضروري مفقود عنده . وعلى هذا الوجه يكون الوجوب غير شرعي ، ولا عقلي نظري ، بل هو من الأمور الضرورية التي لا يستطاع دفعها فلا عجب أن تقع المؤاخذة بتعمّد مخالفتها .
وثاني الجوابين : بالتسليم ، غير أنّ ما وقِر في جبلّة البشر من استطلاع الحوادث والأخبار الجديدة ، والإصغاء لكلّ صاحب دعوة ، أمر يحمل كلّ من دعاه الرسول إلى الدين على أن يستمع لكلامه ، ويتلقّى دعوته وتحدّيهُ ومعجزته ، فلا يشعر إلاّ وقد سلكت دعوته إلى نفس المدعوِّ ، فحرّكت فيه داعية النظر ، فهو ينجَذب إلى تلقّي الدعوة ، رويداً رويداً ، حتّى يجد نفسه قد وعاها وَعَلِمها علماً لا يستطيع بعدَه أن يقول : إنّي لا أنظر المعجزة ، أو لا أصغي إلى الدعوة . فإن هو أعرض بعد ذلك فقد اختار العمى على الهدى ، فكان مؤاخذاً ، فلو قدّرنا أحداً مَرّ برسول يدعو فشغله شاغل عن تعرّف أمره والإصغاء لكلامه والنظر في أعماله ، لسلّمنا أنّه لا يكون مخاطباً ، وأنّ هذا الواحد وأمثاله إذا أفحَم الرسولَ لا تتعطّل الرسالة ، ولكنّه خسر هديه ، وسَفِه نفسه .
ولا يَرِد علينا أنّ من سمع دعوة الرسول فجعل أصابعه في أذنيه وأعرض هارباً حينئذٍ ، لا يتوجّه إليه وجوبُ المعرفة ، لأنّ هذا ما صنع صنعه إلاّ بعد أن علم أنّه قد تهيَّأ لتوجّه المؤاخذة عليه إذا سمع فعصى ، وكفى بهذا شعوراً منه بتوجّه التكليف إليه فيكون مؤاخذاً على استحبابِه العمى على الهدى ، كما قال تعالى في قوم نوح : { وإنّي كلَّما دعوتُهم- أي إلى الإيمان- لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشَوْا ثيابهم } [ نوح : 7 ] .
والإظهار في مقام الإضمار في قوله : { بعدَ الرسل } دون أن يقال : بعدَهم ، للاهتمام بهذه القضيّة واستقلالها في الدلالة على معناها حتّى تسير مسرى الأمثال .
ومناسبة التذييل بالوصفين في قوله : { عزيزاً حكيماً } : أمّا بوصف الحكيم فظاهرة ، لأنّ هذه الأخبار كلّها دليلُ حكمته تعالى ، وأمّا بوصف العزيز فلأنّ العزيز يناسب عزّتَه أن يكون غالباً من كلّ طريق فهو غالب من طريق المعبوديّة ، لا يُسأل عما يفعل ، وغالب من طريق المعقولِيّة إذ شاء أن لا يؤاخذ عبيده إلاّ بعد الأدلّة والبراهين والآيات . وتأخيرُ وصف الحكيم لأنّ إجراء عزّته على هذا التمام هو أيضاً من ضروب الحكمة الباهرة .