البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{بَلِ ٱدَّـٰرَكَ عِلۡمُهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِۚ بَلۡ هُمۡ فِي شَكّٖ مِّنۡهَاۖ بَلۡ هُم مِّنۡهَا عَمُونَ} (66)

وقرأ الجمهور : { بل ادّارك } ، أصله تدارك ، فأدغمت التاء في الدال فسكنت ، فاجتلبت همزة الوصل .

وقرأ أبي : أم تدارك ، على الأصل ، وجعل أم بدل .

وقرأ سليمان بن يسار أخوه : بل ادّرك ، بنقل حركة الهمزة إلى اللام ، وشدّ الدال بناء على أن وزنه افتعل ، فأدغم الدال ، وهي فاء الكلمة في التاء بعد قلبها دالاً ، فصار قلب الثاني للأول لقولهم : اثرد ، وأصله اثترد من الثرد ، والهمزة المحذوفة المنقول حركتها إلى اللام هي همزة الاستفهام ، أدخلت على ألف الوصل فانحذفت ألف الوصل ، ثم انحذفت هي وألقيت حركتها على لام بل .

وقرأ أبو رجاء والأعرج ، وشيبة ، وطلحة ، وتوبة العنبري : كذلك ، إلا أنهم كسروا لام بل ؛ وروي ذلك عن ابن عباس ، وعاصم ، والأعمش .

وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو جعفر ، وأهل مكة : بل أدرك ، على وزن أفعل ، بمعنى تفاعل ، ورويت عن أبي بكر ، عن عاصم .

وقرأ عبد الله في رواية ، وابن عباس في رواية ، وابن أبي جمرة ، وغيره عنه ، والحسن ، وقتادة ، وابن محيصن : بل آدرك ، بمدة بعد همزة الاستفهام ، وأصله أأدرك ، فقلب الثانية ألفاً تخفيفاً ، كراهة الجمع بين همزتين ، وأنكر أبو عمرو بن العلاء هذه الرواية ووجهها .

وقال أبو حاتم : لا يجوز الاستفهام بعد بل ، لأن بل إيجاب ، والاستفهام في هذا الموضع إنكار بمعنى : لم يكن كقوله تعالى : { أشهدوا خلقهم } أي لم يشهدوا ، فلا يصح وقوعهما معاً للتنافي الذي بين الإيجاب والإنكار . انتهى .

وقد أجاز بعض المتأخرين الاستفهام بعد بل ، وشبهه بقول القائل : أخبزاً أكلت بل أماء شربت ؟ على ترك الكلام الأول والأخذ في الثاني .

وقرأ مجاهد : أم أدرك ، جعل أم بدل بل ، وأدرك على وزن أفعل .

وقرأ ابن عباس أيضاً : بل إدّارك ، بهمزة داخلة على ادارك ، فيسقط همزة الوصل المجتلبة ، لأجل الإدغام والنطق بالساكن .

وقرأ ابن مسعود أيضاً : بل أأدرك ، بهمزتين ، همزة الاستفهام وهمزة أفعل .

وقرأ الحسن أيضاً ، والأعرج : بل أدرك ، بهمزة وإدغام فاء الكلمة ، وهي الدال في تاء افتعل ، بعد صيرورة التاء دالاً .

وقرأ ورش في رواية : بل ادّرك ، بحذف همزة أدرك ونقل حركتها إلى اللام .

وقرأ ابن عباس أيضاً : بلى ادرك ، بحرف الإيجاب الذي يوجب به المستفهم المنفي .

وقرىء : بل آأدرك ، بألف بين الهمزتين .

فأما قراءة من قرأ بالاستفهام ، فقال ابن عباس : هو للتقريع بمعنى لم يدرك علمهم على الإنكار عليهم .

وقال الزمخشري : هو استفهام على وجه الإنكار لإدراك علمهم ، وكذلك قراءة من قرأ : أم ادّرك ، وأم تدارك ، لأنها أم التي بمعنى بل والهمزة . انتهى .

وقال ابن عطية : هو على معنى الهزء بالكفرة والتقرير لهم على ما هو في غاية البعد عنهم ، أي اعلموا أمر الآخرة وادّركها علمهم .

وأما قراءة من قرأ على الخبر ، فقال ابن عباس : المعنى : بل تدارك علمهم ما جهلوه في الدنيا ، أي علموه في الآخرة ، بمعنى : تكامل علمهم في الآخرة بأن كل ما وعدوا به حق ، وهذا حقيقة إثبات العلم لهم ، لمشاهدتهم عياناً في الآخرة ما وعدوا به غيباً في الدنيا ، وكونه بمعنى المضي ، ومعناه الاستقبال ، لأن الإخبار به صدق ، فكأنه قد وقع .

وقال ابن عطية : يحتمل معنيين : أحدهما : أنه تناهي علمهم ، كما تقول : أدرك النبات وغيره ، أي تناهى وتتابع علمهم بالآخرة إلى أن يعرفوا لها مقداراً فيؤمنوا ، وإنما لهم ظنون كاذبة ؛ أو إلى أن لا يعرفوا لها وقتاً ، وتكون في بمعنى الباء متعلقة بعلمهم ، وقد تعدّى العلم بالباء ، كما تقول : علمي بزيد كذا ، ويسوغ حمل هذه القراءة على معنى التوقيف والاستفهام ، وجاء إنكاراً لأنهم لم يدركوا شيئاً نافعاً .

والثاني : أن أدرك : بمعنى يدرك ، أي علمهم في الآخرة يدرك وقت القيامة ، ويرون العذاب والحقائق التي كذبوا بها ، وأما في الدنيا فلا .

وهذا تأويل ابن عباس ، ونحا إليه الزجاج ، وفي على بابها من الظرفية متعلقة بتدارك .

انتهى ، وفيه بعض تلخيص وزيادة .

وقال الزمخشري : هو على وجهين : أحدهما : أن أسباب استحكام العلم وتكامله بأن القيامة كائنة لا ريب فيها قد حصلت لهم ومكنوا من معرفته وهم شاكون جاهلون ، وذلك قوله : { بل هم في شك منها بل هم منه عمون } ، يريد المشركين ممن في السموات والأرض ، لأنهم لما كانوا في جملتهم نسب فعلهم إلى الجميع ، كما يقال : بنو فلان فعلوا كذا ، وإنما فعله ناس منهم .

والوجه الثاني : أن وصفهم باستحكامه وتكامله تهكم بهم ، كما تقول لأجهل الناس : ما أعلمك ، على سبيل الهزء به ، وذلك حيث شكوا وعموا عن إتيانه الذي هو طريق إلى علم مشكوك ، فضلاً عن أن يعرفوا وقت كونه الذي لا طريق إلى معرفته .

وفي ادرك علمهم وادارك وجه آخر ، وهو أن يكون أدرك بمعنى انتهى وفني ، من قولهم : أدركت الثمرة ، لأن تلك غايتها التي عندها تعدم .

وقد فسر الحسن باضمحل علمهم وتدارك ، من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك . انتهى .

وقال الكرماني : العلم هنا بمعنى الحكم والقول ، أي تتابع منهم القول والحكم في الآخرة ، وكثرة منهم الخوض فيها ، فنفاها بعضهم ، وشك فيها بعضهم ، واستبعدها بعضهم .

وقال الفراء : بل ادرك ، فيصير بمعنى الجحد ، ولذلك نظائر ؛ أي لم يعلموا حدوثها وكونها ، ودل على ذلك { بل هم في شك منها } ، فصارت في في الكلام بمعنى الباء ، أي لم يدرك علمهم بالآخرة .

قال الفراء : ويقوي هذا الوجه قراءة من قرأ : أدرك ، بالاستفهام . انتهى .

وأما قراءة من قرأ بلى بحرف الجواب بدل بل ، فقال أبو حاتم : إن كان بلى جواباً لكلام تقدم ، جاز أن يستفهم به ، كأن قوماً أنكروا ما تقدم من القدرة ، فقيل لهم : بلى إيجاباً لما نفوا ، ثم استؤنف بعده الاستفهام وعودل بقوله تعالى : { بل هم في شك منها } ، بمعنى : أم هم في شك منها ، لأن حروف العطف قد تتناوب ، وكف عن الجملتين بقوله تعالى : { بل هم منها عمون } . انتهى .

يعني أن المعنى : ادّرك علمهم بالآخرة أم شكوا ؟ فبل بمعنى أم ، عودل بها الهمزة ، وهذا ضعيف جداً ، وهو أن تكون بل بمعنى أم وتعادل همزة الاستفهام .

قال الزمخشري : فإن قلت : فمن قرأ بلى ادرك ؟ قلت : لما جاء ببلى بعد قوله : { وما يشعرون } ، كان معناه : بلى يشعرون ، ثم فسر الشعور بقوله : ادرك علمهم في الآخرة ، على سبيل التهكم الذي معناه المبالغة في نفي العلم ، فكأنه قال : شعورهم بوقت الآخرة أنهم لا يعلمون ، كونها ، فيرجع إلى المبالغة في نفي الشعور على أبلغ ما يكون .

وأما من قرأ : بلى أدّرك ، على الاستفهام فمعناه : يشعرون متى يبعثون ، ثم أنكر علمهم بكونها ، وإذا أنكر علمهم بكونها ، لم يتحصل لهم شعور بوقت كونها ، لأن العلم بوقت الكائن تابع للعلم بكون الكائن .

فإن قلت : هذه الإضرابات الثلاث ما معناها ؟ قلت : ما هي إلا تنزيل لأحوالهم ، وصفهم أولاً بأنهم لا يشعرون وقت البعث ، ثم بأنهم لا يعلمون أن القيامة كائنة ، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية فلا يزيلونه ، والإزالة مستطاعة ، وقد جعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه ، فلذلك عداه بمن دون عن ، لأن العاقبة والجزاء هو الذي جعلهم كالبهائم لا يتدبرون ولا يبصرون . انتهى .