وبعد هذا البيان العريض يتجه إلى المسلمين بالتقوية والتأسية والتثبيت
( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون . إن كنتم مؤمنين ) . .
لا تهنوا - من الوهن والضعف - ولا تحزنوا - لما أصابكم ولما فاتكم - وأنتم الأعلون . . عقيدتكم أعلى فأنتم تسجدون لله وحده ، وهم يسجدون لشيء من خلقه أو لبعض من خلقه ! ومنهجكم أعلى . فأنتم تسيرون على منهج من صنع الله ، وهم يسيرون على منهج من صنع خلق الله ! ودوركم أعلى . فأنتم الأوصياء على هذه البشرية كلها ، الهداة لهذه البشرية كلها ، وهم شاردون عن النهج ، ضالون عن الطريق . ومكانكم في الأرض أعلى ، فلكم وراثة الأرض التي وعدكم الله بها ، وهم إلى الفناء والنسيان صائرون . . فإن كنتم مؤمنين حقا فأنتم الأعلون . وإن كنتم مؤمنين حقا فلا تهنوا ولا تحزنوا . فإنما هي سنة الله أن تصابوا وتصيبوا ، على أن تكون لكم العقبى بعد الجهاد والابتلاء والتمحيص :
{ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مّؤْمِنِينَ }
وهذا من الله تعالى ذكره تعزية لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما أصابهم من الجراح والقتل بأُحد ، قال : ولا تهنوا ولا تحزنوا يا أصحاب محمد ، يعني ولا تضعفوا بالذي نالكم من عدوّكم بأُحد من القتل والقروح ، عن جهاد عدوكم وحربهم ، من قول القائل : وهن فلان في هذا الأمر فهو يهن وهنا : { وَلا تَحْزَنُوا } : ولا تأسوا فتجزعوا على ما أصابكم من المصيبة يومئذ ، فإنكم أنتم الأعلون ، يعني الظاهرون عليهم ، ولكم العقبى في الظفر والنصرة عليهم ، يقول : إن كنتم مؤمنين ، يقول : إن كنتم مصدّقي في نبيي محمد صلى الله عليه وسلم فيما يعدكم ، وفيما ينبئكم من الخبر عما يئول إليه أمركم وأمرهم . كما :
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن يونس ، عن الزهري ، قال : كثر في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم القتل والجراح ، حتى خلص إلى كل امرىء منهم اليأس ، فأنزل الله عزّ وجلّ القرآن ، فآسى فيه المؤمنين بأحسن ما آسى به قوما من المسلمين كانوا قبلهم من الأمم الماضية فقال : { وَلاَ تَهنُوا وَلا تَحْزَنُوا وأنتُمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْنُمْ مُوءْمِنِينَ } إلى قوله : { لَبَرَزَ الّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ القَتْلُ إلى مَضَاجِعِهِمْ } .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَلاَ تَهْنُوا وَلا تَحْزَنُوا وأنتُمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُوءْمِنِينَ } : يعزّي أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كما تسمعون ، ويحثهم على قتال عدوّهم ، وينهاهم عن العجز والوهن في طلب عدوّهم في سبيل الله .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، قال : حدثنا عباد ، عن الحسن ، في قوله : { وَلاَ تَهْنُوا وَلا تَحْزَنُوا وأنتُمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُوءْمِنِينَ } قال : يأمر محمدا يقول : ولا تهنوا أن تمضوا في سبيل الله .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ : { وَلاَ تَهْنُوا } : ولا تضعفوا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، في قوله : { وَلاَ تَهْنُوا وَلا تَحْزَنُوا } يقول : ولا تضعفوا .
حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { وَلاَ تَهْنُوا } قال ابن جريج : ولا تضعفوا في أمر عدوكم ، { وَلا تَحْزَنُوا وأنتُمُ الأعْلَوْنَ } قال : انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب ، فقالوا : ما فعل فلان ؟ ما فعل فلان ؟ فنعى بعضهم بعضا ، وتحدثوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل ، فكانوا في همّ وحزن . فبينما هم كذلك ، إذ علا خالد بن الوليد الجبل بخيل المشركين فوقهم وهم أسفل في الشعب¹ فلما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم فرحوا ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «اللّهُمّ لا قُوّةَ لَنا إلاّ بِكَ ، ولَيْسَ يَعْبُدُكَ بِهَذِهِ البَلْدَةِ غَيْرُ هَولاءِ النّفَرِ » . قال : وثاب نفر من المسلمين رماة ، فصعدوا ، فرموا خيل المشركين حتى هزمهم الله ، وعلا المسلمون الجبل¹ فذلك قوله : { وأنتُمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُوءْمِنِينَ } .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَلاَ تَهْنُوا } أي لا تضعفوا ، { وَلا تَحْزَنُوا } ولا تأسوا على ما أصابكم ، { وأنتُمُ الأعْلَوْنَ } أي لكم تكون العاقبة والظهور ، { إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } : إن كنتم صدقتم نبيي بما جاءكم به عني .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : أقبل خالد بن الوليد يريد أن يعلو عليهم الجبل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «اللّهُمّ لا يَعْلُونَ عَلَيْنَا ! » فأنزل الله عزّ وجلّ : { وَلاَ تَهْنُوا وَلا تَحْزَنُوا وأنتُمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } .
قوله : { ولا تهنوا ولا تحزنوا } نهي للمسلمين عن أسباب الفشل . والوهن : الضعف ، وأصله ضعف الذات : كالجسم في قوله تعالى : { ربِّ إنِّي وهَن العظم منِّي } [ مريم : 4 ] ، والحبْل في قول زهير :
وهو هنا مجاز في خور العزيمة وضعف الإرادة وانقلاب الرجاء يأساً ، والشَّجاعة جبناً ، واليقين شكّاً ، ولذلك نهوا عنه . وأمَّا الحزن فهو شدّة الأسف البالغة حدّ الكآبة والانكسار . والوهنُ والحزن حالتان للنفس تنشآن عن اعتقاد الخيبة والرزء فيترتّب عليهما الاستسلام وترك المقاومة . فالنهي عن الوهن والحزن في الحقيقة نهي عن سببهما وهو الاعتقاد ، كما يُنهى عن النسيان ، وكما يُنهى أحد عن فعل غيره في نحو لا أرَيَنّ فلاناً في موضع كذا أي لا تَتْركْه يحلّ فيه ، ولذلك قدّم على هذا النَّهي قوله : { قد خلت من قبلكم سنن } [ آل عمران : 137 ] إلخ . . . وعقب بقوله : { وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } .
وقوله : { وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } ، الواو للعطف وهذه بشارة لهم بالنَّصر المستقبل ، فالعلوّ هنا علوّ مجازيّ وهو علوّ المنزلة .
والتَّعليق بالشرط في قوله : { إن كنتم مؤمنين } قصد به تهييج غيرتهم على الإيمان إذ قد علِم الله أنَّهم مؤمنون ولكنَّهم لمّا لاح عليهم الوهن والحزن من الغلبة ، كانوا بمنزلة من ضعف يقينه فقيل لهم : إن علمتم من أنفسكم الإيمان ، وجيء بإن الشرطية الَّتي من شأنها عدم تحقيق شرطها ، إتماماً لِهذا المقصد .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.