فإذا فرغ من التعقيب جاء بمشهد النجاة بعد مشاهد العذاب . .
( وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون ) . .
وقد وردت تفصيلات هذه النجاة في السور المكية التي نزلت من قبل . أما هنا فهو مجرد التذكير لقوم يعرفون القصة . سواء من القرآن المكي ، أو من كتبهم وأقاصيصهم المحفوظة . إنما يذكرهم بها في صورة مشهد ، ليستعيدوا تصورها ، ويتأثروا بهذا التصور ، وكأنهم هم الذين كانوا ينظرون إلى فرق البحر ، ونجاة بني إسرائيل بقيادة موسى - عليه السلام - على مشهد منهم ومرأى ! وخاصية الاستحياء هذه من أبرز خصائص التعبير القرآني العجيب .
وقوله تعالى : { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } معناه : وبعد أن أنقذناكم من آل فرعون ، وخرجتم مع موسى ، عليه السلام ، خرج{[1730]} فرعون في طلبكم ، ففرقنا بكم البحر ، كما أخبر تعالى عن ذلك مفصلا{[1731]} كما سيأتي في مواضعه{[1732]} ومن أبسطها في سورة الشعراء إن شاء الله .
{ فَأَنْجَيْنَاكُمْ } أي : خلصناكم منهم ، وحجزنا بينكم وبينهم ، وأغرقناهم وأنتم تنظرون ؛ ليكون ذلك أشفى لصدوركم ، وأبلغ في إهانة عدوكم .
قال{[1733]} عبد الرزاق : أنبأنا مَعْمر ، عن أبي إسحاق الهَمْداني ، عن عمرو بن ميمون الأودي في قوله تعالى : { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ } إلى قوله : { وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } قال : لما خرج موسى ببني إسرائيل ، بلغ ذلك فرعون فقال : لا تتبعوهم حتى تصيح الديكة . قال : فوالله ما صاح ليلتئذ ديك حتى أصبحوا ؛ فدعا بشاة فَذُبحت ، ثم قال : لا أفرغ من كبدها حتى يجتمع إليَّ ستمائة ألف من القبط . فلم يفرغ من كبدها حتى اجتمع إليه ستمائة ألف من القبط ثم سار ، فلما أتى موسى البحر ، قال له رجل من أصحابه ، يقال له : يوشع بن نون : أين أمَرَ ربك ؟ قال : أمامك ، يشير إلى البحر . فأقحم يوشع فرسَه في البحر حتى بلغ الغَمْرَ ، فذهب به الغمر ، ثم رجع . فقال : أين أمَرَ ربك يا موسى ؟ فوالله ما كذبت ولا كُذبت{[1734]} . فعل ذلك ثلاث مرات ، ثم أوحى الله إلى موسى : { أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ } فضربه { فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ } [ الشعراء : 63 ] ، يقول : مثل الجبل . ثم سار موسى ومن معه وأتبعهم فرعون في طريقهم ، حتى إذا تتاموا فيه أطبقه الله عليهم فلذلك قال : { وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ }{[1735]} .
وكذلك قال غير واحد من السلف ، كما سيأتي بيانه في موضعه{[1736]} . وقد ورد أن هذا اليوم كان يوم عاشوراء ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا عفان ، حدثنا عبد الوارث ، حدثنا أيوب ، عن عبد الله بن سعيد بن جبير ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود يصومون يوم عاشوراء ، فقال : " ما هذا اليوم الذي تصومون ؟ " . قالوا : هذا يوم صالح ، هذا يوم نجى الله عز وجل فيه بني إسرائيل من عدوهم{[1737]} ، فصامه موسى ، عليه السلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا أحق بموسى منكم " . فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمر بصومه .
وروى هذا الحديث البخاري ، ومسلم ، والنسائي ، وابن ماجه من طرق ، عن أيوب السختياني ، به{[1738]} نحو ما تقدم .
وقال أبو يعلى الموصلي : حدثنا أبو الربيع ، حدثنا سلام - يعني ابن سليم - عن زيد العَمِّيّ عن يزيد الرقاشي عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " فلق الله البحر لبني إسرائيل يوم عاشوراء " {[1739]} .
وهذا ضعيف من هذا الوجه فإن زيدا العَمِّيّ فيه ضعف ، وشيخه يزيد الرقاشي أضعف منه .
{ وإذ فرقنا بكم البحر } فلقناه وفصلنا بين بعضه وبعض حتى حصلت فيه مسالك بسلوككم فيه . أو بسبب إنجائكم ، أو ملتبسا بكم كقوله :
تدوس بنا الجماجم والتريبا *** . . .
وقرئ { فرقنا } على بناء التكثير لأن المسالك كانت اثني عشر بعدد الأسباط . { فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون } أراد به فرعون وقومه ، واقتصر على ذكرهم للعلم بأنه كان أولى به ، وقيل شخصه كما روي أن الحسن رضي الله تعالى عنه كان يقول : اللهم صل على آل محمد أي شخصه واستغني بذكره عن ذكر أتباعه .
{ وأنتم تنظرون } ذلك ، أي غرقهم وإطباق البحر عليهم ، أو انفلاق البحر عن طرق يابسة مذللة ، أو جثثهم التي قذفها البحر إلى الساحل ، أو ينظر بعضكم بعضا . روي أنه تعالى أمر موسى عليه السلام أن يسري ببني إسرائيل ، فخرج بهم فصبحهم فرعون وجنوده ، وصادفهم على شاطئ البحر ، فأوحى الله تعالى إليه أن أضرب بعصاك البحر ، فضربه فظهر فيه اثنا عشر طريقا يابسا فسلكوها فقالوا : يا موسى نخاف أن يغرق بعضنا ولا نعلم ، ففتح الله فيها كوى فتراؤوا وتسامعوا حتى عبروا البحر ، ثم لما وصل إليه فرعون ورآه منفلقا اقتحم فيه هو وجنوده فالتطم عليهم وأغرقهم أجمعين .
واعلم أن هذه الواقعة من أعظم ما أنعم الله به على بني إسرائيل ، ومن الآيات الملجئة إلى العلم بوجود الصانع الحكيم وتصديق موسى عليه الصلاة والسلام ، ثم إنهم بعد ذلك اتخذوا العجل وقالوا : { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } ونحو ذلك ، فهم بمعزل في الفطنة والذكاء وسلامة النفس وحسن الاتباع عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، مع أن ما تواتر من معجزاته أمور نظرية مثل : القرآن والتحدي به والفضائل المجتمعة فيه الشاهدة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم دقيقة تدركها الأذكياء ، وإخباره عليه الصلاة والسلام عنها من جملة معجزاته على ما مر تقريره .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.