المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{قَالَ يَٰنُوحُ إِنَّهُۥ لَيۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَيۡرُ صَٰلِحٖۖ فَلَا تَسۡـَٔلۡنِ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۖ إِنِّيٓ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلۡجَٰهِلِينَ} (46)

46- قال الله سبحانه : إن ابنك ليس من أهلك ، إذ أنه بكفره وسيره مع الكافرين قد انقطعت الولاية بينك وبينه ، وقد عمل أعمالا غير صالحة ، فلم يصر منك ، فلا تطلب ما لا تعلم : أهو صواب أم خطأ ؟ ولا تَسِرْ وراء شفقتك وإني أرشدك إلى الحق لكيلا تكون من الجاهلين الذين تنسيهم الشفقة الحقائق الثابتة .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قَالَ يَٰنُوحُ إِنَّهُۥ لَيۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَيۡرُ صَٰلِحٖۖ فَلَا تَسۡـَٔلۡنِ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۖ إِنِّيٓ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلۡجَٰهِلِينَ} (46)

25

وجاءه الرد بالحقيقة التي غفل عنها . فالأهل - عند الله وفي دينه وميزانه - ليسوا قرابة الدم ، إنما هم قرابة العقيدة . وهذا الولد لم يكن مؤمنا ، فليس إذن من أهله وهو النبي المؤمن . . جاءه الرد هكذا في قوة وتقرير وتوكيد ؛ وفيما يشبه التقريع والتأنيب والتهديد :

( قال : يا نوح إنه ليس من أهلك ، إنه عمل غير صالح ، فلا تسألن ما ليس لك به علم . إني أعظك أن تكون من الجاهلين ) . .

إنها الحقيقة الكبيرة في هذا الدين . حقيقة العروة التي ترجع إليها الخيوط جميعا . عروة العقيدة التي تربط بين الفرد والفرد مالا يربطه النسب والقرابة :

( إنه ليس من أهلك . إنه عمل غير صالح ) . .

فهو منبت منك وأنت منبت منه ، ولو كان ابنك من صلبك ، فالعروة الأولى مقطوعة ، فلا رابطة بعد ذلك ولا وشيجة .

ولأن نوحا دعا دعاء من يستنجز وعدا لا يراه قد تحقق . . كان الرد عليه يحمل رائحة التأنيب والتهديد :

( فلا تسألن ما ليس لك به علم . إني أعظك أن تكون من الجاهلين ) . .

إني أعظك خشية أن تكون من الجاهلين بحقيقة الوشائج والروابط ، أو حقيقة وعد الله وتأويله ، فوعد الله قد أول وتحقق ، ونجا أهلك الذين هم أهلك على التحقيق .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{قَالَ يَٰنُوحُ إِنَّهُۥ لَيۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَيۡرُ صَٰلِحٖۖ فَلَا تَسۡـَٔلۡنِ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۖ إِنِّيٓ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلۡجَٰهِلِينَ} (46)

{ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } أي : الذين وعدت إنجاءهم{[14627]} ؛ لأني{[14628]} إنما وعدتك{[14629]} بنجاة من آمن من أهلك ؛ ولهذا قال : { وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ } [ هود : 40 ] ، فكان هذا الولد ممن سَبَق عليه القول بالغرق لكفره ومخالفته أباه نبيّ الله نوحا ، عليه السلام .

وقد نص غير واحد من الأئمة على تخطئة من ذهب في تفسير هذا إلى أنه ليس بابنه ، وإنما كان ابن زِنْية{[14630]} ، ويحكى القول بأنه ليس بابنه ، وإنما كان ابن امرأته عن مجاهد ، والحسن ، وعُبَيد بن عُمَير ، وأبي جعفر الباقر ، وابن جُرَيج ، واحتج بعضهم بقوله : { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } وبقوله : { فَخَانَتَاهمُا } [ التحريم : 10 ] ، فممن قاله الحسن البصري ، احتج بهاتين الآيتين . وبعضهم يقول : كان ابن امرأته . وهذا يحتمل{[14631]} أن يكون أراد ما أراد الحسن ، أو أراد أنه نسب إليه مجازا ، لكونه كان ربيبًا عنده ، فالله أعلم .

وقال ابن عباس ، وغير واحد من السلف : ما زنت امرأة نبي قط ، قال : وقوله : { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } أي : الذين وعدتك نجاتهم{[14632]} .

وقولُ ابن عباس في هذا هو الحق الذي لا محيد عنه ، فإن الله سبحانه{[14633]} أغير من أن يمكن{[14634]} امرأة نبي من الفاحشة{[14635]} ولهذا غضب الله على الذين رمَوا أم المؤمنين عائشة بنتَ الصدّيق زوج النبي صلى الله عليه وسلم{[14636]} ، وأنكر على المؤمنين الذين تكلموا بهذا وأشاعوه ؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } إلى قوله { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ } [ النور : 11 - 15 ] .

وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن قتادة وغيره ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : هو ابنه غير أنه خالفه في العمل والنية . قال عكرمة : في بعض الحروف : " إنه عَمِل عملا غير صالح " ، والخيانة تكون على غير باب .

وقد ورد في الحديث أن رسول الله قرأ بذلك ، فقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن شَهْر بن حَوْشَب ، عن أسماء بنت يزيد قالت ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ : " إِنَّهُ عَمِلَ غَيْرَ صَالِح " ، وسمعته يقول{[14637]} : { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } ولا يبالي { إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ الزمر : 53 ]{[14638]} .

وقال أحمد أيضا : حدثنا وَكِيع ، حدثنا هارون النحوي ، عن ثابت البُنَاني ، عن شَهْر بن حَوْشَب ، عن أم سلمة أن رسول الله قرأها : " إنه عَمِل غَيْرَ صَالِح " {[14639]} أعاده أحمد أيضا في مسنده{[14640]} .

أم سلمة هي{[14641]} أم المؤمنين والظاهر - والله أعلم - أنها أسماء{[14642]} بنت يزيد ، فإنها تكنى بذلك أيضا{[14643]} .

وقال عبد الرزاق أيضًا : أخبرنا الثوري وابن عيينة ، عن موسى بن أبي عائشة ، عن سليمان بن قَتَّة قال : سمعت ابن عباس - سُئِل - وهو إلى جَنْب الكعبة - عن قول الله : { فَخَانَتَاهُمَا } [ التحريم : 10 ] ، قال : أما وإنه لم يكن بالزنا ، ولكن كانت هذه تخبر الناس أنه مجنون ، وكانت هذه تدل على الأضياف . ثم قرأ : { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } قال ابن عيينة : وأخبرني عمار الدُهْبِي{[14644]} أنه سأل سعيد بن جبير عن ذلك فقال : كان ابن نوح ، إن الله لا يكذب ! قال تعالى : { وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ } قال : وقال بعض العلماء : ما فجرت امرأة نبي قط{[14645]} .

وكذا روي عن مجاهد أيضًا ، وعكرمة ، والضحاك ، وميمون بن مِهْران وثابت بن الحجاج ، وهو اختيار أبي جعفر بن جرير ، وهو الصواب [ الذي ]{[14646]} لا شك فيه .


[14627]:- في أ : "نجاتهم".
[14628]:- في ت : "الذين أي : ليس من أهلك وعدت بنجاتهم لأنما".
[14629]:- في ت ، أ : "وعدناك".
[14630]:- في ت ، أ : "ليس منك إنما هو ولد زنية".
[14631]:- في ت : "محتمل".
[14632]:- في ت : "بنجاتهم".
[14633]:- في ت : "تعالى".
[14634]:- في ت : "يمكن من".
[14635]:- في ت : "هذه الفاحشة".
[14636]:- في أ : "زوج النبي صلى الله عليه وسلم بالفاحشة".
[14637]:- في ت : "يقرأ".
[14638]:- المسند (6/454).
[14639]:- المسند (6/294).
[14640]:- المسند (6/322).
[14641]:- في ت ، أ : "هند".
[14642]:- في ت : "إنما هي أسماء".
[14643]:- قال الطبري في تفسيره (15/348) : "ولا نعلم هذه القراءة قرأ بها أحد من قرأة الأمصار إلا بعض المتأخرين ، واعتل في ذلك بخبر روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرأ ذلك كذلك ، غير صحيح السند ، وذلك حديث روي عن شهر بن حوشب ، فمرة يقول : عن أم سلمة ، ومرة يقول عن أسماء بنت يزيد. ، ولا نعلم أبنت يزيد يريد؟ ولا نعلم لشهر سماعا يصح عن أم سلمة". وانظر : حاشية الأستاذ محمود شاكر عليه فقد أفاد وأجاد.
[14644]:- في ت : "الذهبي".
[14645]:- رواه الطبري في تفسيره (15/343).
[14646]:- زيادة من ت ، أ.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{قَالَ يَٰنُوحُ إِنَّهُۥ لَيۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَيۡرُ صَٰلِحٖۖ فَلَا تَسۡـَٔلۡنِ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۖ إِنِّيٓ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلۡجَٰهِلِينَ} (46)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ يَنُوحُ إِنّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّيَ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } .

يقول الله تعالى ذكره : قال الله يا نوح إن الذي غرّقته فأهلكته الذي تذكر أنه من أهلك ليس من أهلك .

واختلف أهل التأويل في معنى قوله : لَيْسَ مِنْ أهْلِكَ فقال بعضهم : معناه : ليس من ولدك هو من غيرك . وقالوا : كان ذلك من حِنْث . ذكر من قال ذلك :

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن عوف ، عن الحسن ، في قوله : إنّهُ لَيْسَ مِنْ أهْلِكَ قال : لم يكن ابنه .

حدثنا أبو كريب وابن وكيع ، قالا : حدثنا يحيى بن يمان ، عن شريك ، عن جابر ، عن أبي جعفر : وَنادَى نُوحٌ ابْنَهُ قال : ابن امرأته .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن أصحاب ابن أبي عَروبة فيهم الحسن ، قال : لا والله ما هو بابنه .

قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن أبي جعفر : وَنادَى نُوحٌ ابْنَهُ قال : هذه بلغة طيّ لم يكن ابنه ، كان ابن امرأته .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : حدثنا هشيم ، عن عوف ، ومنصور ، عن الحسن في قوله : إنّهُ لَيْسَ مِنْ أهْلِكَ قال : لم يكن ابنه . وكان يقرؤها : «إنّهُ عَمِلَ غيرَ صَالِحٍ » .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قال : كنت عند الحسن فقال : نادي نوح ابنه : لعمر الله ما هو ابنه قال : قلت يا أبا سعيد يقول : وَنادَى نُوحٌ ابْنَهُ وتقول : ليس بابنه ؟ قال : أفرأيت قوله : إنّهُ لَيْسَ مِنْ أهْلِكَ ؟ قال : قلت إنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهَم معك ، ولا يختلف أهل الكتاب أنه ابنه . قال : إن أهل الكتاب يَكْذِبون .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : سمعت الحسن يقرأ هذه الآية : «إنّهُ لَيْسَ مِنْ أهْلِكَ إنّهُ عَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ » فقال عند ذلك : والله ما كان ابنه ثم قرأ هذه الآية : فخانَتاهُما قال سعيد : فذكرت ذلك لقتال ، قال : ما كان ينبغي له أن يحلف .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَلا تَسأَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ قال : تبين لنوح أنه ليس بابنه .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَلا تَسأَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ قال : بين الله لنوح أنه ليس بابنه .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .

قال ابن جريج في قوله : وَنادَى نُوحٌ ابْنَهُ قال : ناداه وهو يحسبه أنه ابنه وكان وُلِد على فراشه .

حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن ثور ، عن أبي جعفر : إنّهُ لَيْسَ مِنْ أهْلِكَ قال : لو كان من أهله لنجا .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا سفيان ، عن عمرو ، وسمع عبيد بن عمير يقول : نرى أن ما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم«الوَلَدُ للْفِرَاشِ » ، من أجل ابن نوح .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن ابن عون ، عن الحسن ، قال : لا والله ما هو بابنه .

وقال آخرون : معنى ذلك : لَيْسَ مِنْ أهْلِكَ الذين وعدتك أن أُنجيهم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب وابن وكيع ، قالا : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن أبي عامر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، في قوله : وَنادَى نُوحٌ ابْنَهُ قال : هو ابنه .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن سفيان ، قال : حدثنا أبو عامر ، عن الضحاك ، قال : قال ابن عباس : هو ابنه ، ما بغت امرأة نبيّ قطّ .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن أبي عامر الهمدانيّ ، عن الضحاك بن مزاحم ، عن ابن عباس ، قال : ما بغت امرأة نبيّ قطّ ، قال : وقوله : إنّهُ لَيْسَ مِنْ أهْلِكَ الذين وعدتك أن أنجيهَم معك .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة وغيره ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : هو ابنه ، غيرَ أنه خالفه في العمل والنية . قال عكرمة في بعض الحروف : إنه عمل عملاً غير صالح ، والخيانة تكون على غير باب .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كان عكرمة يقول : كان ابنه ، ولكن كان مخالفا له في النية والعمل ، فمن ثم قيل له : إنّهُ لَيْسَ مِنْ أهْلِكَ .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري وابن عيينة ، عن موسى بن أبي عائشة عن سليمان بن قَتّة ، قال : سمعت ابن عباس يُسأل وهو إلى جنب الكعبة عن قول الله تعالى : فخانَتاهُمَا قال : أَمَا إنه لم يكن بالزنا ، ولكن كانت هذه تخبر الناس أنه مجنون ، وكانت هذه تدلّ على الأضياف . ثم قرأ : إنّهُ عَمَلٌ غيرُ صَالِحٍ .

قال ابن عيينة : وأخبرني عمار الدّهْنِيّ أنه سأل سعيد بن جبير ، عن ذلك فقال : كان ابن نوح ، إن الله لا يكذب . قال : وَنادَى نُوحٌ ابْنَهُ قال : وقال بعض العلماء : ما فجرت امرأة نبيَ قط .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن عمار الدهني ، عن سعيد بن جبير ، قال : قال الله وهو الصادق ، وهو ابنه : وَنادَى نُوحٌ ابْنَهُ .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سعيد ، عن موسى بن أبي عائشة ، عن عبد الله بن شداد عن ابن عباس ، قال : ما بغت امرأة نبيّ قطّ .

حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : سألت أبا بشر ، عن قوله : إنّهُ لَيْسَ مِنْ أهْلِكَ قال : ليس من أهل دينك ، وليس ممن وعدتك أن أنجيهَم . قال يعقوب : قال هشيم : كان عامة ما كان يحدثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن عبيد ، عن يعقوب بن قيس ، قال : أتى سعيدَ بن جبير رجل فقال : يا أبا عبد الله ، الذي ذكر الله في كتابه ابن نوح أبنه هو ؟ قال : نعم ، والله إن نبيّ الله أمره أن يركب معه في السفينة فعصى ، فقال : سآوِي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المَاءِ قالَ يا نُوحُ إنّهُ لَيسَ مِنْ أهْلِكَ إنّهُ عَمَلٌ غيرُ صَالِحٍ لمعصية نبيّ الله .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني أبو صخر ، عن أبي معاوية البَجَلِي ، عن سعيد بن جبير أنه جاء إليه رجل فسأله فقال : أرأيتك ابن نوح : أبنه ؟ فسبح طويلاً ثم قال : لا إله إلا الله ، يحدّث الله محمدا : وَنادَى نُوحٌ ابْنَهُ وتقول ليس منه ولكن خالفه في العمل ، فليس منه من لم يؤمن .

حدثني يعقوب وابن وكيع ، قالا : حدثنا ابن عُلَية ، عن أبي هارون الغَنَوي ، عن عكرمة ، في قوله : وَنادَى نُوحٌ ابْنَهُ قال : أشهد أنه ابنه ، قال الله : وَنادَى نُوحٌ ابْنَهُ .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن مجاهد وعكرمة قالا : هو ابنه .

حدثني فَضَالة بن الفضل الكوفي ، قال : قال بَزِيع : سأل رجل الضحاك عن ابن نوح فقال : ألا تعجبون إلى هذا الأحمق يسألني عن ابن نوح ؟ وهو ابن نوح ، كما قال الله : قال نوح لابنه .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبيد ، عن الضحاك أنه قرأ : وَنادَى نُوحٌ ابْنَهُ . وقوله : لَيْسَ مِنْ أهْلِكَ قال : يقول : ليس هو من أهلك . قال : يقول : ليس هو من أهل ولايتك ، ولا ممن وعدتك أن أنجيَ من أهلك . إنّهُ عَمَلٌ غيرُ صَالِحٍ قال : يقول : كان عمله في شرك .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : هو والله ابنه لصلبه .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : لَيْسَ مِنْ أهْلِكَ قال : ليس من أهل دينك ، ولا ممن وعدتك أن أنجيه ، وكان ابنه لصلبه .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : قالَ يا نُوحُ إنّهُ لَيْسَ مِنْ أهْلِكَ يقول : ليس ممن وعدناه النجاة .

حُدثت عن الحسينِ بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : إنّهُ لَيْسَ مِنْ أهْلِكَ يقول : ليس من أهل ولايتك ، ولا ممن وعدتك أن أنجيَ من أهلك . إنّهُ عَمَلٌ غيرُ صَالِحٍ يقول : كان عمله في شرك .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا خالد بن حيان ، عن جعفر بن بِرْقان ، عن ميمون ، وثابت بن الحجاج قالا : هو ابنه وُلد على فراشه .

وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : تأويل ذلك : إنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجَيهم ، لأنه كان لدينك مخالفا وبي كافرا . وكان ابنه لأن الله تعالى ذكره قد أخبر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أنه ابنه ، فقال : وَنادَى نُوحٌ ابْنَهُ وغير جائز أن يخبر أنه ابنه فيكون بخلاف ما أخبر . وليس في قوله : إنّهُ لَيْسَ مِنْ أهْلِكَ دلالة على أنه ليس بابنه ، إذ كان قوله : لَيْسَ مِنْ أهْلِكَ محتملاً من المعنى ما ذكرنا ، ومحتملاً أنه ليس من أهل دينك ، ثم يحذف «الدين » فيقال : إنه ليس من أهلك ، كما قيل : وَاسأَلِ القَرْيَةَ التي كُنّا فِيها .

وأما قوله : إنّهُ عَمَلٌ غيرُ صَالِحٍ فإن القرّاء اختلفت في قراءته ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار : إنّهُ عَمَلٌ غيرُ صَالِحٍ بتنوين عمل ورفع غير .

واختلف الذي قرءوا ذلك كذلك في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : إن مسألتك إياي هذه عملٌ غيرُ صالح . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : إنّهُ عَمَلٌ غيرُ صَالِحٍ قال : إن مسألتك إياي هذه عمل غير صالح .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : إنّهُ عَمَلٌ غيرُ صَالِحٍ أي سوء فَلا تَسأَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : إنّهُ عَمَلٌ غيرُ صَالِحٍ يقول : سؤالك عما ليس لك به علم .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن حمزة الزيات ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، قوله : إنّهُ عَمَلٌ غيرُ صَالِحٍ قال : سؤالك إياي عمل غير صالح فَلا تَسأَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ .

وقال آخرون : بل معناه : إن الذي ذكرت أنه ابنك فسألتني أن أنجيَه عمل غير صالح ، أي أنه لغير رِشْدة . وقالوا : الهاء في قوله : «إنّهُ » عائدة على الابن . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن نمير ، عن ابن أبي عَرُوبة ، عن قتادة ، عن الحسن أنه قرأ : عَمَلٌ غيرُ صَالِحٍ قال : ما هو والله بابنه .

ورُوي عن جماعة من السلف أنهم قرأوا ذلك : «إنّهُ عَمِلَ غيرَ صَالِحٍ » على وجه الخبر عن الفعل الماضي ، وغير منصوبة . وممن رُوي عنه أنه قرأ ذلك كذلك ابن عباس .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة عن موسى بن أبي عائشة عن سليمان بن قَتّة ، عن ابن عباس أنه قرأ : «عَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ » .

ووجهوا تأويل ذلك إلى ما .

حدثنا به ابن وكيع ، قال : حدثنا غُنْدر ، عن ابن أبي عَروبة عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : إنّهُ عَمَلٌ غيرُ صَالِحٍ قال : كان مخالفا له في النية والعمل .

ولا نعلم هذه القراءة قرأ بها أحد من قراء الأمصار إلا بعض المتأخرين . واعتل في ذلك بخبر رُوِي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرأ ذلك كذلك غير صحيح السند ، وذلك حديث رُوي عن شَهْر بن حَوْشَب ، فمرة يقول عن أمّ سلمة ، ومرّ يقول عن أسماء بنت يزيد ، ولا نعلم لبنت يزيد ولا نعلم لشَهْرٍ سماعا يصحّ عن أمّ سلمة .

والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار ، وذلك رفع «عمل » بالتنوين ، ورفع «غير » ، يعني : إن سؤالك إياي ما تسألنيه في ابنك المخالف دينك الموالي أهل الشرك بي من النجاة من الهلاك ، وقد مضت إجابتي إياك في دعائك : لا تَذَرْ على الأرْضِ مِنَ الكافِرِينَ دَيّارا ما قد مضى من غير استثناء أحد منهم عملٌ غير صالح ، لأنه مسألة منك إليّ أن لا أفعل ما قد تقدم مني القول بأني أفعله في إجابتي مسألتك إياي فعله ، فذلك هو العمل غير الصالح . وقوله : فَلا تَسأَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ نهي من الله تعالى ذَكّره نبيه نوحا أن يسأله عن أسباب أفعاله التي قد طوى علمها عنه وعن غيره من البشر . يقول له تعالى ذكره : إني يا نوح قد أخبرتك عن سؤالك سبب إهلاكي ابنك الذي أهكلته ، فلا تسألن بعدها عما قد طَوَيت علمه عنك من أسباب أفعالي ، وليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين في مسألتك إياي عن ذلك .

وكان ابن زيد يقول في قوله : إنّي أعِظُكَ أنْ تَكُونَ من الجاهِلِينَ ما :

حدثني به يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنّي أعِظُكَ أنْ تَكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ أن تبلغ الجهالة بك أن لا أَفِيَ لك بوعد وعدتك حتى تسألني ما ليس لك به علم وَإلاّ تَغْفِرْ لي وَتَرْحَمِني أكُنْ مِنَ الخاسِرِينَ .

واختلفت القرّاء في قراءة قوله : فَلا تَسألَنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ علْمٌ فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار فَلا تَسألْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِه علْمٌ بكسر النون وتخفيفها ، ونَحَوْا بكسرها إلى الدلالة على الياء التي هي كناية اسم الله فَلا تَسألْنِ . وقرأ ذلك بعض المكيين وبعض أهل الشام : «فَلا تَسألَنّ » بتشديد النون وفتحها ، بمعنى : فلا تسألنّ يا نوح ما ليس لك به علم .

والصواب من القراءة في ذلك عندنا تخفيف النون وكسرها ، لأن ذلك هو الفصيح من كلام العرب المستعمل بينهم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قَالَ يَٰنُوحُ إِنَّهُۥ لَيۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَيۡرُ صَٰلِحٖۖ فَلَا تَسۡـَٔلۡنِ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۖ إِنِّيٓ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلۡجَٰهِلِينَ} (46)

وقوله تعالى : { قال يا نوح } الآية ، المعنى قال الله تعالى : يا نوح ، وقالت فرقة : المراد أنه ليس بولد لك ، وزعمت أنه كان لغية{[6373]} ، وأن امرأته الكافرة خانته فيه ، هذا قول الحسن وابن سيرين وعبيد بن عمير : وقال بزي إنما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالولد للفراش من أجل ابن نوح{[6374]} ، وحلف الحسن أنه ليس بابنه ، وحلف عكرمة والضحاك أنه ابنه .

قال القاضي أبو محمد : عول الحسن على قوله تعالى : { إنه ليس من أهلك } ، وعول الضحاك وعكرمة على قوله تعالى : { ونادى نوح ابنه } [ هود : 42 ] .

وقرأ الحسن ومن تأول تأويله : { إنه عمل غير صالح } على هذا المعنى ، وهي قراءة السبعة سوى الكسائي : وقراءة جمهور الناس ، وقال من خالف الحسن بن أبي الحسن : المعنى : ليس من أهلك الذين عمهم الوعد لأنه ليس على دينك وإن كان ابنك بالولاء{[6375]} . فمن قرأ من هذه الفرقة { إنه عمل غير صالح } جعله وصفاً له بالمصدر على جهة المبالغة ، فوصفه بذلك كما قالت الخنساء تصف ناقة ذهب عنها ولدها : [ البسيط ]

ترتع ما غفلت حتى إذا ادكرت*** فإنما هي إقبال وإدبار{[6376]}

أي ذات إقبال وإدبار . وقرأ بعض هذه الفرقة «إنه عمل غير صالح » وهي قراءة الكسائي ، وروت هذه القراءة أم سلمة وعائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ذكره أبو حاتم ، وضعف الطبري هذه القراءة وطعن في الحديث بأنه من طريق شهر بن حوشب ، وهي قراءة علي وابن عباس وعائشة وأنس بن مالك ، ورجحها أبو حاتم وقرأ بعضها : «إنه عمل عملاً غير صالح » . وقالت فرقة : الضمير في قوله : «إنه عمل غير صالح » على قراءة جمهور السبعة على سؤال الذي يتضمنه الكلام وقد فسره آخر الآية ؛ ويقوي هذا التأويل أن في مصحف ابن مسعود «إنه عمل غير صالح أن تسألني ما ليس لك به علم » . وقالت فرقة : الضمير عائد على ركوب ولد نوح معهم الذي يتضمنه سؤال نوح ، المعنى : أن ركوب الكافر مع المؤمنين عمل غير صالح ، وقال أبو علي : ويحتمل أن يكون التقدير أن كونك مع الكافرين وتركك الركوب معنا عمل غير صالح .

قال القاضي أبو محمد : وهذا تأويل لا يتجه من جهة المعنى ، وكل هذه الفرق قال : إن القول بأن الولد كان لغية وولد فراش خطأ محض وقالوا : إنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه ما زنت امرأة نبي قط » .

قال القاضي أبو محمد : وهذا الحديث ليس بالمعروف ، وإنما هو من كلام ابن عباس رضي الله عنه ويعضده شرف النبوة . وقالوا في قوله عز وجل : { فخانتاهما }{[6377]} إن الواحدة كانت تقول للناس : هو مجنون ؛ والأخرى كانت تنبه على الأضياف ، وأما غير هذا فلا{[6378]} ، وهذه منازع ابن عباس وحججه ؛ وهو قوله وقول الجمهور من الناس{[6379]} .

وقرأ ابن أبي مليكة : «فلا تسلْني » بتخفيف النون وإثبات الياء وسكون اللام دون همز . وقرأت فرقة بتخفيف النون وإسقاط الياء وبالهمز «فلا تسألن » ، وقرأ أبو جعفر وشيبة بكسر النون وشدها والهمز وإثبات الياء «فلا تسألنِّي » ، وقرأ نافع ذلك دون ياء «فلا تسألن » وقرأ ابن كثير وابن عامر «فلا تسألنَّ » بفتح النون المشددة ، وهي قراءة ابن عباس ، وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي «فلا تسلْن » خفيفة النون ساكنة اللام ، وكان أبو عمرو يثبت الياء في الوصل ، وحذفها عاصم وحمزة في الوصل والوقف . ومعنى قوله : { فلا تسألني ما ليس لك به علم } أي إذ وعدتك فاعلم يقيناً أنه لا خلف في الوعد فإذ رأيت ولدك لم يحمل فكان الواجب عليك أن تقف وتعلم أن ذلك واجب بحق عند الله .

قال القاضي أبو محمد : ولكن نوحاً عليه السلام حملته شفقة النبوة وسجية البشر على التعرض لنفحات الرحمة والتذكير ، وعلى هذا القدر وقع عتابه ، ولذلك جاء بتلطف وترفيع في قوله : { إني أعظك أن تكون من الجاهلين } ، وقد قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم : { فلا تكونن }{[6380]} ، وذلك هنا بحسب الأمر الذي عوتب فيه وعظمته ، فإنه لضيق صدره بتكاليف النبوة ، وإلا فمتقرر أن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل البشر وأولاهم بلين المخاطبة ؛ ولكن هذا بحسب الأمرين لا بحسب النبيين . وقال قوم : إنما وقر نوح لسنة . وقال قوم : إنما حمل اللفظ على محمد صلى الله عليه وسلم كما يحمل الإنسان على المختص به الحبيب إليه .

قال القاضي أبو محمد : وهذا كله ضعيف ، ويحتمل قوله : { فلا تسألني ما ليس لك به علم } ، أي لا تطلب مني أمراً لا تعلم المصلحة فيه علم يقين ، ونحا إلى هذا أبو علي الفارسي ، وقال : إن { به } يجوز أن يتعلق بلفظة { علم } كما قال الشاعر : [ الرجز ] .

كان جزائي بالعصا أن أجلدا{[6381]}

ويجوز أن يكون { به } بمنزلة فيه ، فتتعلق الباء بالمستقر .

قال القاضي أبو محمد : واختلاف هذين الوجهين إنما هو لفظي ، والمعنى في الآية واحد ، وروي أن هذا الابن إنما كان ربيبه وهذا ضعيف ؛ وحكى الطبري عن ابن زيد أن معنى قوله : { إني أعظك أن تكون من الجاهلين } في أن تعتقد أني لا أفي لك بوعد وعدتك به .

قال القاضي أبو محمد : وهذا تأويل بشع ، وليس في الألفاظ ما يقتضي أن نوحاً اعتقد هذا وعياذاً بالله{[6382]} ، وغاية ما وقع لنوح عليه السلام أن رأى ترك ابنه معارضاً للوعد فذكر به ، ودعا بحسب الشفقة ليكشف له الوجه الذي استوجب به ابنه الترك في الغرقى .


[6373]:- ولد الغيّة وولد الزنية: من يأتي نتيجة للغواية والزنى، ويقال في نقيضهما: هو ولد رشدة.
[6374]:- حديث: (الولد للفراش وللعاهر الحجر) رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي، وهو في الموطأ، وفي مسند الإمام أحمد، وفي البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد ابن ابي وقاص أن ابن وليدة زمعة مني فاقبضه، قالت: فلما كان عام الفتح أخذه سعد ابن أبي وقاص وقال: ابن أخي، قد عهد إلي فيه، فقام عبد بن زمعة فقال: أخي وابن وليدة أبي، ولد على فراشه، فتساوقا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال سعد: يا رسول الله، ابن أخي كان قد عهد إليّ فيه، فقال عبد بن زمعة: أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو لك يا عبد بن زمعة، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: الولد للفراش وللعاهر والحجر، ثم قال لسودة بنت زمعة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: احتجبي منه يا سودة- لما رآه من شبهة بعتبة، فما رآها حتى لقي الله-. ومعنى "الحجر" أي: الرّجم بالحجر، أو الخيبة.
[6375]:- في بعض الأصول: (وإن كان ابنك بالولاء). وفي بعضها: (ابنك بالولاد).
[6376]:-البيت للخنساء من قصيدة ترثي بها أخاها صخرا، وفيه تصف ناقة ذهب عنها ولدها، وترتع: ترعى كيف شاءت في خصب وسعة، وادّكرت: تذكرت وليدها، يقول: إنها في حركة دائمة تذهب وترجع باستمرار من شدة القلق.
[6377]:- من قوله تعالى في الآية (10) من سورة (التحريم): {ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما}.
[6378]:- في إحدى النسخ: "وأما خيانة غير هذا فلا".
[6379]:- قال الزمخشري: "فإن قلت: فهلا قيل: "إنه عمل فاسد؟" قلت: لما نفاه من أهله نفى عنه صفتهم بكلمة النفي التي يستنفي معها لفظ المنفي، وأذن بذلك أنه إنما أنجى من أنجى من أهله بصلاحهم لا لأنهم أهلك وقرابتك، وأن هذا لما انتفى عنه الصلاح لم تنفعه أبوتك". وهذا هو سرّ التعبير بكلمة الصلاح منفية عن ابن نوح عليه السلام.
[6380]:- من قوله تعالى في الآية (35) من سورة (الأنعام): {ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين}.
[6381]:- البيت للعجاج، وهو آخر ثلاثة أبيات يقول فيها: وربيته حتى إذا تمعددا وآض نهدا كالحصان أجردا كان جزائي بالعصا أن أجلدا. وتمعدد الغلام: شبّ وغلظ جسمه، وآض: صار، والنهد: الجسم الجهير، ومنه قولهم: "فرس نهد"، أي: جميل جسيم، والأجرد من الخيل: القصير الشعر ويكون سباقا. راجع "اللسان- وشواهد الشافية، وديوان العجاج".
[6382]:- تعفف أبو حيان في "البحر" عن ذكرها هذا الرأي وقال: "وذكر الطبري عن ابن زيد تأويلا في قوله: {إني أعظك أن تكون من الجاهلين} لا ينسب النبوة، تركناه، ويوقف عليه في تفسير ابن عطية" اهـ وابن عطية نقله ولكن وصفه بأنه بشع.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قَالَ يَٰنُوحُ إِنَّهُۥ لَيۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَيۡرُ صَٰلِحٖۖ فَلَا تَسۡـَٔلۡنِ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۖ إِنِّيٓ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلۡجَٰهِلِينَ} (46)

معنى قوله تعالى : { إنّه ليس من أهلك } نفي أن يكون من أهل دينه واعتقاده ، فليس ذلك إبطالاً لقول نوح عليه السّلام : { إن ابني من أهلي } ولكنّه إعلام بأنّ قرابة الدين بالنسبة لأهل الإيمان هي القرابة ، وهذا المعنى شائع في الاستعمال .

قال النابغة يخاطب عيينة بن حصن :

إذا حاولت في أسد فجوراً *** فإني لست منك ولست منّي

وقال تعالى : { ويحلفون بالله إنّهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قومٌ يفرقون } [ التوبة : 56 ] .

وتأكيد الخبر لتحقيقه لِغرابته .

وجملة { إنّه عَمل غير صالح } تعليل لمضمون جملة { إنه ليس من أهلك } ف ( إنّ ) فيه لمجرد الاهتمام .

و{ عَمَلٌ } في قراءة الجمهور بفتح الميم وتنوين اللام مصدر أخبر به للمبالغة وبرفع { غيرُ } على أنه صفة ( عمل ) . وقرأه الكسائي ، ويعقوب { عَمِلَ } بكسر الميم بصيغة الماضي وبنصب { غيرَ } على المفعولية لفعل ( عمل ) . ومعنى العمل غير الصالح الكفر ، وأطلق على الكفر ( عمل ) لأنه عمل القلب ، ولأنّه يظهر أثره في عمل صاحبه كامتناع ابن نوح من الركوب الدال على تكذيبه بوعيد الطوفان .

وتفرع على ذلك نهيه أن يَسأل ما ليس له به علم نهيَ عتاب ، لأنّه لما قيل له { إنّه ليس من أهلك } بسبب تعليله بأنه عمل غير صالح ، سقط ما مهد به لإجابة سؤاله ، فكان حقيقاً بأن لا يسأله وأن يتدبّر ما أرَاد أن يسأله من الله .

وقرأه نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر « فلا تسألنّي » بتشديد النون وهي نون التوكيد الخفيفة ونون الوقاية أدغمتا . وأثبتَ ياء المتكلم من عدا ابنَ كثير من هؤلاء . أما ابن كثير فقرأ « فلا تسألنّ » بنون مشددة مفتوحة . وقرأه أبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، ويعقوب ، وخلف « فلا تسألْنِ » بسكون اللام وكسر النون مخففة على أنّه غير مؤكد بنون التوكيد ومعدى إلى ياء المتكلم .

وأكثرهم حذف الياء في حالة الوصل ، وأثبتها في الوصل ورش عن نافع وأبو عمرو .

ثم إن كان نوح عليه السّلام لم يسبق له وحي من الله بأن الله لا يغفر للمشركين في الآخرة كان نهيه عن أن يسأل ما ليس له به علم ، نهيَ تنزيه لأمثاله لأن درجة النبوءة تقتضي أن لا يقدم على سؤال ربه سؤْلاً لا يعلم إجابته . وهذا كقوله تعالى : { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } [ سبأ : 23 ] وقوله : { لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً } [ النبإ : 38 ] ، وإن كان قد أوحي إليه بذلك من قبل ، كما دل عليه قوله : { وإنّ وعدكَ الحقُ } ، وكان سؤاله المغفرة لابنه طلباً تخصيصَه من العموم . وكان نهيه نهيَ لَوم وعتاب حيث لم يتبيّن من ربه جواز ذلك .

وكان قوله : { ما ليس لك به علم } محتملاً لظاهره ، ومحتملاً لأن يكون كناية عن العلم بضده ، أي فلا تسألني ما علمت أنه لا يقع .

ثم إن كان قول نوح عليه السّلام { إنّ ابني من أهلي } إلى آخره تعريضاً بالمسؤول كان النّهي في قوله : { فلا تسألنّي ما ليس لك به علم } نهياً عن الإلحاح أو العود إلى سؤاله ؛ وإن كان قول نوح عليه السّلام مجرد تمهيد للسؤال لاختبار حال إقبال الله على سؤاله كان قوله تعالى : { فلا تسألنّي } نهياً عن الإفضاء بالسؤال الذي مَهّد له بكلامه . والمقصود من النهي تنزيهه عن تَعريض سؤاله للردّ .

وعلى كل الوجوه فقوله : { إني أعظك أن تكون من الجاهلية } موعظة على ترك التثبّت قبل الإقدام .

والجهل فيه ضد العلم ، وهو المناسب لمقابلته بقوله : { ما ليس لك به علم } .