ثم يضرب عن هذا ليتحدث في موقفهم هم من الآخرة ، ومدى علمهم بحقيقتها :
( بل ادارك علمهم في الآخرة ) . .
فانتهى إلى حدوده ، وقصر عن الوصول إليها ، ووقف دونها لا يبلغها .
لا يستيقنون بمجيئها ، بله أن يعرفوا موعدها ، وينتظروا وقوعها .
بل هم منها في عمى ، لا يبصرون من أمرها شيئا ، ولا يدركون من طبيعتها شيئا . . وهذه أشد بعدا عن الثانية وعن الأولى :
وقوله : { بَلِ ادَّارَكَ{[22137]} عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا } أي : انتهى علمهم وعجز عن معرفة وقتها .
وقرأ آخرون : " بل أدرك{[22138]} علمهم " ، أي : تساوى علمهم في ذلك ، كما في الصحيح لمسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل - وقد سأله عن وقت الساعة - ما المسؤول عنها بأعلم من السائل{[22139]} أي : تساوى في العجز عن دَرْك ذلك علم المسؤول والسائل .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { بَلِ ادَّرَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَة } أي : غاب .
وقال قتادة : { بَلِ ادَّارَكَ{[22140]} عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ } يعني : يُجَهِّلهم{[22141]} ربهم ، يقول : لم ينفذ{[22142]} لهم إلى الآخرة علم ، هذا قول .
وقال ابن جُرَيج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس : " بل أدرك علمهم في الآخرة " حين لم ينفع العلم ، وبه قال عطاء الخراساني ، والسدي : أن علمهم إنما يُدرك ويكمل يوم القيامة حيث لا ينفعهم ذلك ، كما قال تعالى : { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } [ مريم : 38 ] .
وقال سفيان ، عن عمرو بن عبيد ، عن الحسن أنه كان يقرأ : " بل أدرك علمهم " قال : اضمحل علمهم في الدنيا ، حين عاينوا الآخرة .
وقوله : { بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا } عائد على الجنس ، والمراد الكافرون ، كما قال تعالى : { وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا } [ الكهف : 48 ] أي : الكافرون منكم . {[22143]} وهكذا قال هاهنا : { بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا } أي : شاكُّون في وجودها ووقوعها ، { بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ } أي : في عمَاية وجهل كبير في أمرها وشأنها .
وقوله : بَلِ ادّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الاَخِرَةِ اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة سوى أبي جعفر وعامة قرّاء أهل الكوفة : بَلِ ادّارَكَ بكسر اللام من «بل » وتشديد الدال من «ادّارك » ، بمعنى : بل تدارك علمهم أي تتابع علمهم بالآخرة هل هي كائنة أم لا ، ثم أدغمت التاء في الدال كما قيل : اثّاقَلْتُمْ إلَى الأرْضِ وقد بيّنا ذلك فيما مضى بما فيه الكفاية من إعادته .
وقرأته عامة قرّاء أهل مكة : «بَلْ أدْرَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ » بسكون الدال وفتح الألف ، بمعنى هل أدرك علمهم علم الآخرة . وكان أبو عمرو بن العلاء يُنكر فيما ذكر عنه قراءة من قرأ : «بَلْ أدْرَكَ » ويقول : إن «بل » إيجاب والاستفهام في هذا الموضع إنكار . ومعنى الكلام : إذا قرىء كذلك «بَلْ أدْرَكَ » لم يكن ذلك لم يدرك علمهم في الآخرة ، وبالاستفهام قرأ ذلك ابن محيصن على الوجه الذي ذكرت أن أبا عمرو أنكره .
وبنحو الذي ذكرت عن المكيين أنهم قرءوه ذُكر عن مجاهد أنه قرأه ، غير أنه كان يقرأ في موضع بل : أم .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن موسى ، قال : حدثنا عثمان بن الأسود ، عن مجاهد ، أنه قرأ «أمْ أدْرَكَ عِلْمُهُمْ » وكان ابن عباس فيما ذُكر عنه يقرأ بإثبات ياء في بل ، ثم يبتدىء أدّارك بفتح ألفها على وجه الاستفهام وتشديد الدال .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي حمزة ، عن ابن عباس في هذه الآية : «بَلى أدّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الاَخِرَةِ » : أي لم يدرك .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي حمزة ، قال : سمعت ابن عباس يقرأ بَلى أدّرَاكَ عِلْمُهُمِ فِي الاَخِرَةِ إنما هو استفهام أنه لم يدرك . وكأن ابن عباس وجه ذلك إلى أن مخرجه مخرج الاستهزاء بالمكذّبين بالبعث .
والصواب من القراءات عندنا في ذلك القراءتان اللتان ذكرت إحداهما عن قَرأَة أهل مكة والبصرة ، وهي «بَلْ أدْرَكَ عِلْمُهُمْ » بسكون لام بل وفتح ألف أدرك وتخفيف دالها ، والأخرى منهما عن قرأة الكوفة ، وهي بَلِ ادّرَكَ بكسر اللام وتشديد الدال من أدّارك ، لأنهما القراءتان المعروفتان في قرّاء الأمصار ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب عندنا . فأما القراءة التي ذُكرت عن ابن عباس ، فإنها وإن كانت صحيحة المعنى والإعراب ، فخلاف لما عليه مصاحف المسلمين ، وذلك أن في بلى زيادة ياء في قراءاته ليست في المصاحف ، وهي مع ذلك قراءة لا نعلمها قرأ بها أحد من قرّاء الأمصار . وأما القراءة التي ذكرت عن ابن محيصن ، فإن الذي قال فيها أبو عمرو قول صحيح ، لأن العرب تحقق ببل ما بعدها لا تنفيه . والاستفهام في هذا الموضع إنكار لا إثبات ، وذلك أن الله قد أخبر عن المشركين أنهم من الساعة في شكّ ، فقال : بَلْ هُمْ فِي شَكّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : بل أدرك علمهم في الاَخرة فأيقنوها إذ عاينوها حين لم ينفعهم يقينهم بها ، إذ كانوا بها في الدنيا مكذّبين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال عطاء الخراساني ، عن ابن عباس «بَلْ أدْرَكَ عِلْمُهُمْ » قال : بصرهم في الاَخرة حين لم ينفعهم العلم والبصر .
وقال آخرون : بل معناه : بل غاب علمهم في الاَخرة . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : «بَلْ أدْرَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ » يقول : غاب علمهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : بَلِ ادّرَكَ عِلْمُهُمْ فِي الاَخِرَةِ قال : يقول : ضلّ علمهم في الآخرة فليس لهم فيها علم ، هُمْ مِنْهَا عَمُونَ .
وقال آخرون : معنى ذلك : لم يبلغ لهم فيها علم . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد ، قال : ثني أبي ، عن جدي ، قال : حدثنا الحسين ، عن قتَادة في قوله : بَلِ ادّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ قال : كان يقرؤها : «بَلْ أدْرَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ » قال : لم يبلغ لهم فيها علم ، ولا يصل إليها منهم رغبة .
وقال آخرون : معنى ذلك : بل أدْرَكَ : أم أدرك . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد «بَلْ أدْرَكَ عِلْمُهُمْ » قال : أم أدرك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عثمان ، عن مجاهد «بَلْ أدْرَكَ عِلْمُهُمْ » قال : أم أدرك علمهم من أين يدرك علمهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، بنحوه .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب على قراءة من قرأ «بَلْ أدْرَكَ » القول الذي ذكرناه عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ، وهو أن معناه : إذا قرىء كذلك وَما يَشْعُرُونَ أيّانَ يُبْعَثُونَ بل أدرك علمهم نفس وقت ذلك في الآخرة حين يبعثون ، فلا ينفعهم علمهم به حينئذٍ ، فأما في الدنيا فإنهم منها في شكّ ، بل هم منها عمون .
وإنما قلت : هذا القول أولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب على القراءة التي ذُكِرَتْ ، لأن ذلك أظهر معانيه . وإذ كان ذلك معناه كان في الكلام محذوف قد استُغني بدلالة ما ظهر منه عنه . وذلك أن معنى الكلام : وما يشعرون أيان يُبعثون ، بل يشعرون ذلك في الآخرة ، فالكلام إذا كان ذلك معناه ، وما يشعرون أيان يبعثون ، بل أدرك علمهم بذلك في الآخرة ، بل هم في الدنيا في شكّ منها . وأما على قراءة من قرأه بَلِ ادّارَكَ بكسر اللام وتشديد الدال ، فالقول الذي ذكرنا عن مجاهد ، وهو أن يكون معنى بل : أم ، والعرب تضع أم موضع بل ، وموضع بل : أم ، إذا كان في أوّل الكلام استفهام ، كما قال الشاعر :
فَوَاللّهِ ما أدْرِي أسَلْمَى تَغَوّلَت *** أمِ النّوْمُ أمْ كُلّ إليّ حَبِيبُ
يعني بذلك بل كلّ إليّ حبيب ، فيكون تأويل الكلام : وما يشعرون أيان يبعثون ، بل تدارك علمهم في الاَخرة : يعني تتابع علمهم في الآخرة : أي بعلم الآخرة : أي لم يتتابع بذلك ولم يعلموه ، بل غاب علمهم عنه ، وضلّ فلم يبلغوه ولم يدركوه .
وقوله : { بَلْ هُمْ فِي شَكّ مِنْها } يقول : بل هؤلاء المشركون الذين يسألونك عن الساعة في شك من قيامها لا يوقنون بها ولا يصدّقون بأنهم مبعوثون من بعد الموت ، بَلْ هُمْ مِنْهمَا عمُونَ يقول : بل هم من العلم بقيامها عمون .