الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{بَلِ ٱدَّـٰرَكَ عِلۡمُهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِۚ بَلۡ هُمۡ فِي شَكّٖ مِّنۡهَاۖ بَلۡ هُم مِّنۡهَا عَمُونَ} (66)

قوله : { ادَّارَكَ } : قرأ ابنُ كثير وأبو عمرو ونافع " أَدْرَكَ " كأَكْرم . والباقون من السبعةِ " ادَّارك " بهمزةِ وَصْلٍ ، وتشديدِ الدالِ المفتوحةِ ، بعدها ألفٌ . والأصلُ : تَدارك وبه قرأ اُبَيٌّ ، فأُريد إدغامُ التاءِ في الدالِ فأُبْدِلَتْ دالاً ، وسُكِّنَتْ فتعذَّر الابتداءُ بها لسكونهِا ، فاجْتُلِبَتْ همزةُ الوصلِ فصار ادَّارك كما ترى ، وتحقيقُ هذه قد تقدَّم في رأسِ الحزبِ من البقرة :

{ فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا } [ البقرة : 72 ] . وقراءةُ ابنِ كثير قيل : تَحْتمل أن يكونَ أَفْعَلُ فيها بمعنى تَفاعَلَ فتَتََّحِدَ القراءتان . وقيل : أَدْرَكَ بمعنى بَلَغَ وانتهى . وقرأ سليمان وعطاء ابنا يَسار " بلَ ادَّرَكَ " بفتحِ لامِ " بل " وتشديد الدالِ دونَ ألفٍ بعدَها . وتخريجُها : أنَّ الأصلَ ادَّرك على وزن افْتَعَل فأُبْدِلَتْ تاءُ الافتعالِ دالاً لوقوعِها بعد الدال . قال الشيخ : " فصار فيه قَلْبُ الثاني للأولِ كقولِهم : اثَّرَدَ ، وأصلُه اثْتَرَدَ من الثَّرْدِ " . انتهى . قلت : ليس هذا مما قُلِب فيه الثاني للأولِ لأجلِ الإِدغام ك اثَّرَدَ في اثْتَرَدَ ؛ لأنَّ تاءَ الافتعال تُبدَلُ دالاً بعد أحرفٍ منها الدالُ نحو : ادَّان في افْتَعَل من الدَّيْن فالإِبدالُ لأجلِ كونِ الدالِ فاءً لا للإِدغام ، فليس مثلَ اثَّرَدَ في شيءٍ فتأمَّلْه فإنه حَسَنٌ . فلمَّا أُدْغِمَت الدالُ في الدال أُدْخِلَتْ همزةُ الاستفهامِ فسقَطَتْ همزةُ الوصلِ فصار اللفظُ " أَدْرَكَ " بهمزةِ قطعٍ مفتوحةٍ ، ثم نُقِلَتْ حركةُ هذه الهمزةِ إلى لامِ " بل " فصار اللفظ : " بَلَ دَّرَكَ " .

وقرأ أبو رجاءٍ وشيبةٌ والأعمشُ والأعرجُ وابنُ عباس ، وتُرْوى عن عاصم كذلك ، إلاَّ أنَّه بكسرِ لام " بل " على أصلِ التقاءِ الساكنين ، فإنهم لم يَأْتوا بهمزةِ استفهامٍ .

وقرأ عبد الله وابن عباس والحسن وابن محيصن " أادْرَكَ " بهمزةٍ ثم ألفٍ بعدَها . وأصلُها همزتان أُبْدِلَتْ ثانيتُهما ألفاً تخفيفاً . وأنكرها أبو عمرٍو . قلت : وقد تقدَّم أولَ البقرةِ أنه قُرىءُ " أَانْذَرْتَهم " بألفٍ صريحةٍ فلهذه بها أسوةٌ . وقال أبو حاتم : " لا يجوزُ الاستفهامُ بعد " بل " لأنَّ " بل " إيجاب ، والاستفهامُ في هذا الموضعِ إنكارٌ بمعنى : لم يكن ، كقولِه تعالى { أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ } [ الزخرف : 19 ] أي : لَم يَشْهدوا ، فلا يَصِحُّ وقوعُهما معاً للتنافي الذي بين الإِيجاب والإِنكارِ " . قلت : وفي منع هذا نظرٌ ؛ لأنَّ " بل " لإِضرابِ الانتقالِ ، فقد أضربَ عن الكلامِ الأولِ ، وأَخَذَ في استفهامِ ثانٍ . وكيف يُنْكَرُ هذا والنَّحْويون يُقَدِّرون " أم " المنقطعةَ ب بل والهمزة ؟ وعجِبْتُ من الشيخِ كيف قال هنا : " وقد أجاز بعضُ المتأخرين الاستفهامَ بعد " بل " وشبهه ؟ يقول القائل : " أخبزاً أكلْتَ ، بل أماءً شرِبْتَ " على تَرْكِ الكلامِ الأولِ والأَخْذِ في الثاني " .

انتهى فتخصيصُه ببعضِ المتأخرين يُؤْذِنُ أن المتقدِّمينَ وبعضَ المتأخرين يمنعونه ، وليس كذلك لِما حَكَيْتُ عنهم في " أم " المنقطعةِ .

وقرأ ابنُ مسعودٍ " بل أَأَدْرَكَ " بتحقيقِ الهمزتين . وقرأ ورش في رواية " بلَ ادْرَكَ " بالنقل . وقرأ ابنُ عباس أيضاً " بلى ادْرَك " بحرف الإِيجاب أختِ نَعَم . و " بَلى آأَدْرك " بألفٍ بين الهمزتين . وقرأ أُبَيٌّ ومجاهد " أم " بدلَ " بل " وهي مخالفةٌ للسَّواد .

قوله : { فِي الآخِرَةِ } فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّ " في " على بابها و " أَدْرَك " وإن كان ماضياً لفظاً فهو مستقبلٌ معنىً ؛ لأنه كائنٌ قطعاً كقوله : { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ } [ النحل : 1 ] وعلى هذا ف " في " متعلقٌ ب " ادَّاركَ " . والثاني : أنَّ " في " بمعنى الباء أي بالآخرة . وعلى هذا فيتعلَّق بنفسِ عِلْمِهم كقولِك : " عِلْمي بزيدٍ كذا " . وأمَّا قراءةُ مَنْ قرأ " بلى " فقال الزمخشري : " لَمَّا جاء ب " بَلَى " بعد قولِه : { وَمَا يَشْعُرُونَ } كان مَعْناه : " بلى يَشْعْرون " ثم فَسَّر/ الشعورَ بقولِه { أَدْرَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ } على سبيلِ التهكمِ الذي معناه المبالغةُ في نَفْي العلمِ " ثم قال : و " أمَّا قراءةُ " بلى أَأَدْرك " على الاستفهامِ فمعناه : بلى يَشْعُرون متى يُبْعثون . ثم أنكر علمَهم بكونِها ، وإذا أنكر علمَهم بكونِها لم يتحصَّلْ لهم شعورٌ بوقتِ كونِها ؛ لأنَّ العلمَ بوقتِ الكائنِ تابعٌ للعلم بكونِ الكائنِ " ثم قال : " فإنْ قلتَ ما معنى هذه الإِضراباتِ الثلاثةِ ؟ قتل : ما هي إلاَّ تنزيلٌ لأحوالِهم ، وَصَفَهم أولاً بأنهم لا يَشْعُرون وقتَ البعثِ ثم بأنَّهم لا يعلمون أنَّ القيامةَ كائنةٌ ثم بأنَّهم يَخْبِطُون في شكٍّ ومِرْيَة " . انتهى .

فإنْ قِيل : " عَمِيَ " يتعَدَّى ب " عن " تقول : عَمِيَ فلانٌ عن كذا فلِمَ عُدِّيَ ب " مِنْ " في قولِه : " مِنْها عَمُوْن " ؟ فالجوابُ : أنه جَعَلَ الآخرةَ مَبْدأ عَماهم ومَنْشَأَه .