والله عليم بهم بما أنفقوا وبما استقر في قلوبهم من بواعث . والله لا يظلم مثقال ذرة فلا خشية من الجهل بإيمانهم وإنفاقهم . ولا خوف من الظلم في جزائهم . . بل هناك الفضل والزيادة ، بمضاعفة الحسنات ، والزيادة من فضل الله بلا حساب ؟
إن طريق الإيمان أضمن وأكسب - على كل حال وعلى كل احتمال - وحتى بحساب الربح المادي والخسارة المادية ، فإن الإيمان - في هذه الصورة - يبدو هو الأضمن وهو الأربح ! فماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر ، وأنفقوا مما رزقهم الله ؟ إنهم لا ينفقون من شيء خلقوه لأنفسهم خلقا ؛ إنما هو رزق الله لهم . ومع ذلك يضاعف لهم الحسنة ؛ ويزيدهم من فضله ، وهم من رزقه ينفقون ويعطون ! فياله من كرم ! وياله من فيض ! ويالها من صفقة لا يقعد عنها إلا جاهل خسران !
يخبر تعالى أنه لا يظلم عبدا من عباده يوم القيامة مثقال حبة خردل ولا مثقال ذرة ، بل يوفيها به ويضاعفها له إن كانت حسنة ، كما قال تعالى { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ [ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ]{[7500]} } [ الأنبياء : 47 ] وقال تعالى مخبرًا عن لقمان أنه قال : { يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ [ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ]{[7501]} } [ لقمان : 16 ] وقال تعالى : { يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ . فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ }
وفي الصحيحين ، من حديث زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يَسَار ، عن أبي سَعِيدٍ الخُدْري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة الطويلِ ، وفيه : فيقول الله عز وجل : " ارْجِعُوا ، فَمَن وجدتم في قلبه مثقالَ حبة{[7502]} خردل من إيمان ، فأخرجوه من النار " . وفي لفظ : " أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه من النار ، فيخرجون خلقًا كثيرًا " ثم يقول أبو سعيد : اقرؤوا إن شئتم : { إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ[ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ]{[7503]} }{[7504]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشَجّ ، حدثنا عيسى بن يُونُس ، عن هارونَ بن عنترة{[7505]} عن عبد الله بن السائب ، عن زَاذَانَ قال : قال عبدُ الله بن مَسْعُود : يُؤْتَى بالعبد والأمَة يومَ القيامةِ ، فينادي منادٍ على رءوس الأولين والآخِرين : هذا فلانُ بنُ فلانٍ ، من كان له حق فليأت إلى حقه .
فتفرحُ المرأةُ أن يكون لها الحق على أبيها أو أخيها أو زوجها . ثم قرأ : { فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ } [ المؤمنون : 101 ] فيغفر الله من حقه ما يشاء ، ولا يغفر من حقوق الناس شيئا ، فينصَب للناس فينادَي : هذا فلانُ بن فلانٍ ، من كان له حق فليأتِ إلى حقه . فيقول : رَبّ ، فَنِيَت الدنيا ، من أين أُوتِيِهْم حقوقَهم ؟ قال : خذوا من أعماله الصالحة ، فأعطوا كلَ ذي حق حقه بقدر طلبته فإن كان وليًّا لله ففَضَلَ له مثقالُ ذرة ، ضاعفها الله له حتى يدخلَه بها الجنة ، ثم قرأ علينا : { إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا } قال : ادخل الجنة ؛ وإن كان عبدًا شقيا قال الملك : ربِّ فنيت حسناته ، وبقي طالبون كثير ؟ فيقول : خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته ، ثم صُكُّوا له صَكًّا إلى النار .
ورواه ابن جَرِيرٍ من وجه آخر ، عن زاذان - به نحوه . ولبعض هذا الأثر شاهد في الحديث الصحيح .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثتا أبو نُعَيْمٍ ، حدثنا فُضَيلٌ - يعني ابن مرزوق - عن عطيَّة العَوْفي ، حدثني عبد الله بن عُمَرَ قال : نزلت هذه الآية في الأعراب : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [ الأنعام : 160 ] قال رجل : فما للمهاجرين يا أبا عبد الرحمن ؟ قال : ما هو أفضلُ من ذلك : { إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } .
وحدثنا أبو زُرْعَةَ ، حدثنا يَحْيَى بن عبد الله بن بُكَيْرٍ ، حدثني عبد الله بن لَهِيعَةَ ، حدثني عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جُبَيْرٍ في قوله { وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا } فأما المشرك فيخفف عنه العذاب يوم القيامة ، ولا يخرج من النار أبدا . وقد استدل له بالحديث الصحيح أن العباس قال : يا رسول الله ، إن أبا طالب{[7506]} كان يحوطك وينصرك فهل نفعته بشيء ؟ قال : " نعم هو في ضَحْضَاح من نار ، ولولا أنا لكان في الدَّرْك الأسفل من النار " {[7507]} .
وقد يكون هذا خاصا بأبي طالب من دون الكفار ، بدليل ما رواه أبو داود الطَّيالسِي في سننه{[7508]} حدثنا عِمْرَانُ ، حدثنا قتادة ، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله لا يظلم المؤمن حسنة ، يثاب عليها الرزق في الدنيا ويُجْزَى بها{[7509]} في الآخرة ، وأما الكافر فيطعم بها في الدنيا ، فإذا كان يوم القيامة لم يكن له حسنة " {[7510]} .
وقال أبو هريرة ، وعِكْرِمَةُ ، وسعيدُ بن جُبَيْرٍ ، والحسنُ وقتادةُ والضحاكُ ، في قوله : { وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } يعني : الجنة .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا سُلَيْمانُ - يعني ابن الْمُغَيْرَةِ - عن علي بن زَيْدٍ ، عن أبي عثمان قال : بلغني عن أبي هريرة أنه قال : بلغني أن الله تعالى يعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة . قال : فقُضي أني انطلقت حاجا أو معتمرا ، فلقيته فقلت : بلغني عنك حديث أنك تقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله يعطى عبده المؤمن بالحسنة ألف ألف حسنة " قال أبو هريرة : لا بل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله عز وجل يعطيه ألفي ألف حسنة " ثم تلا { يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } فمن يقدره قدره{[7511]} {[7512]} .
رواه الإمام أحمد فقال : حدثنا يَزِيدُ ، حدثنا مباركُ بن فَضَالَة ، عن علي بن زيد ، عن أبي عثمان قال : أتيت أبا هريرة فقلت له : بلغنى{[7513]} أنك تقول : إن الحسنة تضاعف ألف ألف حسنة ؟ قال : وما أعجبك من ذلك ؟ فوالله لقد سمعت - يعنى النبي صلى الله عليه وسلم - كذا قال أبي - يقول : " إن الله ليضاعف الحسنة ألفى ألف حسنة " {[7514]} .
{ إِنّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } . .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الاَخر ، وأنفقوا مما رزقهم الله ، فإن الله لا يبخس أحدا من خلقه أنفق في سبيله مما رزقه من ثواب نفقته في الدنيا ولا من أجرها يوم القيامة { مِثْقَالَ ذَرّةٍ } أي ما يزنها ويكون على قدر ثقلها في الوزن ، ولكنه يجازيه به ، ويثيبه عليه . كما :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة أنه تلا : { إنّ اللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرّةٍ وَإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْها } قال : لأن تفضل حسناتي ما يزن ذرّة أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كان بعض أهل العلم يقول : لأن تفضل حسناتي على سيئاتي ما يزن ذرّة أحبّ إليّ من أن تكون لي الدنيا جميعا .
وأما الذرّة ، فإنه ذكر عن ابن عباس أنه قال فيها ، كما :
حدثني إسحاق بن وهب الواسطي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا شبيب بن بشر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قوله : { مِثْقالَ ذَرّةٍ } قال : رأس نملة حمراء .
قال لي إسحاق بن وهب : قال يزيد بن هارون : زعموا أن هذه الدودة الحمراء ليس لها وزن . وبنحو الذي قلنا في ذلك صحت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار ، قالا : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا عمران ، عن قتادة ، عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «إنّ اللّهَ لا يَظْلِمُ المُؤْمِنَ حَسَنَةً ، يُثابُ عَلَيْها الرّزْقَ فِي الدّنْيا وُيجْزَى بها فِي الاَخِرَةِ¹ وأمّا الكافِرُ فَيُطْعَمُ بها فِي الدّنْيا ، فإذَا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ لَمْ تَكُنْ لَه حَسَنَةً » .
حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : حدثنا جعفر بن عون ، قال : حدثنا هشام بن سعد ، قال : أخبرنا زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار : «وَالّذِي نَفْسي بِيَدِهِ ما أحَدُكُمْ بِأشَدّ مُناشَدَةً فِي الحَقّ يَرَاه مُصيبا لَه ، مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي إخْوَانِهِمْ إذَا رأوْا أنْ قَدْ خَلَصُوا مِنَ النّار يَقُولُونَ : أيْ رَبّنا إخْوَانُنا كانُوا يُصَلّونَ مَعَنا وَيَصُومُونَ مَعَنا وَيحُجّونَ مَعَنا ويُجاهِدُونَ مَعَنا ، قَدْ أخَذَتْهُمُ النّارُ ! فَيَقُولُ اللّهُ لَهُمْ : اذْهَبُوا فَمَنْ عَرَفْتُمْ صورَتَه فأخْرِجُوه ! ويحَرّمُ صورَتهُمْ على النّارِ ، فَيَجِدونَ الرّجُلَ قَدْ أخَذَتْه النّارُ إلى أنْصَاف ساقَيْهِ وإلى رُكْبَتَيْهِ وإلى حَقْوَيْهِ ، فَيُخْرِجُونَ مِنْها بَشَرا كَثِيرا ، ثُمّ يَعُودُونَ فَيَتَكَلّمُونَ ، فَيَقُولُ : اذْهَبُوا لِمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقالَ قِيرَاطِ خَيْرٍ فأخْرِجُوهُ ! فَيُخْرِجُونَ مِنْها بَشَرا كَثِيرا ، ثُمّ يَعُودُونَ فَيَتَكَلّمُونَ ، فَلا يَزَالُ يَقولُ لَهُمْ ذَلِكَ حتى يَقُولَ : اذْهَبُوا ، فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقالَ ذَرّةٍ فأخْرِجُوهُ ! » فكان أبو سعيد إذا حدّث بهذا الحديث ، قال : إن لم تصدّقوا فاقرءوا : { إنّ اللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرّةٍ وَإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْها وَيُؤتِ مِنْ لَدُنْهُ أجْرا عظيما } فيقولون : «رَبّنا لم نَذَرْ فيها خَيْرا » .
وحدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : ثني أبي وشعيب بن الليث ، عن الليث عن خالد بن يزيد ، عن ابن أبي هلال ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدريّ ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه .
حدثني به المثنى ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا صدقة بن أبي سهل ، قال : حدثنا أبو عمرو ، عن زاذان ، قال : أتيت ابن مسعود ، فقال : إذا كان يوم القيامة جمع الله الأوّلين والاَخرين ، ثم نادى مناد من عند الله : «ألا من كان يطلب مظلمة ، فليجىءْ إلى حقه فليأخذه ! » قال : فيفرح والله الصبيّ أن يذوب له الحقّ على والده أو ولده أو زوجته ، فيأخذه منه وإن كان صغيرا . ومصداق ذلك في كتاب الله تبارك وتعالى : { فإذَا نُفِخَ فِي الصّورِ فَلا أنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ } فيقال له : «آت هؤلاء حقوقهم » أي أعطهم حقوقهم . فيقول : أي ربّ من أين وقد ذهبت الدنيا ؟ فيقول الله لملائكته : أي ملائكتي انظروا في أعماله الصالحة ، وأعطوهم منها ! فإن بقي مثقال ذرة من حسنة ، قالت الملائكة وهو أعلم بذلك منها : يا ربنا أعطيْنا كلّ ذي حقّ حقه ، وبقي له مثقال ذرّة من حسنة . فيقول للملائكة : ضعّفوها لعبدي ، وأدخلوه بفضل رحمتى الجنة ! ومصداق ذلك في كتاب الله : { إنّ اللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرّةٍ وَإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْها وَيُؤتِ مِنْ لَدُنْهُ أجْرا عَظِيما } : أي الجنة يعطيها . وإن فنيت حسناته وبقيت سيئاته ، قالت الملائكة وهو أعلم بذلك : إلهنا فنيت حسناته وبقي سيئاته ، وبقي طالبون كثير ! فيقول الله : ضعوا عليها من أوزارهم واكتبوا له كتابا إلى النار ! قال صدقة : «أو صكّا إلى جهنم » ، شكّ صدقة أيتهما قال .
وحُدثت عن محمد بن عبيد ، عن هارون بن عنترة ، عن عبد الله بن السائب ، قال : سمعت زاذان يقول : قال عبد الله بن مسعود : يأخذ بيد العبد والأمة يوم القيامة ، فينادي منادٍ على رؤوس الأوّلين والاَخرين : هذا فلان ابن فلان ، من كان له حقّ فليأت إلى حقه ! فتفرح المرأة أن يذوب لها الحقّ على أبيها ، أو على ابنها ، أو على أخيها ، أو على زوجها ، ثم قرأ ابن مسعود : { فَلا أنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ } فيغفر الله تبارك وتعالى من حقه ما شاء ، ولا يغفر من حقوق الناس شيئا ، فينصب للناس فيقول : آتوا إلى الناس حقوقهم ! فيقول : ربّ فنيت الدنيا من أين أوتيهم حقوقهم ؟ فيقول : خذوا من أعماله الصالحة ، فأعطوا كل ذي حقّ حقه بقدر مظلمته ، فإن كان وليا لله ، ففضل له مثقال ذرّة ضاعفها له حتى يدخله بها الجنة ! ثم قرأ علينا : { إنّ اللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرّةٍ } وإن كان عبدا شقيا قال الملك : ربّ فنيت حسناته ، وبقي طالبون كثير . فيقول : خذوا من سيئاتهم ، فأضيفوها إلى سيئاته ، ثم صُكّوا له صَكّا إلى النار .
قال أبو جعفر : فتأويل الاَية على تأويل عبد الله هذا : إن الله لا يظلم عبدا وجب له مثقال ذرّة قِبَل عبد له آخر في معاده ويوم لقائه فما فوقه فيتركه عليه فلا يأخذه للمظلوم من ظالمه ، ولكنه يأخذه منه له ، ويأخذ من كل ظالم لكل مظلوم تَبِعَتَهُ قِبَلَهُ . { وَإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْها } يقول : وإن توجد له حسنة يضاعفها ، بمعنى : يضاعف له ثوابها وأجرها . { وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أجْرا عَظِيما } يقول : ويعطه من عنده أجرا عظيما . والأجر العظيم : الجنة على ما قاله عبد الله .
ولكلا التأويلين وجه مفهوم ، أعنى التأويل الذي قاله ابن مسعود والذي قاله قتادة . وإنما اخترنا التأويل الأوّل لموافقته الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع دلالة ظاهر التنزيل على صحته ، إذ كان في سياق الاَية التي قبلها ، التي حثّ الله فيها على النفقة في طاعته ، وذمّ النفقة في طاعة الشيطان ، ثم وصل ذلك بما وعد المنافقين في طاعته بقوله : { إنّ اللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرّةٍ وَإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْها وَيُؤتِ مِنْ لَدُنْهُ أجْرا عَظِيما } .
واختلفت القراء في قراءة قوله : { وَإنْ تَكُ حَسَنَةً } . فقرأت ذلك عامة قرّاء العراق : { وَإنْ تَكُ حَسَنَةً } بنصب الحسنة ، بمعنى : وإن تك زنة الذرّة حسنة يضاعفها . وقرأ ذلك عامة قراء المدينة : «وَإنْ تَكُ حَسَنَةٌ » برفع الحسنة ، بمعنى : وإن توجد حسنة على ما ذكرت عن عبد الله بن مسعود من تأويل ذلك . وأما قوله : { يُضَاعِفْها } فإنه جاء بالألف ، ولم يقل : «يضعفها » ، لأنه أريد به في قول بعض أهل العربية : يضاعفها أضعافا كثيرة¹ ولو أريد به في قوله يضعف ذلك ضعفين لقيل : «يضعّفها » بالتشديد .
ثم اختلف أهل التأويل في الذين وعدهم الله بهذه الاَية ما وعدهم فيها ، فقال بعضهم : هم جميع أهل الإيمان بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم . واعتلوا في ذلك بما :
حدثنا الفضل بن الصباح ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن مبارك بن فضالة ، عن عليّ بن زيد ، عن أبي عثمان النهدي ، قال : لقيت أبا هريرة فقلت له : إنه بلغني أنك تقول : إن الحسنة لتضاعف ألف ألف حسنة ! قال : وما أعجبك من ذلك ؟ فوالله لقد سمعته يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول : «إنّ اللّهَ لَيُضَاعِفُ الحَسَنَةَ ألْفَيْ ألْفِ حَسَنَةَ » .
وقال آخرون : بل ذلك المهاجرون خاصة دون أهل البوادي والأعراب . واعتلوا في ذلك بما :
حدثني محمد بن هارون أبو نشيط ، قال : حدثنا يحيى بن أبي بكير ، قال : حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية العوفي ، عن عبد الله بن عمر ، قال : نزلت هذه الاَية في الأعراب : { مَنْ جاءَ بالحسَنةِ فَلهُ عَشْرُ أمْثالِهَا } قال : فقال رجل : فما للمهاجرين ؟ قال : «ما هُوَ أعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ : { إنّ اللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرّةٍ وَإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْها وَيُؤتِ مِنْ لَدُنْهُ أجْرا عَظِيما } وإذَا قال الله لشيءٍ عَظِيمٌ فهَوُ عَظِيم » .
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب ، قول من قال : عنى بهذه الاَية المهاجرين دون الأعراب . وذلك أنه غير جائز أن يكون في أخبار الله أو أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء يدفع بعضه بعضا ، فإذا كان صحيحا وعد الله من جاء من عباده المؤمنين بالحسنة من الجزاء عشر أمثالها ، ومن جاء بالحسنة منهم أن يضاعفها له ، وكان الخبران اللذان ذكرناهما عنه صلى الله عليه وسلم صحيحين ، كان غير جائز إلا أن يكون أحدهما مجملاً والاَخر مفسرا ، إذ كانت أخباره صلى الله عليه وسلم يصدّق بعضها بعضا . وإذا كان ذلك كذلك صحّ أن خبر أبي هريرة معناه : إن الحسنة لتضاعف للمهاجرين من أهل الإيمان ألفي ألف حسنة ، وللأعراب منهم عشر أمثالها ، على ما رَوَى ابن عمر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم¹ وأن قوله : { مَنْ جاءَ بالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمْثالِهَا } يعني : من جاء بالحسنة من أعراب المؤمنين فله عشر أمثالها ، ومن جاء بالحسنة من مهاجريهم يضاعف له ، ويؤته الله من لدنه أجرا ، يعني : يعطه من عنده أجرا عظيما ، يعني : عوضا من حسنته عظيما . وذلك العوض العظيم : الجنة¹ كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا صدقة بن أبي سهل ، قال : حدثنا أبو عمرو ، عن زاذان ، عن ابن مسعود : { وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أجْرا عَظِيما } : أي الجنة يعطها .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عباد بن أبي صالح ، عن سعيد بن جبير ، قوله : { وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أجْرا عَظِيما } قال : الأجر العظيم : الجنة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أجْرا عَظِيما } قال : أجرا عظيما : الجنة .
{ إن الله لا يظلم مثقال ذرة } لا ينقص من الأجر ولا يزيد في العقاب أصغر شيء كالذرة ، وهي النملة الصغيرة . ويقال لكل جزء من أجزاء الهباء ، والمثقال مفعال من الثقل ، وفي ذكره إيماء إلى أنه وإن صغر قدره عظم جزاؤه . { وإن تك حسنة } وإن يكن مثقال الذرة حسنة وأنت الضمير لتأنيث الخبر ، أو لإضافة المثقال إلى مؤنث . وحذف النون من غير قياس تشبيها بحروف العلة . وقرأ بن كثير ونافع { حسنة } بالرفع على كان التامة . { يضاعفها } يضاعف ثوابها وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب يضعفها وكلاهما بمعنى . { ويؤت من لدنه } ويعط صاحبها من عنده على سبيل التفضل زائدا على ما وعد في مقابلة العمل { أجرا عظيما } عطاء جزيلا وإنما سماه أجرا لأنه تابع للأجر مزيد عليه .
{ مثقال } مفعال من الثقل ، و «الذرة » : الصغيرة الحمراء من النمل ، وهي أصغر ما يكون إذا مر عليها حول ، لأنها تصغر وتجري كما تفعل الأفعى ، تقول العرب : أفعى جارية ، وهي أشدها ، وقال امرؤ القيس : [ الطويل ]
من الْقَاصِرات الطَّرْفِ لَوْ دَبَّ مُحِولٌ مِنَ الذَّرِّ فَوقَ الإتْبِ مِنْهَا لأثَّرا{[4036]}
فالمحول الذي أتى عليه حول . وقال حسان : [ الخفيف ]
لو يَدبُّ الحوليُّ من ولد الذ *** ر عليها لأنْدَبَتْها الكلومُ{[4037]}
وعبر عن الذرة يزيد بن هارون «بأنها دودة حمراء » وهي عبارة فاسدة ، وروي عن ابن عباس : «الذرة » رأس النملة ، وقرأ ابن عباس «إن الله لا يظلم مثقال نملة »{[4038]} و { مثقال } مفعول ثان ل { يظلم } ، والأول مضمر التقدير ، أن الله لا يظلم أحداً مثقال و { يظلم } لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد ، وإنما عدي هنا إلى مفعولين بأن يقدر في معنى ما يتعدى إلى مفعولين ، كأنه قال : إن الله لا ينقص أو لا يبخس أو لا يغصب ، ويصح أن يكون نصب { مثقال } على أنه بيان وصفة لمقدار الظلم المنفي ، فيجيء على هذا نعتاً لمصدر محذوف ، التقدير : إن الله لا يظلم ظلماً مثقال ذرة ، كما تقول : إن الأمير لا يظلم قليلاً ولا كثيراً ، أي لا يظلم ظلماً قليلاً ولا كثيراً ، فعلى هذا وقف { يظلم } على مفعول واحد ، وقال قتادة عن نفسه ، ورواه عن بعض العلماء ، لأن تفضل حسناتي سيئاتي بمثقال ذرة أحب إليَّ من الدنيا جميعاً ، وحذفت النون من { تكن } لكثرة الاستعمال ، وشبهها خفة بحروف المد واللين ، وقرأ جمهور السبعة «حسنةً » بالرفع على نقصان «كان » واسمها مضمر تقديره وإن تك زنة الذرة حسنة ، وقرأ نافع وابن كثير «حسنةٌ » بالرفع على تمام «كان » التقدير : وإن تقع حسنة أو توجد حسنة ، و { يضاعفها } جواب الشرط ، وقرأ ابن كثير وابن عامر «يضعفها » مشددة العين بغير ألف ، قال ابو علي : المعنى فيهما واحد ، وهما لغتان ، وقرأ الحسن «يضْعفها » بسكون الضاد وتخفيف العين ، ومضاعفة الشيء في كلام العرب : زيادة مثله إليه ، فإذا قلت : ضعفت فقد أتيت ببنية التكثير ، وإذا كانت صيغة الفعل دون التكثير تقتضي الطي{[4039]} مرتين فبناء التكثير يقتضي أكثر من المرتين إلى أقصى ما تريد من العدد ، وإذا قلت ضاعفت فليس ببنية تكثير ، ولكنه فعل صيغته دالة على الطي مرتين فما زاد ، هذه أصول هذا الباب على مذهب الخليل وسيبويه ، وقد ذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتاب المجاز : أن «ضاعفت » يقتضي مراراً كثيرة ، وضعفت يقتضي مرتين ، وقال مثله الطبري ومنه نقل ، ويدلك على تقارب الأمر في المعنى ما قرىء به في قوله { فيضاعفه له أضعافاً كثيرة } {[4040]} ، فإنه قرىء «يضاعفه ويضعفه » وما قرىء به في قوله تعالى : { يضاعف لها العذاب ضعفين }{[4041]} [ الأحزاب : 30 ] فإنها قرىء «يضعف لها العذاب ضعفين » وقال بعض المتأولين : هذه الآية خص بها المهاجرون ، لأن الله أعلم في كتابه : أن الحسنة لكل مؤمن مضاعفة عشر مرار ، وأعلم في هذه : أنها مضاعفة مراراً كثيرة جداً حسب ما روى أبو هريرة من أنها تضاعف ألفي ألف مرة ، وروى غيره من أنها تضاعف ألف ألف مرة{[4042]} ، ولا يستقيم أن يتضاد الخبران ، فهذه مخصوصة للمهاجرين السابقين ، حسبما روى عبد الله بن عمر : أنها لما نزلت { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها }{[4043]} في الناس كافة قال رجل : فما للمهاجرين ؟ فقال ما هو أعظم من هذا { إن الله لا يظلم }{[4044]} الآية فخصوا كما خصت نفقة سبيل الله بتضعيف سبعمائة مرة{[4045]} ، ولا يقع تضاد في الخبر ، وقال بعضهم : بل وعد بذلك جميع المؤمنين ، وروي في ذلك أحاديث ، وهي : أن الله عز وجل يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد ، فينادي هذا فلان بن فلان ، فمن كان له عنده حق فليقم قال : فيحب الإنسان لو كان له يومئذ الحق على أبيه وابنه ، فيأتي كل من له حق فيأخذ من حسناته حتى يقع الانتصاف ، ولا يبقى له إلا وزن الذرة ، فيقول الله تعالى : أضعفوها لعبدي واذهبوا به إلى الجنة{[4046]} ، وهذا يجمع معاني ما روي مما لم نذكره ، والآية تعم المؤمنين والكافرين فأما المؤمنون فيجازون في الآخرة على مثاقيل الذر فما زاد وأما الكافرون فما يفعلون من خير فتقع المكافأة عليه بنعم الدنيا ويجيئون يوم القيامة ولا حسنة لهم ، و { لدنه } معناه من عنده ، قال سيبويه : ولدن : هي لابتداء الغاية ، فهي تناسب أحد مواضع من ، ولذلك التأما ودخلت { من } عليها{[4047]} ، والأجر العظيم : الجنة ، قاله ابن مسعود وسعيد بن جبير وابن زيد ، والله إذا منَّ بتفضله بلغ بعبده الغاية{[4048]} .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن الله لا يظلم مثقال ذرة}: لا ينقص وزن أصغر من الذرة من أموالهم، {وإن تك حسنة} واحدة {يضاعفها} حسنات كثيرة، فلا أحد أشكر من الله عز وجل، {ويؤت من لدنه أجرا عظيما}: ويعطي من عنده في الآخرة جزاء كثيرا، وهي الجنة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الاَخر، وأنفقوا مما رزقهم الله، فإن الله لا يبخس أحدا من خلقه أنفق في سبيله مما رزقه من ثواب نفقته في الدنيا ولا من أجرها يوم القيامة {مِثْقَالَ ذَرّةٍ} أي ما يزنها ويكون على قدر ثقلها في الوزن، ولكنه يجازيه به، ويثيبه عليه. عن قتادة أنه تلا: {إنّ اللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرّةٍ وَإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْها} قال: لأن تفضل حسناتي ما يزن ذرّة أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها.
وأما الذرّة، فإنه ذكر عن ابن عباس أنه قال: {مِثْقالَ ذَرّةٍ} قال: رأس نملة حمراء.
حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار، قالا: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا عمران، عن قتادة، عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «إنّ اللّهَ لا يَظْلِمُ المُؤْمِنَ حَسَنَةً، يُثابُ عَلَيْها الرّزْقَ فِي الدّنْيا وُيجْزَى بها فِي الاَخِرَةِ¹ وأمّا الكافِرُ فَيُطْعَمُ بها فِي الدّنْيا، فإذَا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ لَمْ تَكُنْ لَه حَسَنَةً».
حدثني به المثنى، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا صدقة بن أبي سهل، قال: حدثنا أبو عمرو، عن زاذان، قال: أتيت ابن مسعود، فقال: إذا كان يوم القيامة جمع الله الأوّلين والاَخرين، ثم نادى مناد من عند الله: «ألا من كان يطلب مظلمة، فليجيء إلى حقه فليأخذه!» قال: فيفرح والله الصبيّ أن يذوب له الحقّ على والده أو ولده أو زوجته، فيأخذه منه وإن كان صغيرا. ومصداق ذلك في كتاب الله تبارك وتعالى: {فإذَا نُفِخَ فِي الصّورِ فَلا أنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ} فيقال له: «آت هؤلاء حقوقهم» أي أعطهم حقوقهم. فيقول: أي ربّ من أين وقد ذهبت الدنيا؟ فيقول الله لملائكته: أي ملائكتي انظروا في أعماله الصالحة، وأعطوهم منها! فإن بقي مثقال ذرة من حسنة، قالت الملائكة وهو أعلم بذلك منها: يا ربنا أعطيْنا كلّ ذي حقّ حقه، وبقي له مثقال ذرّة من حسنة. فيقول للملائكة: ضعّفوها لعبدي، وأدخلوه بفضل رحمتي الجنة! ومصداق ذلك في كتاب الله: {إنّ اللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرّةٍ وَإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْها وَيُؤتِ مِنْ لَدُنْهُ أجْرا عَظِيما}: أي الجنة يعطيها. وإن فنيت حسناته وبقيت سيئاته، قالت الملائكة وهو أعلم بذلك: إلهنا فنيت حسناته وبقي سيئاته، وبقي طالبون كثير! فيقول الله: ضعوا عليه من أوزارهم واكتبوا له كتابا إلى النار! قال صدقة: «أو صكّا إلى جهنم»، شكّ صدقة أيتهما قال.
فتأويل الآية على هذا: إن الله لا يظلم عبدا وجب له مثقال ذرّة قِبَل عبد له آخر في معاده ويوم لقائه فما فوقه فيتركه عليه فلا يأخذه للمظلوم من ظالمه، ولكنه يأخذه منه له، ويأخذ من كل ظالم لكل مظلوم تَبِعَتَهُ قِبَلَهُ. {وَإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْها} يقول: وإن توجد له حسنة يضاعفها، بمعنى: يضاعف له ثوابها وأجرها. {وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أجْرا عَظِيما} يقول: ويعطه من عنده أجرا عظيما. والأجر العظيم: الجنة على ما قاله عبد الله.
ولكلا التأويلين وجه مفهوم، أعنى التأويل الذي قاله ابن مسعود والذي قاله قتادة. وإنما اخترنا التأويل الأوّل لموافقته الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع دلالة ظاهر التنزيل على صحته، إذ كان في سياق الآية التي قبلها، التي حثّ الله فيها على النفقة في طاعته، وذمّ النفقة في طاعة الشيطان، ثم وصل ذلك بما وعد المنافقين في طاعته بقوله: {إنّ اللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرّةٍ وَإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْها وَيُؤتِ مِنْ لَدُنْهُ أجْرا عَظِيما}.
ويؤته الله من لدنه أجرا، يعني: يعطه من عنده أجرا عظيما، يعني: عوضا من حسنته عظيما. وذلك العوض العظيم: الجنة¹.
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
فمعنى الآية على هذا التأويل، إن الله لا يظلم مثقال ذرة للخصم على الخصم بل يأخذ له منه، ولا يظلم مثقال ذرة تبقى له، بل يثيبه عليها ويضعفها له، قوله تعالى: {وإن تك حسنةً يضاعفها}، قرأ أهل الحجاز {حسنة} بالرفع، أي: وإن توجد حسنة، وقرأ الآخرون بالنصب على معنى: وإن تك زنة الذرة حسنةً يضاعفها، أي: يجعلها أضعافاً كثيرة.
قوله تعالى: {ويؤت من لدنه أجرا عظيما}. قال أبو هريرة رضي الله عنه: إذا قال الله تعالى (أجراً عظيماً) فمن يقدر قدره؟... قوله تعالى: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليماً إن الله لا يظلم مثقال ذرة}. ونظمه: وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا فإن الله لا يظلم، أي: لا يبخس ولا ينقص، أحداً من ثواب عمله مثقال ذرة وزن، والذرة: هي النملة الحمراء الصغيرة، وقيل: الذر أجزاء الهباء في الكوة، وكل جزء منها ذرة، ولا يكون لها وزن، وهذا مثل، يريد: أن الله لا يظلم شيئاً، كما قال في آية أخرى: {إن الله لا يظلم الناس شيئا}. [يونس:44].
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{إن الله لا يظلم مثقال ذرّة} نزلت في المهاجرين الأوّلين. وقيل: في الخصوم. وقيل: في عامة المؤمنين. ومناسبة هذه لما قبلها واضحة لأنه تعالى لما أمر بعبادته تعالى وبالإحسان للوالدين ومن ذكر معهم، ثم أعقب ذلك بذم البخل والأوصاف المذكورة معه، ثم وبخ من لم يؤمن، ولم ينفق في طاعة الله، فكان هذا كله توطئة لذكر الجزاء على الحسنات والسيئات فأخبر تعالى بصفة عدله، وأنه عزّ وجل لا يظلم أدنى شيء، ثم أخبر بصفة الإحسان فقال:... {وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً} وضرب مثلاً لأحقر الأشياء وزن ذرة، وذلك مبالغة عظيمة في الانتفاء عن الظلم البتة. وظاهر قوله: مثقال ذرّة، أن الذرّة لها وزن. وقيل: الذرّة لا وزن لها، وأنه امتحن ذلك فلم يكن لها وزن...
وإذا كان تعالى لا يظلم مثقال ذرّة فلأن لا يظلم فوق ذلك أبلغ، ولما كانت الذرة أصغر الموجودات ضرب بها المثل في القلة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما فرغ من توبيخهم قال معللاً: {إن الله} أي الذي له كل كمال، فهو الغني المطلق {لا يظلم} أي لا يتصور أن يقع منه ظلم ما {مثقال ذرة} أي فما دونها، وإنما ذكرها لأنها كناية عن العدم، لأنها مثل في الصغر، أي فلا ينقص أحداً شيئاً مما عمله، ولا يثيب عليه شيئاً لم يعمله، فماذا على من آمن به وهو بهذه الصفة العظمى...
ولما ذكر التخلي من الظلم، أتبعه التحلي بالفضل فقال عاطفاً على ما تقديره: فإن تك الذرة سيئة لم يزد عليها، ولا يجزي بها إلا مثلها: {وإن} ولما كان تشوف السامع إلى ذلك عظيماً، حذف منه النون بعد حذف المعطوف عليه تقريباً لمرامه فقال: {تك} أي مثقال الذرة، وأنثه لإضافته إلى مؤنث، وتحقيراً له، ليفهم تضعيف ما فوقه من باب الأولى، وهذا يطرد في قراءة الحرميين برفع {حسنة} أي وإن صغرت {يضاعفها} أي من جنسها بعشرة أمثالها إلى سبعين إلى سبعمائة ضعف إلى أزيد من ذلك بحسب ما يعلم من حسن العمل بحسن النية {ويؤت من لدنه} أي من غريب ما عنده فضلاً من غير عمل لمن يريد. قال الإمام: وبالجملة فذلك التضعيف إشارة إلى السعادات الجسمانية، وهذا الأجر إلى السعادات الروحانية {أجراً عظيماً *} وسماه أجراً -وهو من غير جنس تلك الحسنة- لابتنائه على الإيمان، أي فمن كان هذا شأنه لا يسوغ لعاقل توجيه الهمة إلا إليه، ولا الاعتماد أصلاً بإنفاق وغيره إلا عليه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قال الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى:
بعد ما بين تعالى صفات المتكبرين وسوء حالهم وتوعدهم على ذلك أراد أن يزيد الأمر تأكيدا ووعيدا فبين أنه لا يظلم أحدا من العاملين بتلك الوصايا قليلا أو كثيرا بل يوفيه حقه بالقسطاس المستقيم، فالآية تتميم لموضوع الأوامر السابقة وترغيب للعاملين في الخير كما قال في سورة الزلزلة: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره} [الزلزلة:7] الخ فمن سمع هذه الآية تعظم رغبته في الخير ورجاؤه في الله تعالى...
{وإن تك حسنة يضاعفها} أقول أي أنه تعالى لا ينقص أحدا من أجر عمله مثقال ذرة ولكنه يزيد للمحسن في حسنته، فإن كانت الذرة التي عملها العامل سيئة كان جزاؤها بقدرها، وإن كانت حسنة يضاعفها له الله تعالى عشرة أضعاف أو أضعافا كثيرة كما قال تعالى في آية أخرى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون} [الأنعام:160] وفي معناها آيات وقال: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة} [البقرة:244] وقرأ ابن كثير {وإن تك حسنة} برفع حسنة أي وإن توجد حسنة يضاعفها. وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب وابن جبير {يضعفها} بتشديد العين من التضعيف وهو بمعنى المضاعفة. وردوا قول أبي عبيدة أن ضاعف يقتضي مرارا كثيرة وضعف يقتضي مرتين. {ويؤت من لدنه أجرا عظيما} يعني أن فضله تعالى أوسع أن يضاعف للمحسن حسنته فقط بأن لا يكون عطاؤه إلا في مقابلة الحسنات بل يزيد المحسنين من فضله ويعطيهم من لدنه أي من عنده لا في مقابلة حسناتهم أجرا عظيما أي عطاء كبيرا. قالوا أنه سمّى هذا العطاء أجرا وهو لا مقابل له من الأعمال لأنه تابع للأجر على العمل فسمي باسمه من قبيل مجاز المجاورة. ولعل نكتة هذا التجوز هي الإيذان بأن هذا العطاء العظيم لا يكون لغير المحسنين فهو علاوة على أجور أعمالهم والعلاوة على الشيء تقتضي وجود ذلك الشيء فلا مطمع فيها للمسيئين الذين غلبت سيئاتهم المفردة على حسناتهم المضاعفة، فما قولك بالمشركين الذين طمست حسناتهم في ظلمة شركهم والعياذ بالله تعالى. والظاهر أن هذا الأجر العظيم هو النعيم الروحاني برضوان الله الأكبر وقد تقدم الكلام فيه غير مرة فراجعه في مظانّه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والله عليم بهم بما أنفقوا وبما استقر في قلوبهم من بواعث. والله لا يظلم مثقال ذرة فلا خشية من الجهل بإيمانهم وإنفاقهم. ولا خوف من الظلم في جزائهم.. بل هناك الفضل والزيادة، بمضاعفة الحسنات، والزيادة من فضل الله بلا حساب؟ إن طريق الإيمان أضمن وأكسب -على كل حال وعلى كل احتمال- وحتى بحساب الربح المادي والخسارة المادية، فإن الإيمان -في هذه الصورة- يبدو هو الأضمن وهو الأربح! فماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر، وأنفقوا مما رزقهم الله؟ إنهم لا ينفقون من شيء خلقوه لأنفسهم خلقا؛ إنما هو رزق الله لهم. ومع ذلك يضاعف لهم الحسنة؛ ويزيدهم من فضله، وهم من رزقه ينفقون ويعطون! فياله من كرم! وياله من فيض! ويالها من صفقة لا يقعد عنها إلا جاهل خسران!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف بعد أن وصف حالهم، وأقام الحجّة عليهم، وأراهم تفريطهم مع سهولة أخذهم بالحيطة لأنفسهم لو شاءوا، بيّن أنّ الله منزّه عن الظلم القليل، بله الظلم الشديد، فالكلام تعريض بوعيد محذوف هو من جنس العقاب، وأنّه في حقّهم عدل، لأنّهم استحقّوه بكفرهم، وقد دلّت على ذلك المقدّر أيضاً مقابلته بقوله: {وإن تك حسنة} ولمّا كان المنفي الظلم، على أنّ (مثقال ذرّة) تقدير لأقلّ ظلم، فدلّ على أنّ المراد أنّ الله لا يؤاخذ المسيء بأكثر من جزاء سيّئته...
وانتصب {مثقال ذرة} بالنيابة عن المفعول المطلق، أي لا يظلم ظُلما مقدّراً بمثقال ذرّة، والمثقال ما يظهر به الثِّقَل، فلذلك صيغَ على وزن اسم الآلة، والمراد به المقدار...
والذَّرة تطلق على بيضة النمْلة، وعلى ما يتطاير من التراب عند النفخ، وهذا أحقر ما يقدُر به، فعلم انتفاء ما هو أكثر منه بالأولى. وقرأ نافع وابن كثير وأبو جعفر {حسنة} بالرفع على أنّ (تك) مضارع كان التامّة، أي إن تُوجَدْ حسنةٌ. وقرأه الجمهور بنصب {حسنة} على الخبرية ل {تَكُ} على اعتبار كان ناقصة، واسم كان المُسْتتر عائد إلى مثقال ذرّة، وجيء بفعل الكون بصيغة فِعل المؤنث مراعاةً لفظ ذرّة الذي أضيف إليه مثقالُ، لأنّ لفظ مثقال مبهم لا يميّزه إلاّ لفظ ذرّة فكان كالمستغنى عنه. والمضاعفة إضافة الضّعف بكسر الصاد أي المِثْل، يقال: ضاعف وضَعَّف وأضْعَفَ، وهي بمعنى واحد على التحقيق عند أيمّة اللغة، مثل أبي علي الفارسي. وقال أبو عُبيدة ضاعف يقتضي أكثر من ضِعْفٍ واحد وضعّف يقتضي ضعفين. وردّ بقوله تعالى: {يضاعف لها العذاب ضعفين} [الأحزاب: 30]. وأمّا دلالة إحدى الصيغ الثلاث على مقدار التضعيف فيؤخذ من القرائن لحكمة الصيغة. وقرأ الجمهور: {يضاعفها}، وقرأه ابن كثير، وابن عامر، وأبو جعفر: {يُضَعِّفها} بدون ألف بعد العين وبتشديد العين. والأجر العظيم ما يزاد على الضعف، ولذلك أضافه الله تعالى إلى ضمير الجلالة، فقال: {من لدنه} إضافة تشريف. وسمّاه أجرا لكونه جزاء على العمل الصالح، وقد روي أنّ هذا نزل في ثواب الهجرة.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ما هي «الذّرة»؟: «الذّرة» في الأصل هي النملة الصغيرة التي لا ترى، وقال البعض: هي من أجزاء الهباء والغبار في الكّوة التي تظهر عند دخول شعاع الشمس خلالها، وقيل أيضاً أنّه الغبار الدقيق المتطاير من يدي الإِنسان إذا جعلهما على التراب وما شابهه ثمّ نفخهما. ولكنّها أُطلقت تدريجاً على كل شيء صغير جدّاً، وتطلق الآن ويراد منها ما يتكون من الإِلكترون والبروتون أيضاً. لأنّها إِذا كانت تطلق سابقاً على أجزاء الغبار، فلأن تلك الأجزاء كانت أصغر أجزاء الجسم، ولكن حيث ثبت اليوم أنّ أصغر أجزاء «الجسم المركب» هو «المولوكول» أو الجزيئة، وأصغر أجزاء «الجسم البسيط» هو «الذّرات»، اختيرت لفظة «الذّرة» في الاصطلاح العلمي على تلك الجزئيات التي لا ترى بالعين المجرّدة، بل لا يمكن أن ترى حتى بأقوى الميكروسكوبات الإِلكترونية، وإِنّما يحسّ بوجودها من خلال القوانين والمعادلات العلمية والتصوير بآلات مزودة بأدقّ الأجهزة وأقواها، وحيث إن «مثقال» يعني الثقل، فإِنّ التعبير بمثقال ذرة يعني جسماً في غاية الدقة والصغر...
إِنّ الآية الحاضرة تقول: إِنّ الله لا يظلم قط زنة ذرة، بل يضاعف الحسنة إِذا قام بها أحد، ويعطي من لدنه على ذلك أجراً عظيماً: (إِنّ الله لا يظلم مثقال ذرة وإِن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً). إِنّ هذه الآية في الحقيقة تقول للكافرين الذين يبخلون والذين مرّ الحديث عن أحوالهم في الآيات السابقة: إِنّ العقوبات التي تصيبكم ما هي في الحقيقة إلاّ جزاء ما قمتم به من الأعمال، وأنّه لا يصيبكم أي ظلم من جانب الله، بل لو أنّكم تركتم الكفر والبخل وسلكتم طريق الله لنلتم المثوبات العظيمة المضاعفة. ثمّ أنّه لابدّ من الانتباه إِلى أن لفظة «ضعف» و«المضاعف» تعني في اللغة العربية ما يعادل الشيء أو يربو عليه مرّات عديدة، وعلى هذا الأساس لا تنافي هذه الآية الآيات الأخرى التي تقول: إِن أجر الإِنفاق قد يصل إِلى عشرة أضعاف، وقد يصل إِلى سبعمائة مرّة ...
وعلى أي حال فإِنّها تحكي عن لطف الله بالنسبة إِلى عباده، حيث لا يعاقبهم على سيئاتهم وذنوبهم بأكثر ممّا عملوا، بينما يضاعف الأجر بمرات كثيرة إِذا أتوا بحسنة واحدة...
يبقى أن نعرف لماذا لا يظلم الله سبحانه؟ فإِنّ السبب فيه واضح، لأن الظلم عادة إِمّا ناشئ عن الجهل، وإمّا ناشئ عن الحاجة، وإمّا ناشئ عن نقص نفسي. ومن كان عالماً بكل شيء، وكان غنيّاً عن كل شيء، ولم يكن يعاني من أي نقص، لا يمكن صدور الظلم منه، فهو لا يظلم أساساً، لا أنّه تعالى لا يقدر على الظلم، ولا أن الظلم غير متصوّر في حقّه، بل مع قدرته تعالى على الظلم لا يظلم أبداً لحكمته وعلمه، فهو يضع كل شيء في عالم الوجود موضعه، ويعامل كل أحد حسب عمله، وطبقاً لسلوكه وسيرته...