( قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما : ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون . وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ) .
هنا تبرز قيمة الإيمان بالله ، والخوف منه . . فهذان رجلان من الذين يخافون الله ، ينشيء لهما الخوف من الله استهانة بالجبارين ! ويرزقهما شجاعة في وجه الخطر الموهوم ! وهذان هما يشهدان بقولتهما هذه بقيمة الإيمان في ساعة الشدة ؛ وقيمة الخوف من الله في مواطن الخوف من الناس . فالله سبحانه لا يجمع في قلب واحد بين مخافتين : مخافته - جل جلاله - ومخافة الناس . . والذي يخاف الله لا يخاف أحدا بعده ؛ ولا يخاف شيئا سواه . .
( ادخلوا عليهم الباب . فإذا دخلتموه فإنكم غالبون ) . .
قاعدة في علم القلوب وفي علم الحروب . . أقدموا واقتحموا . فمتى دخلتم على القوم في عقر دارهم انكسرت قلوبهم بقدر ما تقوى قلوبكم ؛ وشعروا بالهزيمة في أرواحهم وكتب لكم الغلب عليهم . .
( وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ) . .
فعلى الله - وحده - يتوكل المؤمن . وهذه هي خاصية الإيمان وعلامته ؛ وهذا هو منطق الإيمان ومقتضاه . . ولكن لمن يقولان هذا الكلام ؟ لبني إسرائيل ؟ !
وقوله : { قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا } أي : فلما نكل بنو إسرائيل عن طاعة الله ومتابعة رسول الله موسى ، عليه السلام ، حرضهم رجلان لله عليهما نعمة عظيمة ، وهما ممن يخاف أمر الله ويخشى عقابه .
وقرأ بعضهم : { قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يُخَافُونَ } أي : ممن لهم{[9537]} مهابة وموضع من الناس . ويقال : إنهما " يوشع بن نون " و " كالب بن يوفنا " ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وعطية ، والسُّدِّي ، والربيع بن أنس ، وغير واحد من السلف ، والخلف ، رحمهم الله ، فقالا { ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أي : متى توكلتم على الله واتبعتم أمره ، ووافقتم رسوله ، نصركم الله على أعدائكم وأيدكم وظفركم بهم ، ودخلتم البلدة التي كتبها الله لكم . فلم ينفع ذاك فيهم شيئًا .
{ قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكّلُوَاْ إِن كُنتُم مّؤْمِنِينَ } . .
وهذا خبر من الله عزّ ذكره عن الرجلين الصالحين من قوم موسى : يوشع بن نون ، وكالب بن يوفنا ، أنهما وفيا لموسى بما عهد إليهما من ترك إعلام قومه بني إسرائيل الدين أمرهم بدخول الأرض المقدسة على الجبابرة من الكنعانيين ، بما رأيا وعاينا من شدة بطش الجبابرة وعظم خلقهم ، ووصفهما الله بأنهما ممن يخاف الله ويراقبه في أمره ونهيه كما :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان . ح ، وحدثنا ابن وكيع ، قال حدثنا أبي ، عن سفيان . ح ، وحدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : رَجُلانِ مِنَ الّذِينَ يَخافُونَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِما قال : كلاب بن يوفنا ويوشع بن نون .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو بن أبي قيس ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : رَجُلانِ مِنَ الّذِينَ يَخافُونَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِما قال : يوشع بن نون ، وكلاب بن يوفنا ، وهما من النقباء .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قصة ذكرها ، قال : فرجع النقباء كلهم ينهى سبطه عن قتالهم ، إلاّ يوشع بن نون ، وكلاب بن يوفنا ، يأمران الأسباط بقتال الجبارين ومجاهدتهم ، فعصوهما ، وأطاعوا الاَخرين ، فهما الرجلان اللذان أنعم الله عليهما .
حدثنا ابن حميد ، وسفيان بن وكيع ، قالا : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثل حديث ابن بشار ، عن ابن مهدي ، إلاّ أن ابن حميد قال في حديثه : هما من الاثنى عشر نقيبا .
حدثني عبد الكريم بن الهيثم ، قال : حدثنا إبراهيم بن بشار ، قال : حدثنا سفيان ، قال : قال أبو سعيد ، قال عكرمة ، عن ابن عباس في قصة ذكرها ، قال : فرجعوا يعني النقباء الاثني عشر إلى موسى ، فأخبروه بما عاينوا من أمرهم ، فقال لهم موسى : اكتموا شأنهم ولا تخبروا به أحدا من أهل العسكرة فإنكم إن أخبرتموهم بهذا الخبر فشلوا ولم يدخلوا المدينة . قال : فذهب كلّ رجل منهم ، فأخبر قريبه وابن عمه ، إلاّ هذين الرجلين يوشع بن نون وكلاب بن يوفنا ، فإنهما كتما ولم يخبرا به أحدا ، وهما اللذان قال الله : قالَ رَجُلانِ مِنَ الّذِينَ يَخافُونَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِما . . . إلى قوله : وبينَ القَوْمِ الفاسِقِينَ .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : قالَ رَجُلانِ مِنَ الّذِينَ يَخافُونَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِما وهما اللذان كتماهم : يوشع بن نون فتى موسى ، وكالوب بن يوفنة ختن موسى .
حدثنا سفيان ، قال : حدثنا عبيد الله ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية : قالَ رَجُلانِ مِنَ الّذِينَ يَخافُونَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِما كالوب ويوشع بن نون فتى موسى .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : قالَ رَجُلانِ مِنَ الّذِينَ يَخافُونَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِما والرجلان اللذان أنعم الله عليهما من بني إسرائيل : يوشع بن نون ، كالوب بن يوفنة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : قالَ رَجُلانِ مِنَ الّذِينَ يَخافُونَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِما ذُكر لنا أن الرجلين : يوشع بن نون ، وكالب .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : أن موسى قال للنقباء لما رجعوا فحدّثوه العجب : لا تحدّثوا أحدا بما رأيتم ، إن الله سيفتحها لكم ويظهركم عليها من بعد ما رأيتم وإن القوم أفشوا الحديث من بني إسرائيل ، فقام رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما : كان أحدهما فيما سمعنا يوشع بن نون وهو فتى موسى ، والاَخر كالب ، فقالا : ادخلوا عليهم الباب إن كنتم مؤمنين .
واختلف القرّاء في قراءة قوله : قالَ رَجُلانِ مِنَ الّذِينَ يَخافُونَ . قرأ ذلك قرّاء الحجاز والعراق والشام : قالَ رَجُلانِ مِنَ الّذِينَ يَخافُونَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِما بفتح الياء من «يخافون » ، على التأويل الذي ذكرنا عمن ذكرنا عنه آنفا ، أنهما يوشع بن نون وكالب من قوم موسى ، ممن يخاف الله ، وأنعم عليهما بالتوفيق . وكان قتادة يقول في بعض القراءة : «قالَ رَجُلانِ مِنَ الّذِينَ يَخافُونَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِما » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة . ح ، وحدثثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : قالَ رَجُلانِ مِنَ الّذِينَ يَخافُونَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِما في بعض الحروف : «يخافون الله أنعم الله عليهما » .
وهذا أيضا مما يدلّ على صحة تأويل من تأوّل ذلك على ما ذكرنا عنه أنه قال : يوشع ، وكالب . ورُوي عن سعيد بن جبير أنه كان يقرأ ذلك : «قال رَجُلانِ منَ الّذِينَ يُخافونَ » بضم الياء «أنعم اللّهُ عَلَيْهِما » .
حدثني بذلك أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم بن سلام ، قال : حدثنا هشيم ، عن القاسم بن أبي أيوب ، ولا نعلمه أنه سمع منه ، عن سعيد بن جبير أنه كان يقرؤها بضم الياء من : «يُخافُونَ » .
وكأنّ سعيدا ذهب في قراءته هذه إلى أن الرجلين اللذين أخبر الله عنهما أنهما قالا لبني إسرائيل : ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون ، كانا من رهط الجبابرة ، وكانا أسلما واتبعا موسى ، فهما من أولاد الجبابرة ، اغلذين يخافهم بنو إسرائيل وإن كان لهم في الدين مخالفين . وقد حُكِي نحو هذا التأويل عن ابن عباس .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ادْخُلُوا الأرْضَ المُقَدّسَة التي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدّوا على أدبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ قال : هي مدنة الجبارين ، لما نزل بها موسى وقومه ، بعث منهم اثني عشر رجلاً ، وهم النقباء الذين ذكر نعتهم ليأتوه بخبرهم . فساروا ، فلقيهم رجل من الجبارين ، فجعلهم في كسائه ، فحملهم حتى أتى بهم المدينة ، ونادى في قومه ، فاجتمعوا إليه ، فقالوا : من أنتم ؟ فقالوا : نحن قوم موسى ، بعثنا إليكم لنأتيه بخبركم ، فأعطوهم حبة من عنب بوقر الرجل ، فقالوا لهم : اذهبوا إلى موسى وقومه ، فقولوا لهم : اقدُروا قدر فاكهتهم فلما أتوهم ، قالوا لموسى : اذْهَبْ أنْتَ وَرَبّكَ فَقاتِلا إنّا هَهُنا قاعِدُونَ قالَ رَجُلانِ مِنَ الّذِينَ يَخافُونَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِما وكانا من أهل المدينة أسلما واتبعا موسى وهارون ، فقالا لموسى : ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ البابَ فإذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإنّكُمْ غالِبونَ وَلعى اللّهِ فَتَوَكّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .
فعلى هذه القراءة وهذا التأويل لم يكتم من الاثنى عشر نقيبا أحدا ما أمرهم موسى بكتمانه بني إسرائيل مما رأوا وعاينوا من عظم أجسام الجبابرة وشدّة بطشهم وعجيب أمورهم ، بل أفشوا ذلك كله . وإنما القائل للقوم ولموسى : ادخلوا عليهم الباب ، رجلان من أولاد الذين كان بنو إسرائيل يخافونهم ويرهبون الدخول عليهم من الجبابرة ، كان أسلما وتبعا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم .
وأولى القراءتين بالصواب عندنا ، قراءة من قرأ مِنَ الّذِينَ يَخافُونَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِما لإجماع قرّاء فيه الخطأ والسهو . ثم في إجماع الحجة في تأويلها على أنهما رجلان من أصحاب موسى من بني إسرائيل وأنهما يوشع وكلاب ، ما أغنى عن الاستشهاد على صحة القراءة بفتح الياء في ذلك وفساد غيره ، وهو التأويل الصحيح عندنا لما ذكرنا من أجماعها عليه .
وأما قوله : أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِما فإته يعني : أنعم الله عليهم بطاعة الله في طاعة نبيه موسى صلى الله عليه وسلم ، وانتهائهم إلى أمره ، والانزجار عما زجرهما عنه صلى الله عليه وسلم ، من إفشاء ما عاينا من عجيب أمر الجبارين إلى بني إسرائيل الذي حذّر عنه أصحابهما الاَخرين الذين كانوا معهما من النقباء . وقد قيل : إن معنى ذلك : أنعم الل عليهما بالخوف . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا خلف بن تميم ، قال : حدثنا إسحاق بن القاسم ، عن سهل ابن عليّ ، قوله : قالَ رَجُلانِ مِنَ الّذِينَ يَخافُونَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِما قال : أنعم الله عليهما بالخوف .
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، كان الضحاك يقول وجماعة غيره .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : ثني عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : قالَ رَجُلانِ مِنَ الّذِينَ يَخافُونَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِما بالهدى فهداهما ، فكانا على دين موسى ، وكانا في مدينة الجبارين .
القول في تأويل قوله تعالى : ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ البابَ فإذَا دَخَلْتُمُوهُ فإنّكُمْ غالِبُونَ .
وهذا خبر من الله عزّ ذكره عن قول الرجلين اللذين يخافان الله لبني إسرائيل إذ جبنوا وخافوا من الدخول على الجبارين لما سمعوا خبرهم ، وأخبرهم النقباءالذين أفشوا ما عاينوا من أمرهم فيهم ، وقالوا : إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها ، فقالا لهم : ادخلوا عليهم أيها القوم باب مدينتهم ، فإن الله معكم وهو ناصركم ، وإنكم إذا دخلتم الباب غلبتموهم . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم بالكتاب الأوّل ، قال : لما همّ بنو إسرائيل بالانصراف إلى مصر حين أخبرهم النقباء بما أخبروهم من أمر الجبابرة ، خرّ موسى وهارون على وجوههما سجودا قدام جماعة بني إسرائيل ، وخرّق يوشع بن نون وكالب بن يوفنا ثيابهما ، وكانا من جواسيس الأرض ، وقالا لجماعة بني إسرائيل : إن الأرض مررنا بها وجسسناها صالحة رضيها ربنا لنا فوهبها لنا ، وإنها لم تكن تفيض لبنا وعسلاً ، ولكن افعلوا واحدة ، لا تعصُوا الله ، ولا تخَشوُا الشعب الذين بها ، فإنهم جبناء ، مدفوعون في أيدينا ، إن حاربناهم ذهبت منهم ، وإن الله معنا فلا تخشوهم . فأراد من بني إسرائيل أن يرجموهما بالحجارة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أنهم بعثوا اثني عشر رجلاً ، من كل سبط رجلاً ، عيونا لهم ، وليأتوهم بأخبار القوم . فأما عشرة فجبّنوا قومهم وكَرّهُوا إليهم الدخول عليهم . وأما الرجلان فأمرا قومهما أن يدخلوها ، وأن يتبعوا أمر الله ، ورغبا في ذلك ، وأخبرا قومهما أنهم غالبون إذا فعلوا ذلك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : عَلَيْهِمُ البابَ قرية الجبارين .
القول في تأويل قوله تعالى : وعلى اللّهِ فَتَوَكّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ .
وهذا أيضا خبر من الله جلّ وعزّ ، عن قول الرجلين اللذين يخافان الله أنهما قالا لقوم موسى يشجعانهم بذلك ، ويرغبانهم في المضيّ لأمر الله بالدخول على الجبارين في مدينتهم : توكلوا أيها القوم على الله في دخولكم عليهم ويقولان لهم : ثقوا بالله فإنه معكم إن أطعتموه فيما أمركم من جهاد عدوّكم . وعنيا بقولهما إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ : إن كنتم مصدّقي نبيكم صلى الله عليه وسلم ، فيما أنبأكم عن ربكم من النصرة والظفر عليهم ، وفي غير ذلك من إخباره عن ربه ، ومؤمنين بأن ربكم قادر على الوفاء لكم بما وعدكم من تمكينكم في بلاد عدوّه وعدوّكم .
{ قال رجلان } كالب ويوشع . { من الذين يخافون } أي يخافون الله سبحانه وتعالى ويتقونه . وقيل كان رجلان من الجبابرة أسلما وسارا إلى موسى عليه الصلاة والسلام ، فعلى هذا الواو لبني إسرائيل والراجع إلى الموصول محذوف أي من الذين يخافهم بنو إسرائيل ، ويشهد له أنه قرئ { الذين يخافون } بالضم أي المخوفين ، وعلى المعنى الأول يكون هذا من الإخافة أي من الذين يخوفون من الله عز وجل بالتذكير أو يخوفهم الوعيد . { أنعم الله عليهما } بالإيمان والتثبيت وهو صفة ثانية لرجلان أو اعتراض . { ادخلوا عليهم الباب } باب قريتهم أي باغتوهم وضاغطوهم في المضيق وامنعوهم من الأصحار . { فإذا دخلتموه فإنكم غالبون } لتعسر الكر عليهم في المضايق من عظم أجسامهم ، ولأنهم أجسام لا قلوب فيها ، ويجوز أن يكون علمهما بذلك من إخبار موسى عليه الصلاة والسلام وقوله : { كتب الله لكم } أو مما علما من عادة الله سبحانه وتعالى في نصرة رسله ، وما عهدا من صنعه لموسى عليه الصلاة والسلام في قهر أعدائه . { وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } أي به ومصدقين بوعده .
قرأ ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد «يُخافون » بضم الياء ، وقرأ الجمهور «يَخافون » بفتح الياء ، وقال أكثر المفسرين : الرجلان يوشع بن نوف وهو ابن أخت موسى وكالب بن يوفنا ، ويقال فيه كلاب ، ويقال كالوث بثاء مثلثة ويقال في اسم أبيه يوفيا ، وهو صهر «موسى » على أخته ، قال الطبري : اسم زوجته مريم بنت عمران ، ومعنى { يخافون } أي الله ، وأنعم عليهما بالإيمان الصحيح وربط الجأش والثبوت في الحق ، وقال قوم المعنى يخافون العدو لكن { أنعم الله عليهما } بالإيمان والثبوت مع خوفهما ، ويقوي التأويل الأول أن في قراءة ابن مسعود : «قال رجلان من الذين يخافون الله أنعم عليهما » . وأما من قرأ بضم الياء فلقراءته ثلاثة معان ، أحدها ما روي من أن الرجلين كانا من الجبارين آمنا بموسى واتبعاه ، فكانا من القوم الذين يخافون لكن { أنعم الله عليهما } بالإيمان بموسى فقالا نحن أعلم بقومنا ، والمعنى الثاني أنهما يوشع وكالوث لكنهما من الذين يوقرون ويسمع كلامهم ويهابون لتقواهم وفضلهم ، فهم «يخافون » بهذا الوجه . والمعنى الثالث أن يكون الفعل من أخاف والمعنى من الذين ُيخافون بأوامر الله ونواهيه ووعيده وزجره ، فيكون ذلك مدحاً لهم على نحو المدح في قوله تعالى : { أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى }{[4504]} وقوله تعالى : { أنعم الله عليهما } صفة للرجلين ، والباب هو باب مدينة الجبارين فيما ذكر المفسرون والمعنى اجتهدوا وكافحوا حتى تدخلوا الباب ، وقوله : { فإنكم غالبون } ظن منهما ورجاء وقياس إنكم بذلك تفتون في أعضادهم ويقع الرعب في قلوبهم فتغلبونهم ، وفي قراءة ابن مسعود «عليهما ويلكم ادخلوا » وقولهما : { وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } يقتضي أنهما استرابا بإيمانهم حين رأياهم يعصون الرسول ويجبنون مع وعد الله تعالى لهم بالنصر .
فُصلت هذه الجمل الأربع جرياً على طريقة المحاورة كما بيّنّاه سالفاً في سورة البقرة . والرجلان هما يوشع وكالب . ووُصف الرجلان بأنّهم { من الّذين يخافون } فيجوز أن يكون المراد بالخوف في قوله : { يخافون } الخوفُ من العدوّ ؛ فيكون المراد باسم الموصول بني إسرائيل . جعل تعريفهم بالموصولية للتعريض بهم بمذمّة الخوف وعدم الشجاعة ، فيكون « مِن » في قوله : { من الذين يخافون } اتّصالية وهي الّتي في نحو قولهم : لستُ منك ولستَ منّي ، أي ينتسبون إلى الذين يخافون . وليس المعنى أنّهم متّصفون بالخوف بقرينة أنّهم حرّضوا قومهم على غزو العدوّ ، وعليه يكون قوله : { أنعم الله عليهما } أنّ الله أنعم عليهما بالشجاعة ، فحذف متعلّق فعل « أنعم » اكتفاء بدلالة السياق عليه . ويجوز أن يكون المراد بالخوف الخوفَ من الله تعالى ، أي كان قولهما لقومها « ادخلوا عليهم الباب » ناشئاً عن خوفهما الله تعالى ، فيكون تعريضاً بأنّ الذين عصوهما لا يخافون الله تعالى ، ويكون قوله : { أنعم الله عليهما } استئنافاً بيانياً لبيان منشأ خوفهما الله تعالى ، أي الخوف من الله نعمة منه عليهما . وهذا يقتضي أنّ الشجاعة في نصر الدّين نعمة من الله على صاحبها .
ومعنى { أنعم الله عليهما } أنعم عليهما بسلب الخوف من نفوسهم وبمعرفة الحقيقة .
و { الباب } يجوز أن يراد به مدخل الأرض المقدّسة ، أي المسالك الّتي يسلك منها إلى أرض كنعان ، وهو الثغر والمضيق الذي يسلك منه إلى منزل القبيلة يكون بين جبلين وعْرَيْن ، إذ ليس في الأرض المأمورين بدخولها مدينة بل أرض لقوله : { ادخلوا الأرض المقدّسة } ، فأرادَا : فإذا اجتزتم الثغر ووطئتم أرض الأعداء غلبتموهم في قتالهم في ديارهم . وقد يسمّى الثغر البحري باباً أيضاً ، مثل باب المندب ، وسمّوا موضعاً بجهة بخاري الباب . وحمل المفسّرون الباب على المشهور المتعارف ، وهو باب البلد الذي في سوره ، فقالوا : أرادا باب قريتهم ، أي لأنّ فتح مدينة الأرض يعدّ ملكاً لجميع تلك الأرض . والظاهر أن هذه القرية هي ( أريحا ) أو ( قادش ) حاضرة العمالقة يومئذٍ ، وهي المذكورة في سورة البقرة . والباب بهذا المعنى هو دفّة عظيمة متّخذة من ألواح تُوصل بجزأيّ جدار أو سور بكيفية تسمح لأن يكون ذلك اللوح سادّاً لتلك الفرجة متى أريد سدّها وبأن تفتح عند إرادة فتحها ؛ فيسمّى السَّد به غلقاً وإزالة السدّ فتحاً .
وبعد أن أمرا القوم باتّخاذ الأسباب والوسائل أمراهم بالتوكّل على الله والاعتماد على وعده ونصره وخبر رسوله ، ولذلك ذيّلا بقولهما : { إن كنتم مؤمنين } ، لأنّ الشكّ في صدق الرسول مبطل للإيمان .