الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{بَلِ ٱدَّـٰرَكَ عِلۡمُهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِۚ بَلۡ هُمۡ فِي شَكّٖ مِّنۡهَاۖ بَلۡ هُم مِّنۡهَا عَمُونَ} (66)

وقرىء : «بل أدَّرك » ، «بل ادَّراك » ، «بل ادَّارك » ، «بل تدارك » ، «بل أأدرك » بهمزتين «بل آأدرك » ، بألف بينهما . «بل أدرك » ، بالتخفيف والنقل «بل ادّرك » بفتح اللام وتشديد الدال . وأصله : بل أدّرك ؟ على الاستفهام «بلى أدرك » ، «بلى أأدرك » ، «أم تدارك » ، «أم أدرك » فهذه ثنتا عشرة قراءة : وأدّارك : أصله تدارك ، فأدغمت التاء في الدال . وادّرك : افتعل . ومعنى أدرك علمهم : انتهى وتكامل . وادّارك : تتابع واستحكم . وهو على وجهين ، أحدهما : أن أسباب استحكام العلم وتكامله بأن القيامة كائنة لا ريب فيه ، قد حصلت لهم ومكنوا من معرفته ، وهم شاكون جاهلون ، وهو قوله : { بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ } : يريد المشركين ممن في السموات والأرض ؛ لأنهم لما كانوا في جملتهم نسب فعلهم إلى الجميع ، كما يقال : بنو فلان فعلوا كذا وإنما فعله ناس منهم .

فإن قلت : إن الآية سيقت لاختصاص الله بعلم الغيب ، وأن العباد لا علم لهم بشيء منه وأن وقت بعثهم ونشورهم من جملة الغيب وهم لا يشعرون به ، فكيف لاءم هذا المعنى وصف المشركين بإنكارهم البعث مع استحكام أسباب العلم والتمكن من المعرفة ؟ قلت : لما ذكر أن العباد لا يعلمون الغيب ، ولا يشعرون بالبعث الكائن ووقته الذي يكون فيه ، وكان هذا بياناً لعجزهم ووصفاً لقصور علمهم : وصل به أن عندهم عجزا أبلغ منه ، وهو أنهم يقولون للكائن الذي لا بدّ أن يكون - وهو وقت جزاء أعمالهم - لا يكون ، مع أن عندهم أسباب معرفة كونه واستحكام العلم به . والوجه الثاني : أن وصفهم باستحكام العلم وتكامله تهكم بهم ، كما تقول لأجهل الناس : ما أعلمك !على سبيل الهزؤ ، وذلك حيث شكوا وعموا عن إثباته الذي الطريق إلى علمه مسلوك ، فضلاً أن يعرفوا وقت كونه الذي لا طريق إلى معرفته : وفي : أدرك علمهم ، وادارك علمهم : وجه آخر ، وهو أن يكون أدرك بمعنى انتهى وفنى ، من قولك : أدركت الثمرة ؛ لأن تلك غايتها التي عندها تعدم : وقد فسره الحسن رضي الله عنه باضمحل علمهم وتدارك ، من تدارك بنو فلان : إذا تتابعوا في الهلاك فإن قلت ، فما وجه قراءة من قرأ : بل أأدرك على الاستفهام ؟ قلت : هو استفهام على وجه الإنكار لإدراك علمهم ، وكذلك من قرأ : أم أدرك . وأم تدارك ؛ لأنها أم التي بمعنى بل والهمزة .

فإن قلت : فمن قرأ : بلى أدرك ، وبلى أأدرك ؟ قلت : لما جاء ببلى ، بعد قوله : { وَمَا يَشْعُرُونَ } كان معناه : بلى يشعرون ، ثم فسر الشعور بقوله : أدرك علمهم في الآخرة على سبيل التهكم الذي معناه المبالغة في نفي العلم ، فكأنه قال : شعورهم بوقت الآخرة أنهم لا يعلمون كونها ، فيرجع إلى نفي الشعور على أبلغ ما يكون .

وأما من قرأ : بلى أأدرك ؟ على الاستفهام فمعناه : بلى يشعرون متى يبعثون ، ثم أنكر علمهم بكونها ، وإذا أنكر علمهم بكونها لم يتحصل لهم شعور بوقت كونها ؛ لأنّ العلم بوقت الكائن تابع للعلم بكون الكائن { فِى الأخرة } في شأن الآخرة ومعناه .

فإن قلت : هذه الاضرابات الثلاث ما معناها ؟ قلت : ما هي إلا تنزيل لأحوالهم : وصفهم أولاً بأنهم لا يشعرون وقت البعث ، ثم بأنهم لا يعلمون أن القيامة كائنة ، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية فلا يزيلونه والإزالة مستطاعة . ألا ترى أن من لم يسمع اختلاف المذاهب وتضليل أربابها بعضهم لبعض : كان أمره أهون ممن سمع بها وهو جاثم لا يشخص به طلب التمييز بين الحق والباطل ، ثم بما هو أسوأ حالاً وهو العمى ، وأن يكون مثل البهيمة قد عكف همه على بطنه وفرجه ، لا يخطر بباله حقاً ولا باطلاً . ولا يفكر في عاقبة . وقد جعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه فلذلك عدّاه بمن دون عن ؛ لأنّ الكفر بالعاقبة والجزاء هو الذي جعلهم كالبهائم لا يتدبرون ولا يتبصرون .