المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{لَّا يَسۡتَوِي ٱلۡقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ غَيۡرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ وَٱلۡمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡۚ فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ دَرَجَةٗۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (95)

95- وإن الجهاد مع هذا الاحتراس فضله عظيم جداً ، فلا يستوي الذين يقعدون عن الجهاد في منازلهم والذين يجاهدون بأموالهم وأنفسهم ، فقد جعل اللَّه للمجاهدين درجة رفيعة فوق الذين قعدوا إلا إذا كان القاعدون من ذوى الأعذار التي تمنعهم من الخروج للقتال ، فإن عذرهم يرفع عنهم الملامة ومع أن المجاهدين لهم فضل ودرجة خاصة بهم ، فقد وعد اللَّه الفريقين المنزلة الحسنى والعاقبة الطيبة .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لَّا يَسۡتَوِي ٱلۡقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ غَيۡرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ وَٱلۡمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡۚ فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ دَرَجَةٗۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (95)

95

( لا يستوي القاعدون من المؤمنين - غير أولي الضرر - والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ) . .

ولا يتركها هكذا مبهمة ، بل يوضحها ويقررها ، ويبين طبيعة عدم الاستواء بين الفريقين :

( فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة ) . .

وهذه الدرجة يمثلها رسول الله [ ص ] في مقامهم في الجنة .

في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري ، أن رسول الله [ ص ] قال : إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله . وما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض . .

وقال الأعمش عن عمرو بن مرة ، عن أبى عبيدة ، عن عبدالله بن مسعود قال : قال رسول الله [ ص ] : " من رمى بسهم فله أجره درجة " . . فقال رجل : يا رسول الله ، وما الدرجة ؟ فقال :

" أما إنها ليست بعتبة أمك . ما بين الدرجتين مائة عام " .

وهذه المسافات التي يمثل بها رسول الله [ ص ] ، نحسب أننا اليوم أقدر على تصورها ؛ بعد الذي عرفناه من بعض أبعاد الكون . حتى إن الضوء ليصل من نجم إلى كوكب في مئات السنين الضوئية وقد كان الذين يسمعون رسول الله [ ص ] يصدقونه بما يقول . ولكنا - كما قلت - ربما كنا أقدر - فوق الإيمان - على تصور هذه الأبعاد بما عرفناه من بعض أبعاد الكون العجيب !

ثم يعود السياق بعد تقرير هذا الفارق في المستوى بين القاعدين من المؤمنين - غير اولي الضرر - والمجاهدين بأموالهم وأنفسهم ، فيقرر أن الله وعد جميعهم الحسنى :

( وكلا وعد الله الحسنى ) . .

فللإيمان وزنه وقيمته على كل حال ؛ مع تفاضل أهله في الدرجات وفق تفاضلهم في النهوض بتكاليف الإيمان ؛ فيما يتعلق بالجهاد بالأموال والأنفس . . وهذا الاستدراك هو الذي نفهم منه أن هؤلاء القاعدين ليسوا هم المنافقين المبطئين . إنما هم طائفة أخرى صالحة في الصف المسلم ومخلصة ؛ ولكنها قصرت في هذا الجانب ؛ والقرآن يستحثها لتلافي التقصير ؛ والخير مرجو فيها ، والأمل قائم في أن تستجيب .

فإذا انتهى من هذا الاستدراك عاد لتقرير القاعدة الأولى ؛ مؤكدا لها ، متوسعا في عرضها ؛ ممعنا في الترغيب فيما وراءها من أجر عظيم :

وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما . درجات منه ومغفرة ورحمة . وكان الله غفورا رحيمًا .

وهذا التوكيد . . وهذه الوعود . . وهذا التمجيد للمجاهدين . . والتفضيل على القاعدين . . والتلويح بكل ما تهفو له نفس المؤمن من درجات الأجر العظيم . ومن مغفرة الله ورحمته للذنوب والتقصير . .

هذا كله يشي بحقيقتين هامتين :

الحقيقة الأولى : هي أن هذه النصوص كانت تواجه حالات قائمة في الجماعة المسلمة كما أسلفنا وتعالجها . وهذا كفيل بأن يجعلنا أكثر إدراكا لطبيعة النفس البشرية ، ولطبيعة الجماعات البشرية ، وأنها مهما بلغت في مجموعها من التفوق في الإيمان والتربية فهي دائما في حاجة إلى علاج ما يطرأ عليها من الضعف والحرص والشح والتقصير في مواجهة التكاليف ، وبخاصة تكاليف الجهاد بالأموال والأنفس ، مع خلوص النفس لله ، وفي سبيل الله . وظهور هذه الخصائص البشرية - من الضعف والحرص والشح والتقصير - لا يدعو لليأس من النفس أو الجماعة ، ولا إلى نفض اليد منها ، وازدرائها ؛ طالما أن عناصر الإخلاص والجد والتعلق بالصف والرغبة في التعامل مع الله موفورة فيها . . ولكن ليس معنى هذا هو إقرار النفس أو الجماعة على ما بدا منها من الضعف والحرص والشح والتقصير ؛ والهتاف لها بالانبطاح في السفح ، باعتبار أن هذا كله جزء من " واقعها " ! بل لا بد لها من الهتاف لتنهض من السفح والحداء لتسير في المرتقى الصاعد ، إلى القمة السامقة . بكل ألوان الهتاف والحداء . . كما نرى هنا في المنهج الرباني الحكيم .

والحقيقة الثانية : هي قيمة الجهاد بالأموال والأنفس في ميزان الله واعتبارات هذا الدين وأصالة هذا العنصر في طبيعة هذه العقيدة وهذا النظام . لما يعلمه الله - سبحانه - من طبيعة الطريق ؛ وطبيعة البشر ؛ وطبيعة المعسكرات المعادية للإسلام في كل حين .

إن " الجهاد " ليس ملابسة طارئة من ملابسات تلك الفترة . إنما هو ضرورة مصاحبة لركب هذه الدعوة ! وليست المسألة - كما توهم بعض المخلصين - أن الإسلام نشأ في عصر اللإمبراطوريات ؛ فاندس في تصوراتأهله - اقتباسا مما حولهم - أنه لا بد لهم من قوة قاهرة لحفظ التوازن !

هذه المقررات تشهد - على الأقل - بقلة ملابسة طبيعة الإسلام الأصلية لنفوس هؤلاء القائلين بهذه التكهنات والظنون .

لو كان الجهاد ملابسة طارئة في حياة الأمة المسلمة ما استغرق كل هذه الفصول من صلب كتاب الله ؛ في مثل هذا الأسلوب ! ولما استغرق كذلك كل هذه الفصول من سنة رسول الله [ ص ] وفي مثل هذا الأسلوب . .

لو كان الجهاد ملابسة طارئة ما قال رسول الله [ ص ] تلك الكلمة الشاملة لكل مسلم إلى قيام الساعة : " من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق " .

ولئن كان [ ص ] رد في حالات فردية بعض المجاهدين ، لظروف عائلية لهم خاصة ، كالذي جاء في الصحيح أن رجلا قال للنبي [ ص ] أجاهد . قال : " لك أبوان ؟ " قال : نعم . قال ، " ففيهما جاهد " . . لئن كان ذلك فإنما هي حالة فردية لا تنقض القاعدة العامة ؛ وفرد واحد لا ينقض المجاهدين الكثيرين . ولعله [ ص ] على عادته في معرفة كل ظروف جنوده فردا فردا ، كان يعلم من حال هذا الرجل وأبويه ، ما جعله يوجهه هذا التوجيه . .

فلا يقولن أحد - بسبب ذلك - إنما كان الجهاد ملابسة طارئة بسبب ظروف . وقد تغيرت هذه الظروف !

وليس ذلك لأن الإسلام يجب أن يشهر سيفه ويمشي به في الطريق يقطع به الروؤس ! ولكن لأن واقع حياة الناس وطبيعة طريق الدعوة تلزمه أن يمسك بهذا السيف ويأخذ حذره في كل حين !

إن الله - سبحانه - يعلم أن هذا أمر تكرهه الملوك ! ويعلم أن لا بد لأصحاب السلطان أن يقاوموه . لأنه طريق غير طريقهم ، ومنهج غير منهجهم . ليس بالأمس فقط . ولكن اليوم وغدا . وفي كل أرض ، وفي كل جيل !

وإن الله - سبحانه - يعلم أن الشر متبجح ، ولا يمكن أن يكون منصفا . ولا يمكن أن يدع الخير ينمو - مهما يسلك هذا الخير من طرق سلمية موادعة ! - فإن مجرد نمو الخير يحمل الخطورة على الشر . ومجرد وجود الحق يحمل الخطر على الباطل . ولا بد أن يجنح الشر : إلى العدوان ؛ ولا بد أن يدافع الباطل عن نفسه بمحاولة قتل الحق وخنقه بالقوة !

هذه جبلة ! وليست ملابسة وقتية . . .

هذه فطرة ! وليست حالة طارئة . . .

ومن ثم لا بد من الجهاد . . لابد منه في كل صورة . . ولا بد أن يبدأ في عالم الضمير . ثم يظهر فيشمل عالم الحقيقة والواقع والشهود . ولا بد من مواجهة الشر المسلح بالخير المسلح . ولا بد من لقاء الباطل المتترس بالعدد بالحق المتوشح بالعدة . . وإلا كان الأمر انتحارا . أو كان هزلا لا يليق بالمؤمنين !

ولا بد من بذل الأموال والأنفس . كما طلب الله من المؤمنين . وكما اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة . . فأما أن يقدر لهم الغلب ؛ أو يقدر لهم الاستشهاد ؛ فذلك شأنه - سبحانه - وذلك قدره المصحوب بحكمته . . أما هم فلهم إحدى الحسنيين عند ربهم . . والناس كلهم يموتون عندما يحين الأجل . . والشهداء وحدهمهم الذين يستشهدون . .

هناك نقط ارتكاز أصيلة في هذه العقيدة ، وفي منهجها الواقعي ، وفي خط سيرها المرسوم ، وفي طبيعة هذا الخط وحتمياته الفطرية ، التي لا علاقة لها بتغير الظروف .

وهذه النقط لا يجوز أن تتميع في حس المؤمنين - تحت أي ظرف من الظروف . ومن هذه النقط . . الجهاد . . الذي يتحدث عنه الله سبحانه هذا الحديث . . الجهاد في سبيل الله وحده . وتحت رايته وحدها . . وهذا هو الجهاد الذي يسمى من يقتلون فيه " شهداء " ويتلقاهم الملأ الأعلى بالتكريم . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{لَّا يَسۡتَوِي ٱلۡقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ غَيۡرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ وَٱلۡمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡۚ فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ دَرَجَةٗۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (95)

قال البخاري : حدثنا حفص بن عمر{[8103]} حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : لما نزلت : { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدًا فكتبها ، فجاء ابن أم مكتوم فشكا ضرارته فأنزل الله [ عز وجل ]{[8104]} { غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ }

حدثنا محمد بن يوسف ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : لما نزلت : { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ادع فلانا " فجاءه ومعه الدواة واللوح والكتف فقال : " اكتب : لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله " وخَلْف النبي صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم ، فقال : يا رسول الله ، أنا ضرير فنزلت مكانها : { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ }{[8105]}

وقال البخاري أيضا : حدثنا إسماعيل بن عبد الله ، حدثني إبراهيم بن سعد ، عن صالح بن كَيْسان ، عن ابن شهاب ، حدثني سهل بن سعد الساعدي : أنه رأى مَروان بن الحكم في المسجد ، قال : فأقبلت حتى جلست إلى جنبه ، فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عَلَيّ : " لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله " . فجاءه ابن أم مكتوم ، وهو يمليها عليَّ ، قال : يا رسول الله ، والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت - وكان أعمى - فأنزل الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفَخِذه على فخذي ، فثقلت علي حتى خفت أن تُرَض{[8106]} فخذي ، ثم سري عنه ، فأنزل الله : { غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ }

انفرد به البخاري{[8107]} دون مسلم ، وقد روي من وجه آخر عن زيد فقال الإمام أحمد :

حدثنا سليمان بن داود ، أنبأنا عبد الرحمن بن{[8108]} أبي الزناد ، عن خارجة بن زيد قال : قال زيد بن ثابت : إني قاعد إلى جنب رسول الله{[8109]} صلى الله عليه وسلم ، إذ أُوحِي إليه ، قال : وغشيته السكينة ، قال : فوقع{[8110]} فخذه على فخذي حين غشيته السكينة . قال زيد : فلا والله ما وجدت شيئًا قط أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم سري عنه فقال : " اكتب يا زيد " . فأخذت كتفا فقال : " اكتب : { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ } إلى قوله{[8111]} { أَجْرًا عَظِيمًا } فكتب{[8112]} ذاك في كتف ، فقام حين سمعها ابن أم مكتوم - وكان رجلا أعمى - فقام حين سمع فضيلة المجاهدين فقال : يا رسول الله ، وكيف بمن لا يستطيع الجهاد ممن هو أعمى ، وأشباه ذلك ؟ قال زيد : فوالله ما مضى{[8113]} كلامه - أو ما هو إلا أن قضى كلامه - حتى غشيت النبي صلى الله عليه وسلم السكينة ، فوقعت فخذه على فخذي ، فوجدت من ثقلها كما وجدت في المرة الأولى ، ثم سري عنه فقال : " اقرأ " . فقرأت عليه : " لا يستوِي القاعدون من الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ " {[8114]} فقال النبي صلى الله عليه وسلم : { غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ } قال زيد : فألحقتها ، فوالله لكأني أنظر إلى مُلْحَقها عند صدع كان في الكتف .

ورواه أبو داود ، عن سعيد بن منصور ، عن عبد الرحمن بن أبي الزِّناد ، عن أبيه ، عن خارجة بن زيد بن ثابت ، عن أبيه ، به نحوه{[8115]} .

وقال عبد الرزاق : أنبأنا{[8116]} معمر ، عن الزهري ، عن قَبيصة بن{[8117]} ذُؤَيب ، عن زيد بن ثابت ، قال : كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " اكتب لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله " فجاء{[8118]} عبد الله ابن أم مكتوم فقال : يا رسول الله إني أحب الجهاد في سبيل الله ولكن بي من الزمانة ما قد ترى ، قد ذهب بصري . قال زيد : فثقلت فَخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي ، حتى خشيت أن ترضها{[8119]} ثم سُرِّي عنه ، ثم قال : " اكتب : { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ }

ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير{[8120]} وقال عبد الرزاق : أخبرني ابن جُرَيْج ، أخبرني عبد الكريم - هو ابن مالك الجَزري{[8121]} - أن مِقْسما مولى عبد الله بن الحارث - أخبره أن ابن عباس أخبره : لا يستوي القاعدون من المؤمنين عن بدر ، والخارجون إلى بدر .

انفرد به البخاري{[8122]} دون مسلم . وقد رواه الترمذي من طريق حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عبد الكريم ، عن مِقْسم ، عن ابن عباس قال : لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضر عن بدر ، والخارجون إلى بدر ، لما نزلت غزوة بدر قال عبد الله بن جحش وابن أم مكتوم : إنا أعميان يا رسول الله فهل لنا رخصة ؟ فنزلت : { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ } وفضل الله المجاهدين على القاعدين درجة ، فهؤلاء القاعدون غير أولي الضرر { وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } درجات منه على القاعدين من المؤمنين غير أولي الضرر .

هذا لفظ الترمذي ، ثم قال : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه . {[8123]}

فقوله [ تعالى ]{[8124]} { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } كان مطلقا ، فلما نزل بوحي سريع : { غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ } صار{[8125]} ذلك مخرجا لذوي الأعذار{[8126]} المبيحة لترك الجهاد - من الْعَمَى والعَرَج والمرض - عن مساواتهم للمجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم .

ثم أخبر تعالى بفضيلة المجاهدين على القاعدين ، قال ابن عباس : { غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ } وكذا ينبغي أن يكون لما ثبت في الصحيح عند البخاري من طريق زهير بن معاوية ، عن حُمَيْد ، عن أنس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن بالمدينة أقوامًا ما سِرْتُم من مَسِير ، ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه " قالوا : وهم بالمدينة يا رسول الله ؟ قال : " نعم حبسهم العذر " .

وهكذا رواه الإمام أحمد عن محمد بن أبي عَدِيّ عن حُمَيد ، عن أنس ، به{[8127]} وعلقه البخاري مجزوما . ورواه أبو داود عن حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن موسى بن أنس بن مالك ، عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرًا ، ولا أنفقتم من نفقة ، ولا قطعتم من وادٍ إلا وهم معكم فيه " . قالوا : يا رسول الله ، وكيف{[8128]} يكونون معنا وهم بالمدينة ؟ قال : " حبسهم العذر " .

لفظ أبي داود{[8129]} وفي هذا المعنى قال الشاعر :

يا راحلين إلى البَيت العتيق لَقَدْ *** سرْتُم جُسُوما وسرْنا نحنُ أرواحا

إنَّا أقَمنا على عُذْرٍ وعَنْ قَدَرٍ *** ومَنْ أقامَ على عذْرٍ فقد راحا

وقوله : { وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } أي : الجنة والجزاء الجزيل . وفيه دلالة على أن الجهاد ليس بفرض عين بل هو فرض على الكفاية .

ثم قال تعالى : { وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } ثم أخبر تعالى بما فضلهم به من الدرجات ، في غرف الجِنَان{[8130]} العاليات ، ومغفرة الذنوب والزلات ، وحلول الرحمة والبركات ، إحسانا منه وتكريما ؛ ولهذا قال تعالى : { دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }


[8103]:في أ: "عمرو".
[8104]:زيادة من ر، أ.
[8105]:صحيح البخاري برقم (4593) ورقم (4594).
[8106]:في ر: "يرض".
[8107]:صحيح البخاري برقم (4592).
[8108]:في ر، أ: "عن".
[8109]:في أ: "النبي".
[8110]:في أ: "فرفع".
[8111]:في ر، أ: "الآية كلها إلى قوله".
[8112]:في أ: "فكتب".
[8113]:في ر، أ: "قضى".
[8114]:في ر: "والمجاهدين".
[8115]:المسند (5/191) وسنن أبي داود برقم (2507).
[8116]:في أ: "أخبرنا".
[8117]:في ر: "عن".
[8118]:في أ: "فجاءه".
[8119]:في أ: "يرضها".
[8120]:تفسير عبد الرزاق (1/164) وتفسير الطبري (9/91).
[8121]:في أ: "الجهزي".
[8122]:تفسير عبد الرزاق (1/165) وصحيح البخاري برقم (4595).
[8123]:سنن الترمذي برقم (3032).
[8124]:زيادة من ر، أ.
[8125]:في أ: "كان".
[8126]:في أ: "الأضرار".
[8127]:صحيح البخاري برقم (2838) والمسند (3/103).
[8128]:في ر: "قالوا: وكيف يا رسول الله".
[8129]:صحيح البخاري برقم (2839) وسنن أبي داود برقم (2508).
[8130]:في أ: "الجنات".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{لَّا يَسۡتَوِي ٱلۡقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ غَيۡرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ وَٱلۡمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡۚ فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ دَرَجَةٗۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (95)

{ لا يستوي القاعدون } عن الحرب . { من المؤمنين } في موضع الحال من القاعدين أو من الضمير الذي فيه . { غير أولي الضرر } بالرفع صفة للقاعدون لأنه لم يقصد بهم قوم بأعيانهم أو بدل منه . وقرأ نافع وابن عامر والكسائي بالنصب على الحال أو الاستثناء . وقرئ بالجر على أنه صفة للمؤمنين أو بدل منه . وعن زيد بن ثابت أنها نزلت ولم يكن فيها غير أولي الضرر فقال ابن أم مكتوم : وكيف وأنا أعمى فغشي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلسه الوحي ، فوقعت فخذه على فخذي حتى خشيت أن ترضها ثم سري عنه فقال اكتب { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر } { والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم } أي لا مساواة بينهم وبين من قعد عن الجهاد من غير علة . وفائدته تذكير ما بينهما من التفاوت ليرغب القاعد في الجهاد رفعا لرتبته وأنفة عن انحطاط منزلته . { فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة } جملة موضحة لما نفي الاستواء فيه والقاعدون على التقييد السابق ، ودرجة نصب بنزع الخافض أي بدرجة أو على المصدر لأنه تضمن معنى التفضيل ووقع موقع المرة منه ، أو الحال بمعنى ذوي درجة . { وكلا } من القاعدين والمجاهدين وعد الله الحسنى المثوبة الحسنى وهي الجنة لحسن عقيدتهم وخلوص نبتهم وإنما التفاوت في زيادة العمل المقتضي لمزيد الثواب وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما نصب على المصدر لأن فضل بمعنى أجر أو المفعول الثاني له لتضمنه معنى الإعطاء كأنه قيل وأعطاهم زيادة على القاعدين أجرا عظيما .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{لَّا يَسۡتَوِي ٱلۡقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ غَيۡرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ وَٱلۡمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡۚ فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ دَرَجَةٗۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (95)

في قوله : { لا يستوي } إبهام على السامع هو أبلغ من تحديد المنزلة التي بين المجاهد والقاعد ، فالمتأمل يمشي مع فكرته ولا يزال يتخيل الدرجات بينهما ، و { القاعدون } عبارة عن المتخلفين ، إذ القعود هيئة من لا يتحرك إلى الأمر المقعود عنه في الأغلب ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة ، «غيرُ أولي الضرر » برفع الراء من غير ، وقرأ الأعمش وأبو حيوة «غيرِ » بكسر الراء فمن رفع جعل غير صفة للقاعدين عند سيبويه ، كما هي عنده صفة في قوله تعالى : { غير المغضوب } [ الفاتحة : 7 ] بجر غير صفة ، ومثله قول لبيد : [ الرمل ]

وَإذَا جُوزِيتَ قِرْضاً فاجْزِهِ *** إنَّما يُجْزَى الْفَتى غَيْرَ الْجَمَلْ{[4219]}

قال المؤلف : كذا ذكره أبو علي ، ويروى ليس الجمل ، ومن قرأ بنصب الراء جعله استثناء من القاعدين ، قال أبو الحسن : ويقوي ذلك أنها نزلت بعدها على طريق الاستثناء والاستدراك .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وقد يتحصل الاستدراك بتخصيص القاعدين بالصفة ، قال الزجّاج : يجوز أيضاً في قراءة الرفع أن يكون على جهة الاستثناء ، كأنه قال : «لا يستوي القاعدون والمجاهدون إلا أولو الضرر » فإنهم يساوون المجاهدين .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذا مردود ، لأن { أولي الضرر } لا يساوون المجاهدين ، وغايتهم أن خرجوا من التوبيخ والمذمة التي لزمت القاعدين من غير عذر ، قال : ويجوز في قراءة نصب الراء أن يكون على الحال ، وأما كسر الراء فعلى الصفة للمؤمنين ، وروي من غير طريق أن الآية نزلت { لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون } فجاء ابن أم مكتوم حين سمعها ، فقال : يا رسول الله هل من رخصة ؟ فإني ضرير البصر فنزلت عند ذلك { غير أولي الضرر } قال الفلقان بن عاصم{[4220]} كنا قعوداً عند النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل عليه ، وكان إذا أوحي إليه دام بصره مفتوحة عيناه وفرغ سمعه وبصره لما يأتيه من الله ، وكنا نعرف ذلك في وجهه ، فلما فرغ قال للكاتب : اكتب { لا يستوي القاعدونَ من المؤمنين والمجاهدون } إلى آخر الآية . قال : فقام الأعمى ، فقال : يا رسول الله ما ذنبنا ؟ قال : فأنزل الله على رسوله ، فقلنا للأعمى : إنه ينزل عليه ، قال : فخاف أن ينزل فيه شيء فبقي قائماً مكانه يقول : أتوب الى رسول الله حتى فرغ رسول الله ، فقال الكاتب : اكتب { غير أولي الضرر } وأولو الضرر هم أهل الأعذار إذ قد أضرت بهم حتى منعتهم الجهاد . قاله ابن عباس وغيره . وقوله تعالى { بأموالهم وأنفسهم } هي الغاية في كمال الجهاد . ولما كان أهل الديوان متملكين بذلك العطاء يصرفون في الشدائد وتروعهم البعوث والأوامر . قال بعض العلماء : هم أعظم أجراً من المتطوع لسكون جأشه ونعمة باله في الصوائف الكبار ونحوها{[4221]} .

واحتج بهذه الآية المظهرة لفضل المال من قال : إن الغنى أفضل من الفقر ، وإن متعلقه بها لبين . وفسر الناس الآية على أن تكملة التفضيل فيها ب «الدرجة » ثم بالدرجات إنما هو مبالغة وتأكيد وبيان ، وقال ابن جريج الفضل بدرجة هو على القاعدين من أهل العذر .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : لأنهم مع المؤمنين بنياتهم كما قال النبي عليه السلام في غزوة تبوك «إن بالمدينة رجالاً ما قطعنا وادياً ولا سلكنا جبلاً ولا طريقاً إلا وهم معنا حبسهم العذر »{[4222]} قال ابن جريج . والتفضيل «بالأجر العظيم والدرجات » هو على القاعدين من غير أهل العذر ، و { الحسنى } الجنة ، وهي التي وُعدها المؤمنون ، وكذلك قال السدي وغيره .


[4219]:- القرض: ما تعطيه غيرك من مال على أن يرده إليك، وما يقدم من عمل يلتمس عليه الجزاء. والفتى: السيد الكريم، والجمل هنا: الجاهل، أو لعل "لبيدا" أراد أن الذي يعني بمقارضة المعروف هو الإنسان لا الحيوان، ورواية الديوان: ="ليس الجمل"، ومعنى البيت: إذا قدم إليك معروف فرده بمثله، والبيت من قصيدة يتحدث فيها "لبيد" عن مآثره، ويأسى لفقد أخيه "أربد"، ومطلعها: إن تقوى ربنا خير نفل وبإذن الله ريثي وعجل
[4220]:- الجرمي الصحابي.
[4221]:- الصوائف: جمع صائفة، قال الجوهري: وصائفة القوم: ميرتهم في الصيف. (اللسان)
[4222]:- رواه البخاري عن أنس بن مالك في غزوة تبوك، مع اختلاف يسير في ترتيب الألفاظ عن هنا.