( ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى ) . .
ولا يفصح السياق عن هذه البشرى إلا في موعدها المناسب بحضور امرأة إبراهيم ! والرسل : الملائكة . وهم هنا مجهولون ، فلا ندخل - مع المفسرين - في تعريفهم وتحديد من هم بلا دليل .
( قالوا : سلاما . قال : سلام ) . .
وكان إبراهيم قد هاجر من أرض الكلدانيين مسقط رأسه في العراق ، وعبر الأردن ، وسكن في أرض كنعان في البادية - وعلى عادة البدو في إكرام الأضياف راح إبراهيم يحضر لهم الطعام وقد ظنهم ضيوفا - :
يقول تعالى : { وَلقد جَاءَتْ رُسُلُنَا } وهم الملائكة ، إبراهيم بالبشرى ، قيل : تبشره{[14718]} بإسحاق ، وقيل : بهلاك قوم لوط . ويشهد للأول قوله تعالى : { فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ } [ هود : 74 ] ، { قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ } أي : عليكم .
قال علماء{[14719]} البيان : هذا أحسن مما حَيّوه به ؛ لأن الرفع يدل على الثبوت والدوام{[14720]} .
{ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ } أي : ذهب{[14721]} سريعا ، فأتاهم بالضيافة ، وهو عجل : فتى البقر ،
حَنِيذ : [ وهو ]{[14722]} مَشْوي [ شيًا ناضجًا ]{[14723]} على الرّضْف ، وهي الحجارة المُحْماة .
هذا معنى ما روي عن ابن عباس [ ومجاهد ]{[14724]} وقتادة [ والضحاك ، والسدي ]{[14725]} وغير واحد ، كما قال في الآية الأخرى : { فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ } [ الذاريات : 26 ، 27 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىَ قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ } .
يقول تعالى ذكره : وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا من الملائكة ، وهم فيما ذُكِر كانوا جبرئيل وملكين آخرين . وقيل إن الملكين الاَخرين كانا ميكائيل وإسرافيل معه . إبْرَاهِيمُ يعني إبراهيم خليل الله بالبُشْرَى يعني : بالبشارة . واختلفوا في تلك البشارة التي أتوه بها ، فقال بعضهم : هي البشارة بإسحاق . وقال بعضهم : هي البشارة بهلاك قوم لوط . قالُوا سَلاما يقول : فسلموا عليه سلاما ، ونصب «سلاما » بإعمال «قالوا » فيه ، كأنه قيل : قالوا قولاً وسلّموا تسليما . قالَ سَلامٌ يقول : قال إبراهيم لهم : سلام . فرفع «سلام » ، بمعنى عليكم السلام ، أو بمعنى سلام منكم . وقد ذُكِر عن العرب أنها تقول : سِلْم ، بمعنى السلام كما قالوا : حِلّ وحلال ، وحِرْم وحرام . وذكر الفراء أن بعض العرب أنشده :
مَرَرْنا فَقُلْنا إيهِ سِلْمٌ فَسَلّمَتْ *** كمَا اكْتَلّ بالبَرْقِ الغَمامُ اللّوَائِحُ
بمعنى «سلام » . وقد روي «كما انكلّ » . وقد زعم بعضهم أن معناه إذا قرىء كذلك : نحن سِلْم لكم ، من المسالمة التي هي خلاف المحاربة ، وهذه قراءة عامة قرّاء الكوفيين . وقرأ ذلك عامة قرّاء الحجاز والبصرة قالوا سلاما قال سَلامٌ على أن الجواب من إبراهيم صلى الله عليه وسلم لهم ، بنحو تسليمهم عليكم السلام .
والصواب من القول في ذلك عندي : أنهما قراءتان متقاربتا المعنى ، لأن السّلْم قد يكون بمعنى السلام على ما وصفت ، والسلام بمعنى السلم ، لأن التسليم لا يكاد يكون إلا بين أهل السّلم دون الأعداء ، فإذا ذكر تسليم من قوم على قوم وردّ الاَخرين عليهم ، دلّ ذلك على مسالمة بعضهم بعضا . وهما مع ذلك قراءتان قد قرأ بكل واحدة منهما أهل قدوة في القراءة ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب .
وقوله : فَمَا لَبثَ أنْ جاءَ بعجْلٍ حَنيذٍ وأصله محنوذ ، صرف من مفعول إلى فَعيل .
وقد اختلف أهل العربية في معناه ، فقال بعض أهل البصرة منهم : معنى المحنوذ : المشويّ ، قال : ويقال منه : حنذت فرسي ، بمعنى سَخّنته وعَرّقته . واستشهد لقوله ذلك ببيت الراجز :
*** وَرَهِبَا منْ حَنْذِهِ أنْ يَهْرَجا ***
وقال آخر منهم : حَنَذ فرسه : أي أضمره ، وقال : قالوا حَنَذهَ يحْنِذهُ حنذا : أي عرّقه . وقال بعض أهل الكوفة : كل ما انشوى في الأرض إذا خددت له فيه فدفنته وغممته فهو الحنيذ والمحنوذ . قال : والخيل تَحنذ إذا ألقيت عليها الجلال بعضها على بعض لتعرق . قال : ويقال : إذا سقيتَ فأحْنِذْ ، يعني أخْفِسْ ، يريد : أقلّ الماء وأكثر النبيذ .
وأما التأويل ، فإنهم قالوا في معناه ما أنا ذاكره ، وذلك ما :
حدثني به المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : بعِجْلٍ حَنِيذٍ يقول : نضيج .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : بِعِجْلٍ حَنِيذ قال : «بعجل » حَسِيل البقر ، والحنيذ : المشويّ النضيج .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إبْرَاهِيمَ بالبُشْرَى . . . إلى بِعِجْلٍ حَنِيذٍ قال : نضيج سخن أنضج بالحجارة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : فَمَا لَبثَ أنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنيذٍ والحنيذ : النضيج .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : بعِجْلٍ حَنِيذٍ قال : نضيج . قال : وقال الكلبي : والحنيذ : الذي يُحْنَذ في الأرض .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن حفص بن حميد ، عن شمر ، في قوله : فجاءَ بعِجْلٍ حَنِيذٍ قال : الحنيذ : الذي يقطر ماء وقد شُويِ . وقال حفص : الحنيذ : مثل حناذ الخيل .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : ذبحه ثم شواه في الرّضْف فهو الحنيذ حين شواه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو يزيد ، عن يعقوب ، عن حفص بن حميد ، عن شمر بن عطية : فجاءَ بعِجْلٍ حَنِيذٍ قال : المشويّ الذي يقطُر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا هشام ، قال : حدثنا يعقوب ، عن حفص بن حميد ، عن شَمر بن عطية ، قال : الحنيذ : الذي يقطر ماؤه وقد شُوِيَ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : بعِجْلٍ حَنِيذٍ قال : نضيج .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : بعِجْلٍ حَنِيذٍ الذي أنضج بالحجارة .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان : فَمَا لَبثَ أنْ جاءَ بعجْلٍ حَنيئذٍ قال : مشويّ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : ثني عبد الصمد ، أنه سمع وهب بن منبه يقول : حينذ ، يعني شُوِي .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : الحناذ : الإنضاج .
قال أبو جعفر : وهذه الأقوال التي ذكرناها عن أهل العربية وأهل التفسير متقاربات المعاني بعضها من بعض . وموضع «أن » في قوله : أنْ جاءَ بِعجْلٍ حَنِيذٍ نصب بقوله : «فما لبث أن جاء » .