اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَقَدۡ جَآءَتۡ رُسُلُنَآ إِبۡرَٰهِيمَ بِٱلۡبُشۡرَىٰ قَالُواْ سَلَٰمٗاۖ قَالَ سَلَٰمٞۖ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجۡلٍ حَنِيذٖ} (69)

قوله : { وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بالبشرى } القصة .

قال النحويون : دخلت كلمة " قَدْ " ها هنا لأنَّ السَّامع لقصص الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يتوقع قصة بعد قصة ، و " قَدْ " للتوقع ، ودخلت اللاَّم في " لَقَدْ " تأكيداً للخبر .

فصل

لفظ " رُسُلُنَا " جمع وأقله ثلاثة ، فهذا يدلُّ على أنهم كانوا ثلاثة ، والزَّائِدُ على هذا العددِ لا يثبتُ إلاَّ بدليل آخر ، وأجمعُوا على أنَّ الأصلَ فيهم كان جبريلُ - عليه السَّلامُ - .

قال ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - : " كانوا ثلاثة جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل{[18871]} ، وهم المذكورون في الذَّاريات { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ } [ الذاريات : 24 ] وفي الحجر { وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ } [ الحجر : 51 ] .

وقال الضحَّاكُ : " كانوا تسعة " {[18872]} . وقال محمد بن كعب - رضي الله عنه - " كان جبريل ومعه سبعة{[18873]} " وقال السُّديُّ : " أحد عشر ملكاً " {[18874]} وقال مقاتل : " كانوا اثني عشر ملكاً على صور الغلمان الوضاء وجوههم " {[18875]} .

" بالبشرى " بالبشارة بإسحاق ويعقوب وقيل : بسلامة لوطٍ ، وإهلاك قومه .

قوله : { قَالُواْ سَلاَماً } : في نصبه وجهان :

أحدهما : أنَّه مفعولٌ به ، ثم هو محتملٌ لأمرينِ :

أحدهما : أن يراد قالوا هذه اللفظ بعينه ، وجاز ذلك لأنَّه يتضمَّن معنى الكلام .

الثاني : أنَّهُ أراد قالوا معنى هذا اللفظ ، وقد تقدَّم نحو ذلك في قوله تعالى : { وَقُولُواْ حِطَّةٌ } [ البقرة : 58 ] .

وثاني الوجهين : أن يكون منصوباً على المصدر بفعل محذوفٍ ، وذلك الفعلُ في محلِّ نصب بالقول ، تقديره : قالوا : سَلَّمْنَا سلاماً ، وهو من باب من ناب فيه المصدرُ عن العامل فيه ، وهو واجب الإضمار .

قوله : " سَلاَمٌ " في رفعه وجهان :

أحدهما : أنَّهُ مبتدأ وخبره محذوفٌ ، أي : سلامٌ عليكم .

والثاني : أنَّه خبر مبتدأ محذوف أي : أمْرِي أو قَوْلِي سلام .

وقد تقدَّم أنَّ الرفع أدلُّ على الثُّبوتِ من النَّصْبِ [ الفاتحة : 2 ] ، والجملة بأسرها - وإن كان أحد جزأيها محذوفاً - في محلِّ نصب بالقول ؛ كقوله : [ الطويل ]

إذَا ذَقْتُ فَاهَا قُلْتُ : طَعْمُ مُدَامَةٍ *** . . . {[18876]}

وقرأ الاخوان{[18877]} : " قَالَ سِلْم " هنا وفي سورة الذَّاريات بكسر السين وسكون اللاَّم .

ويلزم بالضرورة سقوطُ الألف ، قال الفرَّاءُ : " هُما لغتان كحِرْم وحَرَامٍ وحِلٍّ وحلالٍ " ؛ وأنشد : [ الطويل ]

مَرَرْنَا فَقُلْنَا : إيهِ سِلْمٌ فَسلَّمْتْ *** كَمَا اكْتَلَّ بالبَرْقِ الغَمَامُ اللَّوَائِحُ{[18878]}

يريد : سلامٌ ؛ بدليل : فسلَّمَتْ .

وقال الفارسي : " السِّلْم " بالكسر ضد الحربِ ، وناسبَ ذلك لأنَّهم لمَّا امتنعوا من تناول ما قدَّمهُ إليهم ، أنكرهم ، وأوجس منهم خيفة ، فقال : أنا سِلْم ، أي : مُسَالمكم غيرُ محارب لكم ، فلم تمتنعوا من تناول طعامي ؟

قال ابنُ الخطيب{[18879]} - رحمه الله - : وهذا بعيدٌ ؛ لأنَّ على هذا التقدير ينبغي أن يكون تكلُّم إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - بهذا اللفظ بعد إحضار الطَّعام ، والقرآن يدل على أنَّ هذا الكلام قبل إحضار الطَّعام ؛ لأنَّه تعالى قال : { قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ } والفاءُ للتَّعقيب ، فدلَّ على أنَّ مجيئَهُ بالعجل الحنيذِ بعد السَّلام .

فصل

أكثر ما يستعمل " سلامٌ عليكم " منكّراً ؛ لأنَّهُ في معنى الدُّعاءِ كقولهم : خير بين يديك .

فإن قيل : كيف جاز الابتداء بالنَّكرةِ ؟ .

فالجوابُ : إذا وصفت جاز ، فإذا قلت : " سلامٌ عليكم " فالتَّنكير هُنا يدلُّ على الكمال والتَّمام ، فكأنه سلام كامل تام عليك ، ونظيره قوله تعالى : { سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي } [ مريم : 47 ] وقوله : { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [ يس : 58 ] وقوله : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 23 ، 24 ] .

وأما قوله : { والسلام على مَنِ اتبع الهدى } [ طه : 47 ] فالمراد منه الماهية والحقيقة .

قال ابنُ الخطيب : قوله : " سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ " أكملُ من قوله : " السَّلامُ عليْكُم " ؛ لأنَّ التَّنْكيرَ يُفيدُ المبالغة والتَّمام ، والتعريف لا يفيدُ إلاَّ الماهية .

قوله : " فَمَا لَبِثَ " يجُوزُ في " ما " هذه ثلاثة أوجه :

أظهرها : أنَّها نافيةٌ ، وفي فاعل " لَبِثَ " حينئذٍ وجهان :

أحدهما : أنَّه ضميرُ إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - أي : فَمَا لَبِثَ إبراهيم ، وإن جاء على إسقاطِ الخافض ، فقدَّرُوه بالباء وب " عَنْ " وب " في " ، أي : فمَا تأخَّر في أنْ ، أو بأن ، أو عن أن .

والثاني : أنَّ الفاعل قوله : " أنْ جَاءَ " ، والتقدير : فَما لبثَ ، أي : ما أبْطَأ ولا تأخَّر مجيئُه بعجل سمين .

وثاني الأوجه : أنَّها مصدريةٌ .

وثالثها : أنَّها بمعنى الذي . وهي في الوجهين الأخيرين مبتدأ ، وإن جاء خبرهُ على حذفِ مضاف تقديره : فلُبْثُه - أو الذي لبثه - قَدْرَ مجيئه .

قال القرطبيُّ{[18880]} : قوله : " أنْ جَاءَ " معناه : حتَّى جَاءَ .

والحَنِيذُ : المَشْوِيُّ بالرَّضْفِ في أخدود كفعل أهل البادية يشوون في حفرةٍ من الأرض بالحجارة المُحَمَّاة ، يقال : حَنَذْتُ الشَّاة أحْنِذُهَا حَنْذاً فهي حَنِيذ ، أي : مَحْنُوذة .

وقيل : حَنيذ بمعنى يَقْطُرُ دَسَمُه من قولهم : حَنَذْتُ الفرس ، أي : سُقْتُه شَوْطاً أو شَوْطَيْن وتضع عليه الجُلَّ في الشمس ليعرق .


[18871]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/392) والرازي (18/19).
[18872]:انظر المصدر السابق.
[18873]:انظر المصدر السابق.
[18874]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/392).
[18875]:انظر المصدر السابق.
[18876]:صدر بيت لامرئ القيس وعجزه: معتقة مما يجيء به التجر *** ... ينظر: ديوانه (99) والهمع 1/157 والدرر 1/138 واللسان (تجر) والبحر المحيط 5/242 والدر المصون 4/112.
[18877]:ينظر: السبعة 337، 338 والحجة 4/359 وإعراب القراءات السبع 1/288 وحجة القراءات 346 والإتحاف 2/130 والمحرر الوجيز 3/3/187 والبحر المحيط 5/242 والدر المصون 4/112.
[18878]:ينظر البيت في البحر المحيط 5/242 ومعاني الفراء 2/21 وروح المعاني 12/94 والطبري 15/383 واللسان (سلم) والكشاف 2/409 والدر المصون 4/112.
[18879]:ينظر: تفسير الفخر الرازي 17/20.
[18880]:ينظر: تفسير القرطبي 9/43.