كذلك قال له قومه : فكان رده جملة واحدة ، تحمل شتى معاني الفساد والإفساد :
( قال : إنما أوتيته على علم عندي ) !
إنما أوتيت هذا المال استحقاقا على علمي الذي طوع لي جمعه وتحصيله . فما لكم تملون علي طريقة خاصة في التصرف فيه ، وتتحكمون في ملكيتي الخاصة ، وأنا إنما حصلت هذا المال بجهدي الخاص ، واستحققته بعلمي الخاص ?
إنها قولة المغرور المطموس الذي ينسى مصدر النعمة وحكمتها ، ويفتنه المال ويعميه الثراء .
وهو نموذج مكرر في البشرية . فكم من الناس يظن أن علمه وكده هما وحدهما سبب غناه . ومن ثم فهو غير مسؤول عما ينفق وما يمسك ، غير محاسب على ما يفسد بالمال وما يصلح ، غير حاسب لله حسابا ، ولا ناظر إلى غضبه ورضاه !
والإسلام يعترف بالملكية الفردية ، ويقدر الجهد الفردي الذي بذل في تحصيلها من وجوه الحلال التي يشرعها ؛ ولا يهون من شأن الجهد الفردي أو يلغيه . ولكنه في الوقت ذاته يفرض منهجا معينا للتصرف في الملكية الفردية - كما يفرض منهجا لتحصيلها وتنميتها - وهو منهج متوازن متعادل ، لا يحرم الفرد ثمرة جهده ، ولا يطلق يده في الاستمتاع به حتى الترف ولا في إمساكه حتى التقتير ؛ ويفرض للجماعة حقوقها في هذا المال ، ورقابتها على طرق تحصيله ، وطرق تنميته . وطرق إنفاقه والاستمتاع به . وهو منهج خاص واضح الملامح متميز السمات .
ولكن قارون لم يستمع لنداء قومه ، ولم يشعر بنعمة ربه ، ولم يخضع لمنهجه القويم . وأعرض عن هذا كله في استكبار لئيم وفي بطر ذميم .
ومن ثم جاءه التهديد قبل تمام الآية ، ردا على قولته الفاجرة المغرورة :
( أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ? ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون ) .
فإن كان ذا قوة وذا مال ، فقد أهلك الله من قبله أجيالا كانت أشد منه قوة وأكثر مالا . وكان عليه أن يعلم هذا . فهذا هو العلم المنجي . فليعلم . وليعلم أنه هو وأمثاله من المجرمين أهون على الله حتى من أن يسألهم عن ذنوبهم . فليسوا هم الحكم ولا الأشهاد !
يقول تعالى مخبرًا عن جواب قارون لقومه ، حين نصحوه وأرشدوه إلى الخير { قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } أي : أنا لا أفتقر إلى ما تقولون ، فإن الله تعالى إنما أعطاني هذا المال لعلمه بأني أستحقه ، ولمحبته لي فتقديره : إنما أعطيته لعلم الله فيّ أني أهل له ، وهذا كقوله تعالى : { فَإِذَا{[22408]} مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ } [ الزمر : 49 ] أي : على علم من الله بي ، وكقوله تعالى : { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي } [ فصلت : 50 ] أي : هذا أستحقه .
وقد رُوي عن بعضهم أنه أراد : { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } أي : إنه كان يعاني علم الكيمياء : وهذا القول ضعيف ؛ لأن علم الكيمياء في نفسه علم باطل ؛ لأن قلب الأعيان لا يقدر أحد عليها إلا الله عز وجل ، قال الله : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ } [ الحج : 73 ] ، وفي الصحيح عن النبي{[22409]} صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يقول الله تعالى : ومَنْ أظلم مِمَّنْ ذهب يخلق كخلقي ، فليخلقوا ذرة ، فليخلقوا شعيرة " {[22410]} . وهذا ورد في المصورين الذين يشبهون بخلق الله في مجرد الصورة الظاهرة أو الشكل ، فكيف بِمَنْ يدعي أنه يحيل ماهية هذه الذات إلى ماهية ذات أخرى ، هذا زور ومحال ، وجهل وضلال . وإنما يقدرون على الصبغ في الصورة الظاهرة ، وهو كذب وزغل وتمويه ، وترويج أنه صحيح في نفس الأمر ، وليس كذلك قطعًا لا محالة ، ولم يثبت بطريق شرعي أنه صح مع أحد من الناس من هذه الطريقة التي يتعاناها هؤلاء الجهلة الفسقة الأفاكون فأما ما يجريه الله تعالى{[22411]} من خَرْق العوائد على يدي بعض الأولياء من قلب بعض الأعيان ذهبًا أو فضة أو نحو ذلك ، فهذا أمر لا ينكره مسلم ، ولا يرده مؤمن ، ولكن هذا ليس من قبيل الصناعات وإنما هذا عن مشيئة رب الأرض والسموات ، واختياره وفعله ، كما روي عن حَيْوة بن شُرَيح المصري ، رحمه الله ، أنه سأله سائل ، فلم يكن عنده ما يعطيه ، ورأى ضرورته ، فأخذ حصاة من الأرض فأجالها في كفه ، ثم ألقاها إلى ذلك السائل فإذا هي ذهب أحمر . والأحاديث والآثار [ في هذا ]{[22412]} كثيرة جدًّا يطول ذكرها .
وقال بعضهم : إن قارون كان يعلم الاسم الأعظم ، فدعا الله به ، فتموّل بسببه . والصحيح المعنى الأول ؛ ولهذا قال الله تعالى - رادًّا عليه فيما ادعاه من اعتناء الله به فيما أعطاه من المال { أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا } أي : قد كان من هو أكثر منه مالا وما كان ذلك عن محبة منا له ، وقد أهلكهم الله مع ذلك بكفرهم وعدم شكرهم ؛ ولهذا قال : { وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ } أي : لكثرة ذنوبهم .
قال قتادة : { عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } : على خير عندي .
وقال السدي : على علم أني أهل لذلك .
وقد أجاد في تفسير هذه الآية الإمام عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، فإنه قال في قوله : { قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } قال : لولا رضا الله عني ، ومعرفته بفضلي ما أعطاني هذا المال ، وقرأ { أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ } [ وهكذا يقول مَنْ قل علمه إذا رأى مَنْ وسع الله عليه يقول : لولا أنه يستحق ذلك لما أعطي ]{[22413]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.