ومع أمر الرسول [ ص ] بالإعراض عن المشركين ، فقد وجه المؤمنين إلى أن يكون هذا الإعراض في أدب ، وفي وقار ، وفي ترفع ، يليق بالمؤمنين . . لقد أمروا ألا يسبوا آلهة المشركين مخافة أن يحمل هذا أولئك المشركين على سب الله سبحانه - وهم لا يعلمون جلال قدره وعظيم مقامه - فيكون سب المؤمنين لآلهتهم المهينة الحقيرة ذريعة لسب الله الجليل العظيم :
( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم . كذلك زينا لكل أمة عملهم . ثم إلى ربهم مرجعهم ، فينبئهم بما كانوا يعملون ) .
إن الطبيعة التي خلق الله الناس بها ، أن كل من عمل عملا ، فإنه يستحسنه ، ويدافع عنه ! فإن كان يعمل الصالحات استحسنها ودافع عنها . وإن كان يعمل السيئات استحسنها ودافع عنها . وإن كان على الهدى رآه حسنا ، وإن كان على الضلال رآه حسنا كذلك ! فهذه طبيعة في الإنسان . . وهؤلاء يدعون من دون الله شركاء . . مع علمهم وتسليمهم بأن الله هو الخالق الرازق . . ولكن إذا سب المسلمون آلهتهم هؤلاء اندفعوا وعدوا عما يعتقدونه من ألوهية الله ، دفاعا عما زين لهم من عبادتهم وتصوراتهم وأوضاعهم وتقاليدهم ! . .
( ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون ) . .
وهو أدب يليق بالمؤمن ، المطمئن لدينه ، الواثق من الحق الذي هو عليه . الهادىء القلب ، الذي لا يدخل فيما لا طائل وراءه من الأمور . فإن سب آلهتهم لا يؤدي بهم إلى الهدى ولا يزيدهم إلا عنادا . فما للمؤمنين وهذا الذي لا جدوى وراءه . وإنما قد يجرهم إلى سماع ما يكرهون . من سب المشركين لربهم الجليل العظيم ؟ !
يقول تعالى ناهيا لرسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين{[11032]} عن سب آلهة المشركين ، وإن كان فيه مصلحة ، إلا أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها ، وهي مقابلة المشركين بسب{[11033]} إله المؤمنين ، وهو الله لا إله إلا هو .
كما قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في هذه الآية : قالوا : يا محمد ، لتنتهين عن سبك آلهتنا ، أو لنهجون ربك ، فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم ، { فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ }
وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : كان المسلمون يسبون أصنام الكفار ، فيسب الكفار الله عدوا بغير علم ، فأنزل الله : { وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ }
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم ، عن السُّدِّي أنه قال في تفسير هذه الآية : لما حضر أبا طالب الموت قالت قريش : انطلقوا فلندخل على هذا الرجل ، فلنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه ، فإنا نستحيي أن نقتله بعد موته ، فتقول العرب : كان يمنعهم فلما مات قتلوه . فانطلق أبو سفيان ، وأبو جهل ، والنضر بن الحارث ، وأمية ، وأبي ابنا خلف ، وعقبة بن أبي مُعِيط ، وعمرو بن العاص ، والأسود بن البَخْتَري{[11034]} وبعثوا رجلا منهم يقال له : " المطلب " ، قالوا : استأذن لنا على أبي طالب ، فأتى أبا طالب فقال : هؤلاء مشيخة قومك يريدون الدخول عليك ، فأذن لهم عليه ، فدخلوا عليه فقالوا : يا أبا طالب ، أنت كبيرنا وسيدنا ، وإن محمدًا قد آذانا وآذى آلهتنا ، فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا ، ولندَعْه وإلهه . فدعاه ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له أبو طالب : هؤلاء قومك وبنو عمك . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما تريدون ؟ " . قالوا : نريد أن تدعنا وآلهتنا ، ولندَعْك وإلهك . قال له أبو طالب : قد أنصفك قومك ، فاقبل منهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أرأيتم إن أعطيتكم هذا ، هل أنتم معطي كلمة إن تكلمتم بها ملكتم بها العرب ، ودانت لكم بها العجم ، وأدت لكم الخراج ؟ " قال أبو جهل : وأبيك لأعطينكها وعشرة أمثالها [ قال ]{[11035]} فما هي ؟ قال : " قولوا لا إله إلا الله " . فأبوا واشمأزوا . قال أبو طالب : يا ابن أخي ، قل غيرها ، فإن قومك قد فزعوا منها . قال : " يا عم ، ما أنا بالذي أقول غيرها ، حتى يأتوا بالشمس فيضعوها في يدي ، ولو أتوا بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها " . إرَادَةَ أن يُؤيسَهم ، فغضبوا وقالوا : لتكفن عن شتم آلهتنا ، أو لنشتمنك ونشتم من يأمرك فذلك قوله : { فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ }{[11036]}
ومن هذا القبيل - وهو ترك المصلحة لمفسدة أرجح منها - ما جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ملعون من سب والديه " . قالوا يا رسول الله ، وكيف يسب الرجل والديه ؟ قال : " يسب أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه " . أو كما قال ، عليه السلام{[11037]} {[11038]}
وقوله تعالى : { كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ } أي : وكما زينا لهؤلاء القوم حبّ أصنامهم والمحاماة لها والانتصار ، كذلك زينا لكل أمة من الأمم الخالية على الضلال عملهم الذي كانوا فيه ، ولله الحجة البالغة ، والحكمة التامة فيما يشاؤه ويختاره . { ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ } أي : معادهم ومصيرهم ، { فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي : يجازيهم بأعمالهم ، إن خيرًا فخير ، وإن شرًا فشر .
{ وَلاَ تَسُبّواْ الّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيّنّا لِكُلّ أُمّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمّ إِلَىَ رَبّهِمْ مّرْجِعُهُمْ فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين به : ولا تسبّوا الذين يدعو المشركون من دون الله من الاَلهة والأنداد ، فيسبّ المشركون الله جهلاً منهم بربهم واعتداء بغير علم . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : وَلا تَسُبوا الّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُون الله فَيَسُبّوا اللّهَ عَدْوًا بغيرِ عِلْمٍ قال : قالوا : يا محمد لتنتهينّ عن سبّ آلهتنا أو لنهجونّ ربك فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم فيسبوا الله عَدْواً بغير علم .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَلا تَسُبوا الّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُون الله فَيَسُبّوا اللّهَ عَدْوًا بغيرِ عِلْمٍ كان المسلمون يسبون أوثان الكفار ، فيردّون ذلك عليهم ، فنهاهم الله أن يستسِبّوا لربهم ، فإنهم قوم جهلة لا علم لهم بالله .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَلا تَسُبوا الّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُون الله فَيَسُبّوا اللّهَ عَدْوًا بغيرِ عِلْمٍ قال : لما حضر أبا طالب الموت ، قالت قريش : انطلقوا بنا ، فلندخل على هذا الرجل فلنأمره أن ينهي عنا ابن أخيه ، فإنا نستحي أن نقتله بعد موته ، فتقول العرب : كان يمنعه فلما مات قتلوه فانطلق أبو سفيان ، وأبو جهل ، والنضر بن الحرث ، وأمية وأبَيّ ابنا خلف ، وعقبة بن أبي معيط ، وعمرو بن العاص ، والأسود بن البختريّ ، وبعثوا رجلاً منهم يقال له المطلب ، قالوا : استأذن على أبي طالب فأتى أبا طالب فقال : هؤلاء مشيخة قومك ، يريدون الدخول عليك . فأذن لهم ، فدخلوا عليه ، فقالوا : يا أبا طالب ، أنت كبيرنا وسيدنا ، وإن محمداً قد آذانا وآذى آلهتنا ، فنحبّ أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا ، ولنَدعَه وإلهه . فدعاه ، فجاء النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال له أبو طالب : هؤلاء قومك وبنو عمك . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما تُرِيدُونَ ؟ » قالوا : نريد أن تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك . قال له أبو طالب : قد أنصفك قومك ، فاقبل منهم فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «أرأيْتُمْ إنْ أعْطَيْتُكُمْ هَذَا هَلْ أنْتُمْ مُعْطِيّ كَلِمَةً إنْ تَكَلّمْتُمْ بِها مَلَكْتُمُ العَرَبَ ، وَدَانَتْ لَكُمْ بِها العَجَمُ بالخَرَاجِ ؟ » قال أبو جهل : نعم وأبيك لنعطينكها وعشر أمثالها ، فما هي ؟ قال : «قُولُوا : لا إلَهَ إلاّ اللّهُ » فَأبَوْا واشمأزوا . قال أبو طالب : يا ابن أخي قل غيرها ، فإن قومك قد فزعوا منها قال : «يا عَمّ ما أنا بالّذِي أقُولُ غيَرها حتى يأْتُوا بالشمْسِ فَيَضَعُوها فِي يَدِي ، وَلَوْ أتَوْنِي بالشمْسِ فَوَضَعُوها فِي يَدِي ما قُلْت غيَرها » . إرادة أن يؤيسهم . فغضبوا وقالوا : لتكفنّ عن شتمك آلهتنا ، أو لنشتمنك ولنشتمنّ من يأمرك فذلك قوله فَيَسُبّوا اللّهَ عَدْوًا بغيرِ عِلْمٍ .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : كان المسلمون يسبون أصنام الكفار فيسبّ الكفار الله عدواً بغير علم ، فأنزل الله : وَلا تَسُبوا الّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُون الله فَيَسُبّوا اللّهَ عَدْوًا بغيرِ عِلْمٍ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَيَسُبّوا اللّهَ عَدْوًا بغيرِ عِلْمٍ قال : إذا سببت إلهه سبّ إلهك ، فلا تسبوا آلهتهم .
وأجمعت الجمعة من قرّاء الأمصار على قراءة ذلك : فَيَسُبّوا اللّهَ عَدْوًا بغيرِ عِلْمٍ بفتح العين وتسكين الدال ، وتخفيف الواو من قوله : عَدْوًا على أنه مصدر من قول القائل : عدا فلان على فلان : إذا ظلمه واعتدى عليه ، يَعْدُو عَدْوًا وعدواناً ، والاعتداء : إنما هو افتعال من ذلك . رُوى عن الحسن البصري أنه كان يقرأ ذلك : «عدوّا » مشددة الواو .
حدثني بذلك أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم بن سلام ، قال : حدثنا حجاج ، عن هارون ، عن عثمان بن سعد : فَيَسُبّوا اللّهَ عُدُوّا مضمومة العين مثقلة .
وقد ذكر عن بعض البصريين أنه قرأ ذلك : «فَيَسُبوا اللّهَ عَدُوّاً » يوجه تأويله إلى أنهم جماعة ، كما قال جلّ ثناؤه : فإنّهُمْ عَدُوّ لي إلاّ رَبّ العالَمِينَ ، وكما قال : لا تَتّخِذُوا عَدُوّى وَعَدُوّكُمْ أوْلِياءَ ويجعل نصب «العدوّ » حينئذ على الحال من ذكر المشركين في قوله : فَيَسُبوا . فيكون تأويل الكلام : ولا تسبوا أيها المؤمنون الذين يدعو المشركون من دون الله ، فيسبّ المشركون الله أعداءُ الله بغير علم . وإذا كان التأويل هكذا كان العدوّ من صفة المشركين ونعتهم ، كأنه قيل : فيسبّ المشركون أعداء الله بغير علم ، ولكن العدوّ لما خرج مخرج النكرة وهو نعت للمعرفة نصب على الحال .
والصواب من القراءة عندي في ذلك قراءة من قرأ بفتح العين وتخفيف الواو لإجماع الحجة من القراء على قراءة ذلك كذلك ، وغير جائز خلافها فيما جاءت مجمعة عليه .
القول في تأويل قوله تعالى : كَذَلِكَ زَيّنا لِكُلّ أُمّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمّ إلى رَبّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا كانُوا يَعْمَلُونَ .
يقول تعالى ذكره : كما زيّنا لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام عبادة الأوثان وطاعة الشيطان بخذلاننا إياهم عن طاعة الرحمن ، كذلك زينا لكلّ جماعة اجتمعت على عمل من الأعمال من طاعة الله ومعصيته عملهم الذي هم عليه مجتمعون ، ثم مرجعهم بعد ذلك ومصيرهم إلى ربهم فينبئهم بما كانوا يعملون ، يقول : فيوقفهم ويخبرهم بأعمالهم التي كانوا يعملون بها في الدنيا ، ثم يجازيهم بها إن كان خيراً فخير وإن كان شرّاً فشرّ ، أو يعفو بفضله ما لم يكن شركاً أو كفراً .
وقوله تعالى : { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله } الآية ، مخاطبة للمؤمنين والنبي عليه السلام ، وقال ابن عباس وسببها أن كفار قريش قالوا لأبي طالب : إما أن ينتهي محمد وأصحابه عن سب آلهتنا والغض منها وإما نسب إلهه ونهجوه فنزلت الآية ، وحكمها على كل حال باق في الأمة ، فمتى كان الكافر في منعة وخيف أن يسب الإسلام أو النبي صلى الله عليه وسلم والله عز وجل فلا يحل للمسلم أن يسب دينهم ولا صلبانهم ولا يتعرض ما يؤدي إلى ذلك أو نحوه{[5048]} ، وعبر عن الأصنام وهي لا تعقل ب { الذين } وذلك على معتقد الكفرة فيها ، وفي هذه الآية ضرب من الموادعة .
وقرأ جمهور الناس «عَدْواً » بفتح العين وسكون الدال نصب على المصدر ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو رجاء وقتادة ويعقوب وسلام وعبد الله بن زيد «عُدُوّاً » بضم العين والدال وتشديد الواو ، وهذا أيضاً نصب على المصدر وهو من الاعتداء ، وقرأ بعض الكوفيين «عَدُواً » بفتح العين وضم الدال نصب على الحال أي في حال عداوة لله ، وهو لفظ مفرد يدل على الجمع{[5049]} ، وقوله { بغير علم } بيان لمعنى الاعتداء المتقدم ، وقوله تعالى : { كذلك زينا لكل أمة } إشارة إلى ما زين الله لهؤلاء عبدة الأصنام من التمسك بأصنامهم والذب عنها وتزيين الله عمل الأمم هو ما يخلقه ويخترعه في النفوس من المحبة للخير والشر والاتباع لطرقه ، وتزيين الشيطان هو بما يقذفه في النفوس من الوسوسة وخطرات السوء ، وقوله { ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم } يتضمن وعداً جميلاً للمحسنين ووعيداً ثقيلاً للمسيئين .