144- ولقد رأينا كيف كنت تتطلع إلى السماء عسى أن ينزل الوحي بتغيير قبلة بيت المقدس إلى الكعبة التي تحبها لأنها قبلة إبراهيم أبى الأنبياء ، وأبى اليهود والعرب ، وبها مقام إبراهيم ، فهي - لهذا - القبلة الجامعة وإن كانت تخالف قبلة اليهود ، فها نحن أولاء نؤتيك سؤلك فاستقبل في صلاتك المسجد الحرام ، واستقبلوه كذلك أيها المؤمنون في أي مكان تكونون ، وإن أهل الكتاب الذين ينكرون عليكم التحول عن قبلة بيت المقدس قد عرفوا في كتبهم أنكم أهل الكعبة ، وعلموا أن أمر الله جار على تخصيص كل شريعة بقبلة ، وأن هذا هو الحق من ربهم ، ولكنهم يريدون فتنتكم وتشكيككم في دينكم ، والله ليس غافلا عنهم وهو يجزيهم بما يعملون .
بعد ذلك يعلن استجابة الله لرسوله [ ص ] في أمر القبلة ؛ ويعلن عن هذه القبلة مع تحذير المسلمين من فتنة يهود ، وكشف العوامل الحقيقية الكامنة وراء حملاتهم ودسائسهم . . في صورة تكشف عن مدى الجهد الذي كان يبذل لإعداد تلك الجماعة المسلمة ، ووقايتها من البلبلة والفتنة :
قد نرى تقلب وجهك في السماء ، فلنولينك قبلة ترضاها ، فول وجهك شطر المسجد الحرام ، وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره . وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم ، وما الله بغافل عما يعملون . ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك ، وما أنت بتابع قبلتهم ، وما بعضهم بتابع قبلة بعض . ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين . الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون . الحق من ربك فلا تكونن من الممترين . ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات ، أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا ، إن الله على كل شيء قدير . ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام . وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون . ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام ، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ، لئلا يكون للناس عليكم حجة . إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ، ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون . .
وفي مطلع هذه الآيات نجد تعبيرا مصورا لحالة النبي [ ص ] :
( قد نرى تقلب وجهك في السماء ) . .
وهو يشي بتلك الرغبة القوية في أن يوجهه ربه إلى قبلة غير القبلة التي كان عليها . بعدما كثر لجاج اليهود وحجاجهم ؛ ووجدوا في اتجاه الجماعة المسلمة لقبلتهم وسيلة للتمويه والتضليل والبلبلة والتلبيس . . فكان [ ص ] يقلب وجهه في السماء ، ولا يصرح بدعاء ، تأدبا مع ربه ، وتحرجا أن يقترح عليه شيئا ، أو أن يقدم بين يديه شيئا .
ولقد إجابه ربه إلى ما يرضيه . والتعبير عن هذه الاستجابة يشي بتلك الصلة الرحيمة الحانية الودود :
ثم يعين له هذه القبلة التي علم - سبحانه - أنه يرضاها :
( فول وجهك شطر المسجد الحرام ) . .
قبلة له ولأمته . من معه منها ومن يأتي من بعده إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها :
( وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ) . .
من كل اتجاه ، في أنحاء الأرض جميعا . . قبلة واحدة تجمع هذه الأمة وتوحد بينها على اختلاف مواطنها ، واختلاف مواقعها من هذه القبلة ، واختلاف أجناسها وألسنتها وألوانها . . قبلة واحدة ، تتجه إليها الأمة الواحدة في مشارق الأرض ومغاربها . فتحس أنها جسم واحد ، وكيان واحد ، تتجه إلى هدف واحد ، وتسعى لتحقيق منهج واحد . منهج ينبثق من كونها جميعا تعبد إلها واحدا ، وتؤمن برسول واحد ، وتتجه إلى قبلة واحدة .
وهكذا وحد الله هذه الأمة . وحدها في إلهها ورسولها ودينها وقبلتها . وحدها على اختلاف المواطن والأجناس والألوان واللغات . ولم يجعل وحدتها تقوم على قاعدة من هذه القواعد كلها ؛ ولكن تقوم على عقيدتها وقبلتها ؛ ولو تفرقت في مواطنها وأجناسها وألوانها ولغاتها . . إنها الوحدة التي تليق ببني الإنسان ؛ فالإنسان يجتمع على عقيدة القلب ، وقبلة العبادة ، إذا تجمع الحيوان على المرعى والكلأ والسياج والحظيرة !
ثم . . ما شأن أهل الكتاب وهذه القبلة الجديدة ؟
( وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم ) . .
إنهم ليعلمون أن المسجد الحرام هو بيت الله الأول الذي رفع قواعده إبراهيم . جد هذه الأمة الوارثة وجد المسلمين أجمعين . وإنهم ليعلمون أن الأمر بالتوجه إليه حق من عند الله لا مرية فيه . .
ولكنهم مع هذا سيفعلون غير ما يوحيه هذا العلم الذي يعلمونه . فلا على المسلمين منهم ؛ فالله هو الوكيل الكفيل برد مكرهم وكيدهم :
( وما الله بغافل عما يعملون ) . .
إنهم لن يقتنعوا بدليل ، لأن الذي ينقصهم ليس هو الدليل ؛ إنما هو الإخلاص والتجرد من الهوى ، والاستعداد للتسليم بالحق حين يعلمونه :
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : كان أوَّل ما نُسخَ من القرآن القبلة ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجرَ إلى المدينة ، وكان أكثر أهلها اليهود ، فأمره الله أن يستقبل بيت المقدس ، ففرحت اليهود ، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضْعَةَ عَشَرَ شهرًا ، وكان يحب قبلة إبراهيم فكان يدعو إلى الله وينظر إلى السماء ، فأنزل الله : { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ } إلى قوله : { فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } فارتاب من ذلك اليهود ، وقالوا : { مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ]{[2919]} } وقال : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } [ البقرة : 115 ] وقال الله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ }
وروى ابن مَرْدريه من حديث القاسم العُمَري ، عن عمه عُبيد الله بن عمر ، عن داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم من صلاته إلى بيت المقدس رفع رأسه إلى السماء فأنزل الله : { فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } إلى الكعبة إلى الميزاب ، يَؤُم به جبرائيل{[2920]} عليه السلام .
وروى الحاكم ، في مستدركه ، من حديث شعبة عن يعلى بن عطاء ، عن يحيى بن قمطة قال : رأيت عبد الله بن عمرو{[2921]} جالسا في المسجد الحرام ، بإزاء الميزاب ، فتلا هذه الآية : { فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } قال : نحو ميزاب الكعبة .
ثم قال : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه{[2922]} .
ورواه ابن أبي حاتم ، عن الحسن بن عرفة ، عن هُشَيْم ، عن يعلى بن عطاء ، به .
وهكذا قال غيره ، وهو أحد قولي الشافعي ، رحمه الله : إن الغرض إصابة عين القبلة . والقول الآخر وعليه الأكثرون : أن المراد المواجهة{[2923]} كما رواه الحاكم من حديث محمد بن{[2924]} إسحاق ، عن عمير بن زياد الكندي ، عن علي ، رضي الله عنه ، { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } قال : شطره : قبله . ثم قال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه .
وهذا قول أبي العالية ، ومجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جُبَير ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، وغيرهم . وكما تقدم في الحديث الآخر : ما بين المشرق والمغرب قبلة .
[ وقال القرطبي : روى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما بين المشرق والمغرب قبلة لأهل المسجد ، والمسجد قبلة لأهل الحرم ، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي {[2925]} " ]{[2926]} .
حدثنا زهير ، عن أبي إسحاق ، عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى قبلَ بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا ، وكان يعجبه قبلته قبل البيت وأنه صَلّى صلاة العصر ، وصلى معه قوم ، فخرج رجل ممن كان يصلي معه ، فمر على أهل المسجد وهم راكعون ، فقال : أشهد بالله لقد صَلّيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مكَّة ، فداروا كما هم قبل البيت{[2927]} .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء [ قال ]{[2928]} لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحِب أن يحوَّل نحو الكعبة ، فنزلت : { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ]{[2929]} } فصرف إلى الكعبة .
وروى النسائي عن أبي سعيد بن المعلى قال : كنا نَغْدُو إلى المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنمر على المسجد فنصلي فيه ، فمررنا يومًا - ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر - فقلت : لقد حَدث أمر ، فجلست ، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } حتى فرغ من الآية . فقلت لصاحبي : تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكون أول من صلى ، فتوارينا فصليناهما . ثم نزل النبي صلى الله عليه وسلم فصلى للناس الظهر يومئذ{[2930]} .
وكذا روى ابن مَرْدويه ، عن ابن عمر : أن أول صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة صَلاةُ الظهر ، وأنها الصلاة الوُسطى . والمشهور أن أول صلاة صلاها إلى الكعبة صلاة العصر ، ولهذا تأخر الخبر عن أهل قباء إلى صلاة الفجر .
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه : حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا الحسين بن إسحاق التَّسْتَري ، حدثنا رجاء بن محمد السقطي ، حدثنا إسحاق بن إدريس ، حدثنا إبراهيم بن جعفر ، حدثني أبي ، عن جدته أم أبيه نُوَيلة بنت مسلم ، قالت : صَلَّينا الظهر - أو العصر{[2931]} - في مسجد بني حارثة ، فاستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا ركعتين ، ثم جاء مَنْ يحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت الحرام ، فتحول النساءُ مكان{[2932]} الرجال ، والرجالُ مكان{[2933]} النساء ، فصلينا السجدتين الباقيتين ، ونحن مستقبلون{[2934]} البيت الحرام . فحدثني رجل من بني حارثة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أولئك رجال يؤمنون بالغيب " {[2935]} .
وقال ابن مردويه أيضًا : حدثنا محمد بن علي بن دُحَيْم ، حدثنا أحمد بن حازم ، حدثنا مالك بن إسماعيل النهدي ، حدثنا قيس ، عن زياد بن علاقة ، عن عُمَارة بن أوس قال : بينما نحن في الصلاة نحو بيت المقدس ، ونحن ركوع ، إذ أتى مناد بالباب : أن القبلة قد حُوِّلت إلى الكعبة . قال : فأشهد على إمامنا أنه انحرف فتحوَّل هو والرِّجال والصبيان ، وهم ركوع ، نحو الكعبة{[2936]} .
وقوله : { وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } أمَرَ تعالى باستقبال الكعبة من جميع جهات الأرض ، شرقًا وغربًا وشمالا وجنوبًا ، ولا يستثنى من هذا شَيء ، سوى النافلة في حال السفر ، فإنه يصليها حيثما توجه قَالبُه ، وقَلْبُه نحو الكعبة . وكذا في حال المسايفة في القتال يصلي على كل حال ، وكذا من جهل جهة القبلة يصلي باجتهاده ، وإن كان مخطئًا في نفس الأمر ، لأن الله تعالى لا يكلف نفسًا إلا وسعها .
مسألة : وقد استدل المالكية بهذه الآية على أن المصلي ينظر أمامه لا إلى موضع سجوده كما ذهب إليه الشافعي وأحمد وأبو حنيفة ، قال المالكية لقوله : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } فلو نظر إلى موضع سجوده لاحتاج أن يتكلف ذلك بنوع من الانحناء وهو ينافي كمال القيام . وقال بعضهم : ينظر المصلي في قيامه إلى صدره . وقال شريك القاضي : ينظر في حال قيامه إلى موضع سجوده كما قال جمهور الجماعة ، لأنه أبلغ في الخضوع وآكد في الخشوع وقد ورد به الحديث ، وأما في حال ركوعه فإلى موضع قدميه ، وفي حال سجوده إلى موضع أنفه وفي حال قعوده إلى حجره .
وقوله : { وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ } أي : واليهودُ - الذين أنكروا استقبالكم الكعبة وانصرافكم عن بيت المقدس - يعلمون أن الله تعالى سَيُوجهك إليها ، بما في كتبهم عن أنبيائهم ، من النعت والصفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأمَّته ، وما خصه الله تعالى به وشَرفه من الشريعة الكاملة العظيمة ، ولكن أهل الكتاب يتكاتمون ذلك بينهم حسدًا وكفرًا وعنادًا ؛ ولهذا يهددهم تعالى بقوله : { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ }{[2937]} .