قوله تعالى : " ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى " هذه قصة لوط عليه السلام ، وهو ابن عم إبراهيم عليه السلام لَحًّا{[8764]} ، وكانت قوى لوط بنوا حي الشام ، وإبراهيم ببلاد فلسطين ، فلما أنزل الله الملائكة بعذاب قوم لوط مروا بإبراهيم ونزلوا عنده ، وكان كل من نزل عنده يحسن قراه ، وكانوا مروا ببشارة إبراهيم ، فظنهم أضيافا . ( وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلام ) ؛ قاله ابن عباس . الضحاك : كانوا تسعة . السدي : أحد عشر ملكا على صورة الغلمان الحسان الوجوه ، ذو وضاءة وجمال بارع . " بالبشرى " قيل : بالولد . وقيل : بإهلاك قوم لوط . وقيل : بشروه بأنهم رسل الله عز وجل ، وأنه لا خوف عليه . " قالوا سلاما " نصب بوقوع الفعل عليه ، كما تقول : قالوا خيرا . وهذا اختيار الطبري . وأما قوله : " سيقولون ثلاثة{[8765]} " [ الكهف : 22 ] فالثلاثة اسم غير قول{[8766]} مقول . ولو رفعا جميعا أو نصبا جميعا " قالوا سلاما قال سلام " جاز في العربية . قيل : انتصب على المصدر . وقيل : " قالوا سلاما " أي فاتحوه بصواب من القول . كما قال : " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما{[8767]} " [ الفرقان : 63 ] أي صوابا ، فسلاما معنى قولهم لا لفظه ، قال معناه ابن العربي واختاره . قال : ألا ترى أن الله تعالى لما أراد ذكر اللفظ قاله بعينه فقال ، مخبرا عن الملائكة : " سلام عليكم بما صبرتم{[8768]} " [ الرعد : 24 ] " سلام عليكم طبتم{[8769]} " [ الزمر : 73 ] وقيل : دعوا له ، والمعنى سلمت سلاما . " قال سلام " في رفعه وجهان : أحدهما : على إضمار مبتدأ أي هو سلام ، وأمري سلام . والآخر بمعنى سلام عليكم إذا جعل بمعنى التحية ، فأضمر الخبر . وجاز سلام على التنكير لكثرة استعماله ، فحذف الألف واللام كما حذفت من لا هم في قولك اللهم . وقرئ " سلم " قال الفراء : السلم والسلام بمعنى ، مثل الحل والحلال .
قوله تعالى : { فما لبث أن جاء بعجل حنيذ } فيه أربع عشرة مسألة{[8770]} :
الأولى : قوله تعالى : " فما لبث أن جاء " " أن " بمعنى حتى ، قاله كبراء{[8771]} النحويين ، حكاه ابن العربي . التقدير : فما لبث حتى جاء . وقيل : " أن " في موضع نصب بسقوط حرف الجر ، التقدير : فما لبث عن أن جاء ، أي ما أبطأ عن مجيئه بعجل ، فلما حذف حرف الجر بقي " أن " في محل النصب . وفي " لبث " ضمير اسم إبراهيم . و " ما " نافية ، قاله سيبويه . وقال الفراء : فما لبث مجيئه ، أي ما أبطأ مجيئه ، فأن في موضع رفع ، ولا ضمير في " لبث " ، و " ما " نافية ، ويصح أن تكون " ما " بمعنى الذي ، وفي " لبث " ضمير إبراهيم و " أن جاء " خبر " ما " أي فالذي لبث إبراهيم هو مجيئه بعجل حنيذ . و " حنيذ " مشوي . وقيل : هو المشوي بحر الحجارة من غير أن تمسه النار . يقال : حنذت الشاة أحنذِها حنذا أي شويتها ، وجعلت فوقها حجارة محماة لتنضجها فهي حنيذ . وحنذت الفرس أحنذه حنذا ، وهو أن تُحْضِره شوطا أو شوطين ثم تظاهر عليه الجلال في الشمس ليعرق ، فهو محنوذ وحنيذ ، فإن لم يعرق قيل : كبا . وحَنَذٌ موضع قريب من المدينة{[8772]} . وقيل : الحنيذ السميط . ابن عباس وغيره : ( حنيذ نضيج . وحنيذ بمعنى محنوذ ) ، وإنما جاء بعجل لأن البقر كانت أكثر أموال .
الثانية : في هذه الآية من أدب الضّيف أن يعجل قراه ، فيقدم الموجود الميسر في الحال ، ثم يتبعه بغيره إن كان له جدة ، ولا يتكلف ما يضر به . والضيافة من مكارم الأخلاق ، ومن آداب الإسلام ، ومن خلق النبيين والصالحين . وإبراهيم أول من أضاف على ما تقدم في " البقرة " {[8773]} وليست بواجبة عند عامة أهل العلم ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم ( الضيافة ثلاثة أيام وجائزته يوم وليلة فما كان وراء ذلك فهو صدقة ) . والجائزة العطية والصلة التي أصلها على الندب . وقال صلى الله عليه وسلم : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ) . وإكرام الجار ليس بواجب إجماعا ، فالضيافة مثله . والله أعلم . وذهب الليث إلى وجوبها تمسكا بقوله صلى الله عليه وسلم : ( ليلة الضيف حق ) إلى غير ذلك من الأحاديث . وفيما أشرنا إليه كفاية ، والله الموفق للهداية . قال ابن العربي : وقد قال قوم : إن وجوب الضيافة كان في صدر الإسلام ثم نسخ ، وهذا ضعيف ، فإن الوجوب لم يثبت ، والناسخ لم يرد ، وذكر حديث أبي سعيد الخدري خرجه الأئمة ، وفيه : ( فاستضفناهم فأبوا أن يضيفونا فلدغ سيد ذلك الحي ) الحديث . وقال : هذا ظاهر في أن الضيافة لو كانت حقا للام النبي صلى الله عليه وسلم القوم الذين أبوا ، ولبين لهم ذلك .
الثالثة : اختلف العلماء فيمن يخاطب بها ، فذهب الشافعي ومحمد بن عبد الحكم إلى أن المخاطب بها أهل الحضر والبادية . وقال مالك : ليس على أهل الحضر ضيافة . قال سحنون : إنما الضيافة على أهل القرى ، وأما الحضر فالفندق ينزل فيه المسافر . [ حكى اللغتين صاحب العين وغيره ]{[8774]} . واحتجوا بحديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الضيافة على أهل الوبر وليست على أهل المدر ) . وهذا حديث لا يصح ، وإبراهيم ابن أخي عبد الرزاق متروك الحديث منسوب إلى الكذب ، وهذا مما انفرد به ، ونسب إلى وضعه ، قاله أبو عمر بن عبد البر . قال ابن العربي : الضيافة حقيقة فرض على الكفاية ، ومن الناس من قال : إنها واجبة في القرى حيث لا طعام ولا مأوى ، بخلاف الحواضر فإنها مشحونة بالمَأْوَاة والأقوات ، ولا شك أن الضيف كريم ، والضيافة كرامة ، فإن كان غريبا فهي فريضة .
الرابعة : قال ابن العربي قال بعض علمائنا : كانت ضيافة إبراهيم قليلة فشكرها الحبيب من الحبيب ، وهذا حكم بالظن في موضع القطع ، وبالقياس في موضع النقل ، من أين علم أنه قليل ؟ ! بل قد نقل المفسرون أن الملائكة كانوا ثلاثة : جبريل وميكائيل وإسرافيل صلى الله عليهم وسلم ، وعجل لثلاثة عظيم ، فما هذا التفسير لكتاب الله بالرأي ! هذا بأمانة الله هو التفسير المذموم فاجتنبوه فقد علمتموه .
الخامسة : السنة إذا قدم للضيف الطعام أن يبادر المقدِّم إليه بالأكل ، فإن كرامة الضيف تعجيل التقديم ، وكرامة صاحب المنزل المبادرة بالقبول ، فلما قبضوا أيديهم نكرهم إبراهيم ؛ لأنهم خرجوا عن العادة وخالفوا السنة ، وخاف أن يكون وراءهم مكروه يقصدونه . وروي أنهم كانوا ينكتون بقداح{[8775]} كانت في أيديهم في اللحم ولا تصل أيديهم إلى اللحم ، فلما رأى ذلك منهم " نكرهم وأوجس منهم خيفة " أي أضمر . وقيل : أحس ، والوجوس الدخول ، قال الشاعر :
جاء البريدُ بقِرطاس يَخُبُّ به *** *** فأوجَسَ القلبُ من قرطاسه جَزَعَا
" خيفة " خوفا ، أي فزعا . وكانوا إذا رأوا الضيف لا يأكل ظنوا به شرا ، فقالت الملائكة " لا تخف إنا أرسلنا إلى لوط "
السادسة : من أدب الطعام أن لصاحب الضيف أن ينظر في ضيفه هل يأكل أم لا ؟ وذلك ينبغي أن يكون بتلفت ومسارقة لا بتحديد{[8776]} النظر . روي أن أعرابيا أكل مع سليمان بن عبد الملك ، فرأى سليمان في لقمة الأعرابي شعرة فقال له : أزِلِ الشعرة عن لقمتك ؟ فقال له : أتنظر إلي نظر من يرى الشعرة في لقمتي ؟ ! والله لا أكلت معك . قلت : وقد ذكر أن هذه الحكاية إنما كانت مع هشام بن عبد الملك لا مع سليمان ، وأن الأعرابي خرج من عنده وهو يقول :
وللموتُ خيرٌ من [ زيارة ]{[8777]} باخل*** يلاحظُ أطرافَ الأَكِيلِ على عَمْدِ
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.