77- ألم تنظر يا محمد فتعجب إلى الذين رغبوا في القتال قبل أن يجئ الإذن به فقيل لهم : لم يأت وقت القتال ، فكفوا أيديكم عنه ، واحرصوا على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، فلما فرض اللَّه عليهم القتال إذا طائفة منهم يخافون الناس كخوف اللَّه أو أشد وقالوا مستغربين : لِمَ كتبت علينا القتال ؟ متوهمين أن في فرضية القتال تعجيلاً لآجالهم ولذلك قالوا : هلاًّ أخرتنا إلى زمن قريب نستمتع فيه بما في الدنيا ؟ فقل لهم : تقدموا للقتال ولو أدى إلى استشهادكم ، فمتاع الدنيا مهما عَظُمَ قليل بجوار متاع الآخرة ، والآخرة خير وأعظم لمن اتقى اللَّه وستجزون على أعمالكم في الدنيا ولا تنقصون من الجزاء شيئا مهما صغر .
إن السياق يمضي - بعد هذا - إلى التعجيب من أمر طائفة أو أكثر من المسلمين - قيل إن بعضهم من المهاجرين ، الذين كانت تشتد بهم الحماسة - وهم في مكة يلقون الأذى والاضطهاد - ليؤذن لهم في قتال المشركين . حيث لم يكن مأذونا لهم - بعد في قتال ، للحكمة التي يعلمها الله ؛ والتي قد نصيب طرفا من معرفتها فيما سنذكره بعد . . فلما كتب عليهم القتال ، بعد أن قامت للإسلام دولة في المدينة ، وعلم الله أن في هذا الإذن خيرا لهم وللبشرية . . إذا هم - كما يصورهم القرآن –
( يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية ! وقالوا : ربنا لم كتبت علينا القتال ! لولا أخرتنا إلى أجل قريب ) ممن إذا أصابهم الحسنة قالوا : هذه من عند الله . وإن أصابتهم السيئة قالوا للرسول [ ص ] : هذه من عندك . وممن يقولون : طاعة حتى إذا خرجوا من عند الرسول [ ص ] بيت طائفة منهم غير الذي تقول ) . وممن إذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به . . .
يمضي السياق ليعجب من شأن هؤلاء ، في الأسلوب القرآني ؛ الذي يصور حالة النفس ، كما لو كانت مشهدا يرى ويحس ! ويصحح لهم - ولغيرهم - سوء التصور والإدراك لحقائق الموت والحياة ، والأجل والقدر ، والخير والشر ، والنفع والضرر ، والكسب والخسارة ، والموازين والقيم ؛ ويبين لهم حقائقها في أسلوب يصور الحقائق في صورتها الموحية المؤثرة :
( ألم تر إلى الذين قيل لهم : كفوا أيديكم ، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة . فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية . وقالوا : ربنا لم كتبت علينا القتال ؟ لولا أخرتنا إلى أجل قريب ؟ قل : متاع الدنيا قليل ، والآخرة خير لمن اتقى ، ولا تظلمون فتيلا . أينما تكونوا يدرككم الموت . ولو كنتم في بروج مشيدة . وإن تصبهم حسنة يقولوا : هذه من عند الله . وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك . قل : كل من عند الله . فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ؟ ما أصابك من حسنة فمن الله . وما أصابك من سيئة فمن نفسك . وأرسلناك للناس رسولا ، وكفى بالله شهيدا . من يطع الرسول فقد أطاع الله ؛ من تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا ) .
( ويقولون : طاعة . فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول - والله يكتب ما يبيتون - فأعرض عنهم ، وتوكل على الله ، وكفى بالله وكيلا . أفلا يتدبرون القرآن ؟ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) .
( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به . ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم . . ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ) . .
هؤلاء الذين تتحدث عنهم هذه المجموعات الأربع من الآيات ؛ قد يكونون هم أنفسهم الذين تحدثت عنهم مجموعة سابقة في هذا الدرس : ( وإن منكم لمن ليبطئن ) . . الآيات . . ويكون الحديث كله عن تلك الطائفة من المنافقين ؛ التي تصدر منها هذه الأعمال وهذه الأقوال كلها .
وقد كدنا نرجح هذا الرأي ؛ لأن ملامح النفاق واضحة ، فيما تصفه هذه المجموعات كلها . وصدور هذه الأعمال وهذا الأقوال عن طوائف المنافقين في الصف المسلم ، أمر أقرب إلى طبيعتهم ، وإلى سوابقهم كذلك . وطبيعة السياق القرآني شديدة الالتحام بين الآيات جميعا . .
ولكن المجموعة الأولى من هذه المجموعات التي تتحدث عن الذين : [ قيل لهم : كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة . فلما كتب عليهم القتال . . الآيات ] هي التي جعلتنا نتردد في اعتبار الآيات كلها حديثا عن المنافقين - وإن بدت فيها صفات المنافقين وبدت فيها لحمة السياق واستطراده - وجعلتنا نميل إلى اعتبار هذه المجموعة واردة في طائفة من المهاجرين - ضعاف الإيمان غير منافقين - والضعف قريب الملامح من النفاق - وأن كل مجموعة أخرى من هذه المجموعات الأربع ربما كانت تصف طائفة بعينها من طوائف المنافقين ، المندسين في الصف المسلم . وربما كلها وصفا للمنافقين عامة ؛ وهي تعدد ما يصدر عنهم من أقوال وأفعال .
والسبب في وقوفنا هذا الموقف أمام آيات المجموعة الأولى ؛ وظننا أنها تصف طائفة من المهاجرين الضعاف الإيمان ؛ أو الذين لم ينضج بعد تصورهم الإيماني ؛ ولم تتضح معالم الاعتقاد في قلوبهم وعقولهم . .
السبب هو أن المهاجرين هم الذين كان بعضهم تأخذه الحماسة والاندفاع ، لدفع أذى المشركين - وهم في مكة - في وقت لم يكن مأذونا لهم في القتال - فقيل لهم : ( كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ) . .
وحتى لو أخذنا في الاعتبار ما عرضه أصحاب بيعة العقبة الثانية الاثنان والسبعون على النبي [ ص ] من ميلهم على أهل منى - أي قتلهم - لو أمرهم الرسول [ ص ] ورده عليهم : " إننا لم نؤمر بقتال " . . فإن هذا لا يجعلنا ندمج هذه المجموعة من السابقين من الأنصار - أصحاب بيعه العقبة - في المنافقين ، الذين تتحدث عنهم بقية الآيات . ولا في الضعاف الذين تصفهم المجموعة الأولى . فإنه لم يعرف عن هؤلاء الصفوة نفاق ولا ضعف ؛ رضي الله عنهم جميعا .
فأقرب الاحتمالات هو أن تكون هذه المجوعة واردة في بعض من المهاجرين ، الذين ضعفت نفوسهم - وقد أمنوا في المدينة وذهب عنهم الأذى - عن تكاليف القتال . . وألا تكون بقية الأوصاف واردة فيهم ، بل في المنافقين . لأنه يصعب علينا - مهما عرفنا من ظواهر الضعف البشري - أن نسم أي مهاجر من هؤلاء السابقين بسمة رد السيئة إلى الرسول [ ص ] دون الحسنة ! أو قول الطاعة وتبييت غيرها . . وإن كنا لا نستبعد أن توجد فيهم صفة الإذاعة بالأمر من الأمن أو الخوف . لأن هذه قد تدل على عدم الدربة على النظام ، ولا تدل على النفاق . .
والحق . . أننا نجد أنفسنا - أمام هذه الآيات كلها - في موفق لا نملك الجزم فيه بشيء . والروايات الواردةعنها ليس فيها جزم كذلك بشيء . . حتى في آيات المجموعة الأولى . التي ورد أنها في طائفة من المهاجرين ؛ كما ورد أنها في طائفة من المنافقين !
ومن ثم نأخذ بالأحوط ؛ في تبرئة المهاجرين من سمات التبطئة والانخلاع مما يصيب المؤمنين من الخير والشر . التي وردت في الآيات السابقة . ومن سمة إسناد السيئه للرسول [ ص ] دون الحسنة ، ورد هذه وحدها إلى الله ! ومن سمة تبييت غير الطاعة . . وإن كانت تجزئة سياق الآيات على هذا النحو ليست سهلة على من يتابع السياق القرآني ، ويدرك - بطول الصحبة - طريقة التعبير القرآنية ! ! ! والله المعين .
( ألم تر إلى الذين قيل لهم : كفوا أيديكم ، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة . . فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية . وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال ؟ لولا أخرتنا إلى أجل قريب ! قل : متاع الدنيا قليل . والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا ً . أينما تكونوا يدرككم الموت ، ولو كنتم في بروج مشيدة ) . . .
يعجب الله - سبحانه - من أمر هؤلاء الناس ؛ الذين كانوا يتدافعون حماسة إلى القتال ويستعجلونه وهم في مكة ، يتلقون الأذى والاضطهاد والفتنة من المشركين . حين لم يكن مأذونا لهم في القتال للحكمة التي يريدها الله . فلما أن جاء الوقت المناسب الذي قدرة الله ؛ وتهيأت الظروف المناسبة وكتب عليهم القتال - في سبيل الله - إذا فريق منهم شديد الجزع ، شديد الفزع ، حتى ليخشى الناس الذين أمروا بقتالهم - وهم ناس من البشر - كخشية الله ؛ القهار الجبار ، الذي لا يعذب عذابه أحد ، ولا يوثق وثاقه أحد . . ( أو أشد خشية ) ! ! وإذا هم يقولون - في حسرة وخوف وجزع - ( ربنا لم كتبت علينا القتال ؟ ) . . وهو سؤال غريب من مؤمن . وهو دلالة على عدم وضوح تصوره لتكاليف هذا الدين ؛ ولوظيفة هذا الدين أيضا . . ويتبعون ذلك التساؤل ، بأمنية حسيرة مسكينة ! ( لولا أخرتنا إلى أجل قريب ) وأمهلتنا بعض الوقت ، قبل ملاقاة هذا التكليف الثقيل المخيف !
إن أشد الناس حماسة واندفاعا وتهورا ، قد يكونون هم أشد الناس جزعا وانهيارا وهزيمة عندما يجد الجد ، وتقع الواقعة . . بل إن هذه قد تكون القاعدة ! ذلك أن الاندفاع والتهور والحماسة الفائقة غالبا ما تكون منبعثة عن عدم التقدير لحقيقة التكاليف . لا عن شجاعة واحتمال وإصرار . كما أنها قد تكون منبعثة عن قلة الاحتمال . قلة احتمال الضيق والأذى والهزيمة ؛ فتدفعهم قلة الاحتمال ، إلى طلب الحركة والدفع والانتصار بأي شكل . دون تقدير لتكاليف الحركة والدفع والانتصار . . حتى إذا ووجهوا بهذه التكاليف كانت أثقل مما قدروا ، وأشق مما تصوروا . فكانوا أول الصف جزعا ونكولا وانهيارا . . على حين يثبت أولئك الذين كانوا يمسكون أنفسهم ، ويحتملون الضيق والأذى بعض الوقت ؛ ويعدون للأمر عدته ، ويعرفون حقيقة تكاليف الحركة ، ومدى احتمال النفوس لهذه التكاليف . فيصبرون ويتمهلون ويعدون للأمر عدته . . والمتهورون المندفعون المستحمسون يحسبونهم إذا ذاك ضعافا ، ولا يعجبهم تمهلهم ووزنهم للأمور ! وفي المعركة يتبين أي الفريقين أكثر احتمالا ؛ وأي الفريقين أبعد نظرا كذلك !
وأغلب الظن أن هذا الفريق الذي تعنيه هذه الآيات كان من ذلك الصنف ، الذي يلذعه الأذى في مكة فلا يطيقه ؛ ولا يطيق الهوان وهو ذو عزة . فيندفع يطلب من الرسول [ ص ] أن يأذن له بدفع الأذى ، أو حفظ الكرامة . والرسول [ ص ] يتبع في هذا أمر ربه بالتريث والانتظار ، والتربيةوالإعداد ، وارتقاب الأمر في الوقت المقدر المناسب . فلما أن أمن هذا الفريق في المدينة ؛ ولم يعد هناك أذى ولا إذلال ، وبعد لسع الحوادث عن الذوات والأشخاص ؛ لم يعد يرى للقتال مبررا ؛ أو على الأقل لم يعد يرى للمسارعة به ضرورة !
( فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية ، وقالوا : ربنا لم كتبت علينا القتال ؟ لولا أخرتنا إلى أجل قريب ! ) .
وقد يكون هذا الفريق مؤمنا فعلا . بدليل اتجاههم إلى الله في ضراعة وأسى ! وهذه الصورة ينبغي أن تكون في حسابنا . فالإيمان الذي لم ينضج بعد ؛ والتصور الذي لم تتضح معالمه ؛ ولم يتبين صاحبه وظيفة هذا الدين في الأرض - وأنها أكبر من حماية الأشخاص ، وحماية الأقوام ، وحماية الأوطان ، إذ أنها في صميمها إقرار منهج الله في الأرض ، وإقامة نظامه العادل في ربوع العالم ؛ وإنشاء قوة عليا في هذه الأرض ذات سلطان ، يمنع أن تغلق الحدود دون دعوة الله ؛ ويمنع أن يحال بين الأفراد والاستماع للدعوة في أي مكان على سطح الأرض ؛ ويمنع أن يفتن أحد من الأفراد عن دينه إذا هو اختاره بكامل حريته - بأي لون من ألوان الفتنة - ومنها أن يطارد في رزقه أو في نشاطه حيث هو - وهذه كلها مهام خارجة عن وقوع أذى على أشخاص بعينهم أو عدم وقوعه . . وإذن فلم يكن الأمن في المدينة - حتى على فرض وجوده كاملا غير مهدد - لينهي مهمة المسلمين هناك ؛ وينهى عن الجهاد !
الإيمان الذي لم ينضج بعد ليبلغ بالنفس إلى إخراج ذاتها من الأمر ؛ والاستماع فقط إلى أمر الله وأعتباره هو العلة والمعلول ، والسبب والمسبب ، والكلمة الأخيرة - سواء عرف المكلف حكمتها أم لم تتضح له - والتصور الذي لم تتضح معالمه بعد ليعرف المؤمن مهمة هذا الدين في الأرض ؛ ومهمته هو - المؤمن - بوصفه قدرا من قدر الله ، ينفذ به الله ما يشاؤه في هذه الحياة . . لا جرم ينشأ عنه مثل هذا الموقف ، الذي يصوره السياق القرآني هذا التصوير ؛ ويعجب منه هذا التعجيب ! وينفر منه هذا التنفير .
فأما لماذا لم يأذن الله للمسلمين - في مكة - بالانتصار من الظلم ؛ والرد على العدوان ؛ ودفع الأذى بالقوة . . وكثيرون منهم كان يملك هذا ؛ فلم يكن ضعيفا ولا مستضعفا ولم يكن عاجزا عن رد الصاع صاعين . . مهما يكن المسلمون في ذلك الوقت قلة . .
أما حكمة هذا ، والأمر بالكف عن القتال ، وأقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، والصبر والاحتمال . . حتى وبعض المسلمين يلقى من الأذى والعذاب ما لا يطاق ، وبعضهم يتجاوز العذاب طاقته ؛ فيفتن عن دينه . وبعضهم لا يحتمل الاستمرار في العذاب فيموت تحت وطأته . .
أما حكمة هذا فلسنا في حل من الجزم بها . لأننا حينئذ نتألى على الله ما لم يبين لنا من حكمة ؛ ونفرض على أوامره أسبابا وعللا ، قد لا تكون هي الأسباب والعلل الحقيقية . أو قد تكون ، ولكن يكون وراءها أسباب وعلل أخرى لم يكشف لنا عنها ، ويعلم - سبحانه - أن فيها الخير والمصلحة . . وهذا هو شأن المؤمن أمام أي تكليف . أو أي حكم في شريعة الله - لم يبين الله سببه محددا جازما حاسما - فمهما خطر له من الأسباب والعلل لهذا الحكم أو لذلك التكليف ؛ أو لكيفية تنفيذ هذا الحكم أو طريقة أداء ذلك التكليف ، مما يدركه عقله ويحسن فيه . . فينبغي أن يعتبر هذا كله مجرد احتمال . ولا يجزم - مهما بلغت ثقته بعلمه وعقله وتدبره لأحكام الله - بأن ما رآه هو حكمة ؛ هو الحكمة التي أرادها الله . . نصا . . وليس وراءها شيء ، وليس من دونها شيء ! فذلك التحرج هو مقتضى الأدب الواجب مع الله . ومقتضى ما بين علم الله ومعرفة الإنسان من اختلاف فيالطبيعة والحقيقة .
وبهذا الأدب الواجب نتناول حكمة عدم فرض الجهاد في مكة وفرضيته في المدينة . . نذكر ما يتراءى لنا من حكمة وسبب . . على أنه مجرد احتمال . . وندع ما وراءه لله . لا نفرض على أمره أسبابا وعللا ، لا يعلمها إلا هو . . ولم يحددها هو لنا ويطلعنا عليها بنص صريح !
إنها أسباب . . اجتهادية . . تخطى ء وتصيب . وتنقص وتزيد . ولا نبغي بها إلا مجرد تدبر أحكام الله . وفق ما تظهره لنا الأحداث في مجرى الزمان :
" أ " ربما كان ذلك لأن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد ؛ في بيئة معينة ، لقوم معينين ، وسط ظروف معينة . ومن أهداف التربية والإعداد في مثل هذه البيئة بالذات ، تربية نفس الفرد العربي على الصبر على ما لا يصبر عليه عادة من الضيم يقع على شخصه أو على من يلوذون به . ليخلص من شخصه ، ويتجرد من ذاته ، ولا تعود ذاته ولا من يلوذون به ، محورا لحياة في نظره ، ودافع الحركة في حياته . . وتربيته كذلك على ضبط أعصابه ؛ فلا يندفع لأول مؤثر - كما هي طبيعته - ولا يهتاج لأول مهيج . ليتم الاعتدال في طبيعته وحركته . . وتربيته على أن يتبع مجتمعا منظما له قيادة يرجع إليها في كل أمر من أمور حياته ؛ ولا يتصرف إلا وفق ما تأمره - مهما يكن مخالفا لمألوفه وعادته - وقد كان هذا هو حجر الأساس في إعداد شخصية العربي ، لإنشاء " المجتمع المسلم " الخاضع لقيادة موجهة ؛ المترقي المتحضر ، غير الهمجي أو القبلي .
" ب " وربما كان ذلك أيضا ، لأن الدعوة السلمية أشد أثرا وأنفذ ، في مثل بيئة قريش ؛ ذات العنجهية والشرف ؛ والتي قد يدفعها القتال معها - في مثل هذه الفترة - إلى زيادة العناد وإلى نشأة ثارات دموية جديدة ، كثارات العرب المعروفة ، التي أثارت حرب داحس والغبراء ، وحرب البسوس - أعواما طويلة ، تفانت فيها قبائل برمتها - وتكون هذه الثارات الجديدة مرتبطة في أذهانهم وذكرياتهم بالإسلام . فلا تهدأ بعد ذلك أبدا . ويتحول الإسلام من دعوة ، إلى ثارات وذحول تنسى معها فكرته الأساسية ، وهو في مبدئه ، فلا تذكر أبدا !
" ج " وربما كان ذلك أيضا ، اجتنابا لإنشاء معركة ومقتلة في داخل كل بيت . فلم تكن هناك سلطة نظامية عامة ، هي التي تعذب المؤمنين وتفتنهم . إنما كان ذلك موكولا إلى أولياء كل فرد ، يعذبونه هم ويفتنونه و " يؤدبونه " ! ومعنى الإذن بالقتال - في مثل هذه البيئة - أن تقع معركة ومقتلة في كل بيت . . ثم يقال : هذا هو الإسلام ! ولقد قيلت حتى والإسلام يأمر بالكف عن القتال ! فقد كانت دعاية قريش في الموسم ، في أوساط العرب القادمين للحج والتجارة : إن محمدا يفرق بين الوالد وولده ؛ فوق تفريقه لقومه وعشيرته ! فكيف لو كان كذلك يأمر الولد بقتل الوالد ، والمولى بقتل الولي . . في كل بيت وكل محلة ؟
" د " وربما كان ذلك أيضا ، لما يعلمه الله من أن كثيرين من المعاندين الذين يفتنون أوائل المسلمين عن دينهم ، ويعذبونهم ويؤذونهم ؛ هم بأنفسهم سيكونون من جند الإسلام المخلص ، بل من قادته . . ألم يكن عمر ابن الخطاب من بين هؤلاء ؟ !
" ه " وربما كان ذلك ، أيضا ، لأن النخوة العربية ، في بيئة قبلية ، من عادتها أن تثور للمظلوم ، الذي يحتمل الأذى ، ولا يتراجع ! وبخاصة إذا كان الأذى واقعا على كرام الناس فيهم . . وقد وقعت ظواهر كثيرة تثبت صحة هذه النظرة - في هذه البيئة - فابن الدغنة لم يرض أن يترك أبا بكر - وهو رجل كريم - يهاجر ويخرج من مكة ، ورأى في ذلك عارا على العرب ! وعرض عليه جواره وحمايته . . . وآخر هذه الظواهرنقض صحيفة الحصار لبني هاشم في شعب أبى طالب ، بعدما طال عليهم الجوع واشتدت المحنة . . بينما في بيئة أخرى من البيئات ذات الحضارة القديمة التي مردت على الذل ، قد يكون السكوت على الأذى مدعاة للهزء والسخرية والاحتقار من البيئة ؛ وتعظيم المؤذي الظالم المعتدي !
" و " وربما كان ذلك أيضا ، لقلة عدد المسلمين حينذاك ، وانحصارهم في مكة . حيث لم تبلغ الدعوة إلى بقية الجزيرة . أو بلغت أخبارها متناثرة ؛ حيث كانت القبائل تقف على الحياد ، من معركة داخلية بين قريش وبعض أبنائها ، حتى ترى ماذا يكون مصير الموقف . . ففي مثل هذه الحالة قد تنتهي المعركة المحدودة ، إلى قتل المجموعة المسلمة القليلة - حتى ولو قتلوا هم أضعاف من سيقتل منهم - ويبقى الشرك ، وتنمحي الجماعة المسلمة . ولم يقم في الأرض للإسلام نظام ، ولا وجد له كيان واقعي . . وهو دين جاء ليكون منهج حياة ، وليكون نظاما واقعيا عمليا للحياة .
" ز " في الوقت ذاته لم يكن هناك ضرورة قاهرة ملحة ، لتجاوز هذه الاعتبارات كلها ، والأمر بالقتال ودفع الأذى . لأن الأمر الأساسي في هذه الدعوة كان قائما - وقتها - ومحققا . . هذا الأمر الأساسي هو " وجود الدعوة " . . وجودها في شخص الداعية [ ص ] وشخصه في حماية سيوف بني هاشم ، فلا تمتد إليه يد إلا وهي مهددة بالقطع ! والنظام القبلي السائد يجعل كل قبيلة تخشى أن تقع في حرب مع بني هاشم ، إذا هي امتدت يدها إلى محمد [ ص ] فكان شخص الداعية من ثم محميا حماية كافية . . وكان الداعية يبلغ دعوته -إذن - في حماية سيوف بني هاشم ومقتضيات النظام القبلي ، ولا يكتمها ، ولا يخفيها ، ولا يجرؤ أحد على منعه من إبلاغها وإعلانها ، في ندوات قريش في الكعبة ، ومن فوق جبل الصفا ؛ وفي اجتماعات عامة . . ولا يجرؤ أحد على سد فمه ؛ ولا يجرؤ أحد على خطفة وسجنه أو قتله ! ولا يجرؤ أحد على أن يفرض عليه كلاما بعينه يقوله ؛ يعلن فيه بعض حقيقة دينه ؛ ويسكت عن بعضها . وحين طلبوا إليه أن يكف عن سب آلهتهم وعيبها لم يكف . وحين طلبوا إليه أن يسكت عن عيب دين آبائهم وأجدادهم وكونهم في جهنم لم يسكت . وحين طلبوا إليه أن يدهن فيدهنوا . أي أن يجاملهم فيجاملوه ؛ بأن يتبع بعض تقاليدهم ليتبعوا هم بعض عبادته ، لم يدهن . . وعلى الجملة كان للدعوة " وجودها " الكامل ، في شخص رسول الله [ ص ] محروسا بسيوف بني هاشم - وفي إبلاغه لدعوة ربه كاملة في كل مكان وفي كل صورة . . ومن ثم لم تكن هنالك الضرورة القاهرة لاستعجال المعركة ، والتغاضي عن كل هذه الاعتبارات البيئية التي هي في مجموعها ، مساندة للدعوة ومساعدة في مثل هذه البيئة .
هذه الاعتبارات - كلها - فيما نحسب - كانت بعض ما اقتضت حكمة الله - معه - أن يأمر المسلمين بكف أيديهم . وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة . . لتتم تربيتهم وإعدادهم ، ولينتفع بكل إمكانيات الخطة في هذه البيئة ؛ وليقف المسلمون في انتظار أمر القيادة ، في الوقت المناسب . وليخرجوا أنفسهم من المسألة كلها ، فلا يكون لذواتهم فيها حظ . لتكون خالصة لله . وفي سبيل الله . . والدعوة لها " وجودها " وهي قائمة ومؤداة ومحمية ومحروسة . . .
وأيا ما كانت حكمة الله من وراء هذه الخطة ، فقد كان هناك المتحمسون يبدون لهفتهم على اللحظة التي يؤذن لهم فيها بالقتال :
( فلما كتب عليهم القتال ، إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية . وقالوا : ربنا لم كتبت علينا القتال ؟ لولا أخرتنا إلى أجل قريب ! ) .
وكان وجود هذه الطائفة في الصف المسلم ينشىء فيه حالة من الخلخلة وينشى ء فيه حالة من عدم التناسق بين هذه الطائفة الجزوع الهلوع ، وبين الرجال المؤمنين ، ذوي القلوب الثابتة المطمئنة ؛ المستقبلة لتكاليف الجهاد - على كل ما فيها من مشقة - بالطمأنينة والثقة والعزم والحماسة أيضا . ولكن في موضعها المناسب . فالحماسة في تنفيذ الأمر حين يصدر هي الحماسة الحقيقية . أما الحماسة قبل الأمر ، فقد تكون مجرد اندفاع وتهور ؛ يتبخر عند مواجهة الخطر !
وكان القرآن يعالج هذه الحالة بمنهجه الرباني :
( قل : متاع الدنيا قليل ، والآخرة خير لمن اتقى ، ولا تظلمون فتيلا . أينما تكونوا يدرككم الموت ، ولو كنتم في بروج مشيدة ) . .
إنهم يخشون الموت ، ويريدون الحياة . ويتمنون في حسرة مسكينة ! لو كان الله قد أمهلهم بعض الوقت ؛ ومد لهم - شيئا - في المتاع بالحياة !
والقرآن يعالج هذه المشاعر في منابتها ؛ ويجلو غبش التصور لحقيقة الموت والأجل . .
متاع الدنيا كله . والدنيا كلها . فما بال أيام ، أو أسابيع ، أو شهور ، أو سنين ؟ ما قيمة هذا الإمهال لأجل قصير . إذا كان متاع الحياة الدنيا بطولها في جملته قليلا ؟ ! ما الذي يملكون تحقيقه من المتاع في أيام ، أو أسابيع ، أو شهور ، أو سنين . ومتاع الدنيا كله والدنيا بطولها قليل ! ؟
فالدنيا - أولا - ليست نهاية المطاف ولا نهاية الرحلة . . إنها مرحلة . . ووراءها الآخرة والمتاع فيها هو المتاع - فضلا على أن المتاع فيها طويل كثير – فهي ( خير ) . . ( خير لمن اتقى ) . . وتذكر التقوى هنا والخشية والخوف في موضعها . التقوى لله . فهو الذي يتقى ، وهو الذي يخشى . وليس الناس . . الناس الذين سبق أن قال : إنهم يخشونهم كخشية الله - أو أشد خشية ! - والذي يتقي الله لا يتقي الناس . والذي يعمر قلبه الخوف من الله لا يخاف أحدا . فماذا يملك له إذا كان الله لا يريد ؟
فلا غبن ولا ضير ولا بخس ؛ إذا فاتهم شيء من متاع الدنيا . فهناك الآخرة . وهناك الجزاء الأوفى ؛ الذي لا يبقى معه ظلم ولا بخس في الحساب الختامي للدنيا والآخرة جميعا !
ولكن بعض الناس قد تهفو نفسه - مع هذا كله - إلى أيام تطول به في هذه الأرض ! حتى وهو يؤمن بالآخرة ، وهو ينتظر جزاءها الخير . . وبخاصة حين يكون في المرحلة الإيمانية التي كانت فيها هذه الطائفة !
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفّوَاْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَآتُواْ الزّكَاةَ فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلآ أَخّرْتَنَا إِلَىَ أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدّنْيَا قَلِيلٌ والآخرة خَيْرٌ لّمَنِ اتّقَىَ وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً } . .
ذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا قد آمنوا به وصدّقوه قبل أن يفرض عليهم الجهاد ، وقد فرض عليهم الصلاة والزكاة ، وكانوا يسألون الله أن يفرض عليهم القتال ، فلما فرض عليهم القتال شقّ عليهم ذلك وقالوا ما أخبر عنهم في كتابه .
فتأويل قوله : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفّوا أيْدِيَكُمْ } : ألم تر بقلبك يا محمد فتعلم إلى الذين قيل لهم من أصحابك حين سألوك أن تسأل ربك أن يفرض عليهم القتال : كفوا أيديكم ، فأمسكوها عن قتال المشركين وحربهم . { وَأقِيمُوا الصّلاةَ } يقول : وأدوا الصلاة التي فرضها الله عليكم بحدودها . { وآتُوا الزّكاةَ } يقول : وأعطوا الزكاة أهلها ، الذين جعلها الله لهم من أموالكم ، تطهيرا لأبدانكم وأموالكم¹ كرهوا ما أمروا به من كفّ الأيدي عن قتال المشركين ، وشقّ ذلك عليهم . { فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتالُ } يقول : فلما فرض عليهم القتال الذي كانوا سألوا أن يفرض عليهم ، { إذَا فرِيقٌ مِنْهُمْ } يعني : جماعة منهم { يَخْشَوْنَ النّاسَ } يقول : يخافون الناس أن يقاتلوهم ، { كخَشْيَةِ اللّهِ أوْ أشَدّ خَشْيَةً } أو أشدّ خوفا . { وَقَالُوا } جزعا من القتال الذي فرض الله عليهم : { لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنا القِتالَ } : لم فرضت علينا القتال ، ركونا منهم إلى الدنيا ، وإيثارا للدعة فيها والخَفْضَ ، على مكروه لقاء العدوّ ، ومشقة حربهم وقتالهم . { لَوْلا أخّرْتَنا } يخبر عنهم ، قالوا : هلا أخرتنا { إلى أجَلٍ قَرِيبٍ } يعني : إلى أن يموتوا على فرشهم وفي منازلهم .
وبنحو الذي قلنا إن هذه الاَية نزلت فيه قال أهل التأويل . ذكر الاَثار بذلك ، والرواية عمن قاله :
حدثنا محمد بن عليّ بن الحسن بن شقيق ، قال : سمعت أبي ، قال : أخبرنا الحسين بن واقد ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا رسول الله ، كنا في عزّ ونحن مشركون ، فلما آمنا صرنا أذلة ! فقال : «إنّى أُمِرْتُ بالعَفْوِ فَلا تُقاتِلُوا » فلما حوّله الله إلى المدينة أمر بالقتال فكفوا ، فأنزل الله تبارك وتعالى : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفّوا أيْدِيَكُمْ } . . . الاَية .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفّوا أيْدِيَكُمْ } عن الناس ، { فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتالُ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ } نزلت في أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال ابن جريج : وقوله : { وَقالُوا رَبّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنا القِتالَ لَوْلا أخّرْتَنا إلى أجَلٍ قَرِيبٍ } قال : إلى أن نموت موتا هو الأجل القريب .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : قوله : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفّوا أيْدِيَكُمْ وأقِيمُوا الصّلاةَ } فقرأ حتى بلغ : { إلى أجَلٍ قَرِيبٍ } قال : كان أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يومئذ بمكة قبل الهجرة ، تسرعوا إلى القتال ، فقالوا لنبيّ الله صلى الله عليه وسلم : ذرنا نتخذ معاول فنقاتل بها المشركين بمكة ! فنهاهم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، قال : «لم أؤمَرْ بذَلِكَ » . فلما كانت الهجرة وأمر بالقتال ، كره القوم ذلك ، فصنعوا فيه ما تسمعون ، فقال الله تبارك وتعالى : { قُلْ مَتاعُ الدّنْيا قَلِيلٌ والاَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً } .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفّوا أيْدِيَكُمْ وأقِيمُوا الصّلاةَ وآتُوا الزّكاةَ } قال : هم قوم أسلموا قبل أن يفرض عليهم القتال ، ولم يكن عليهم إلا الصلاة والزكاة ، فسألوا الله أن يفرض عليهم القتال¹ { فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتالُ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النّاسَ كخَشْيَةِ اللّهِ أوْ أشَدّ خَشْيَةً } . . . الاَية ، إلى : { ألى أجَلٍ قَرِيبٍ } وهو الموت ، قال الله : { قُلْ مَتاعُ الدّنْيا قَلِيلٌ والاَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَن اتّقَى } .
وقال آخرون : نزلت هذه وآيات بعدها في اليهود . ذكر من قال ذلك :
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفّوا أيْدِيَكُمْ وأقِيمُوا الصّلاةَ } . . . إلى قوله : { لاتّبَعْتُمُ الشّيْطانَ إلاّ قَلِيلاً } ما بين ذلك في اليهود .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتالُ إذَا فَرِيقٌ منْهُمْ } . . . إلى قوله : { لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنا القِتالَ } : نهى الله تبارك وتعالى هذه الأمة أن يصنعوا صنيعهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ مَتاعُ الدّنْيا قَلِيلٌ والاَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً } .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { قُلْ مَتاعُ الدّنْيا قَلِيلٌ } : قل يا محمد لهؤلاء القوم الذين قالوا { رَبّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنا القِتالَ لَوْلا أخّرْتَنا إلى أجَلٍ قَرِيبٍ } عيشكم في الدنيا وتمتعكم بها قليل ، لأنها فانية ، وما فيها فان ، { والاَخِرَةُ خَيْرٌ } يعني : ونعيم الاَخرة خير ، لأنها باقية ، ونعيمها باق دائم . وإنما قيل : والاَخرة خير ومعنى الكلام ما وصفت من أنه معنى به نعيمها ، لدلالة ذكر الاَخرة بالذي ذكرت به على المعنى المراد منه { لمن اتّقَى } يعني : لمن اتقى الله بأداء فرائضه واجتناب معاصيه ، فأطاعه في كل ذلك . { وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً } يعني : ولا ينقصكم الله من أجور أعمالكم فتيلاً¹ وقد بينا معنى الفتيل فيما مضى بما أغنى عن إعادته ههنا .
تهيّأ المقام للتذكير بحال فريق من المسلمين اختلف أولُ حاله وآخرهُ ، فاستطرد هنا التعجيب من شأنهم على طريقة الاعتراض في أثناء الحثِّ على الجهاد ، وهؤلاء فريق يودّون أن يؤذن لهم بالقتال فلمّا كتب عليهم القتال في إبّانه جبنوا . وقد علم معنى حرصهم على القتال قبل أن يعرض عليهم من قوله : { قيل لهم كفّوا أيديكم } ، لأنّ كفّ اليد مراد ، منه ترك القتال ، كما قال : { وهو الذي كفّ أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة } [ الفتح : 24 ] .
والجملة معترضة بين جملة { وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله } [ النساء : 75 ] والجملِ التي بعدها وبين جملة { فليقاتِلْ في سبيل الله } [ النساء : 74 ] الآية اقتضت اعتراضها مناسبة العبرة بحال هذا الفريق وتقلّبها ، فالذين قيل لهم ذلك هم جميع المسلمين ، وسبب القول لهم هو سؤال فريق منهم ، ومحلّ التعجيب إنّما هو حال ذلك الفريق من المسلمين . ومعنى { كُتب عليهم القتال } أنّه كتب عليكم في عموم المسلمين القادرين . وقد دلّت ( إذا ) الفجائية على أنّ هذا الفريق لم يكن تترقّب منهم هذه الحالة ، لأنّهم كانوا يظهرون من الحريصين على القتال . قال جمهور المفسّرين : إنّ هاته الآية نزلت في طائفة من المسلمين كانوا لقوا بمكة من المشركين أذى شديداً ، فقالوا للنبيء صلى الله عليه وسلم « يا رسول الله كنّا في عزّ ونحن مشركون فلمّا آمنّا صرنا أذلّة » واستأذنوه في قتال المشركين ، فقال لهم : " أنّي أمرت بالعفو ف{ كُفُّوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } " فلمّا هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وفُرض الجهاد جبن فريق من جملة الذين استأذنوه في القتال ، ففيهم نزلت الآية .
والمرويّ عن ابن عباس أنّ من هؤلاء عبد الرحمان بن عوف ، وسعد بن أبي وقّاص ، والمقداد بن الأسود ، وقدامة بن مظعون ، وأصحابهم ، وعلى هذا فقوله : { كخشية الله أو أشدّ خشية } مسوق مساق التوبيخ لهم حيث رغبوا تأخير العمل بأمر الله بالجهاد لخوفهم من بأس المشركين ، فالتشبيه جار على طريقة المبالغة لأنّ حمل هذا الكلام على ظاهر الإخبار لا يلائم حالَهم من فضيلة الإيمان والهجرة .
وقال السديّ : « الذين قيل لهم كفّوا أيديكم » قوم أسلموا قبل أن يفرض القتال وسألوا أن يُفرض عليهم القتال فلمّا فرض القتال إذا فريق يخشون الناس . واختلف المفسّرون في المعنيّ بالفريق من قوله تعالى : { إذا فريق منهم يخشون الناس } فقيل : هم فريق من الذين استأذنوا في مكة في أن يقاتلوا المشركين ، وهذا قول ابن عباس ، وقتادة ، والكلبي ، وهو ظاهر الآية ، ولعلّ الذي حَوّل عزمهم أنّهم صاروا في أمن وسلامة من الإذلال والأذى ، فزال عنهم الاضطرار للدفاع عن أنفسهم .
وحكى القرطبي : أنّه قيل : إنّ هذا الفريق هم المنافقون . وعلى هذا الوجه يتعيّن تأويل نظم الآية بأن المسلمين الذين استأذنوا في قتل المشركين وهم في مكة أنّهم لمّا هاجروا إلى المدينة كررّوا الرغبة في قتال المشركين ، وأعاد النبي صلى الله عليه وسلم تهدئتهم زماناً ، وأنّ المنافقين تظاهروا بالرغبة في ذلك تمويهاً للنفاق ، فلمّا كتب القتال على المسلمين جبن المنافقون ، وهذا هو الملائم للإخبار عنهم بأنّهم يخشون الناس كخشية الله أو أشدّ . وتأويل وصفهم بقوله { منهم } : أي من الذين قيل لهم : كفّوا أيديكم ، وهذا على غموضه هو الذي ينسجم مع أسلوب بقية الكلام في قوله : { وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله } وما بعده ، كما سيأتي ، أمّا على قول السدّي فلا حاجة إلى تأويل الآية .
فالاستفهام في قوله : { ألم تر } للتعجيب ، وقد تقدّمت نظائره . والمتعجّب منهم ليسوا هم جميع الذين قيل لهم في مكة : كُفّوا أيديكم ، بل فريق آخر من صفتهم أنّهم يخْشَوْن الناس كخشية الله . وإنّما عُلّق التعجيب بجميع الذين قيل لهم باعتبار أنّ فريقاً منهم حالُهم كما وصف ، فالتقدير : ألم تر إلى فريق من الذين قيل لهم : كفّوا أيديكم .
والقول في تركيب قوله : { كخشية الله أو أشدّ خشية } كالقول في نظيره ، وهو قوله تعالى : { فاذكروا الله كذكِركم آباءكم أو أشدّ ذكراً } في سورة البقرة ( 200 ) .
وقولهم : { ربّنا لم كتبت علينا القتال } إنّما هو قولهم في نفوسهم على معنى عدم الاهتداء لحكمة تعليل الأمر بالقتال وظنِّهم أنّ ذلك بلوى . ( والأجلُ القريب ) مدّة متأخّرة ريثما يتمّ استعدادهم ، مثل قوله : { فيقول ربّ لولا أخّرتني إلى أجل قريب فأصدّق } [ المنافقون : 10 ] . وقيل : المراد من ( الأجل ) العمر ، . بمعنى لولا أخرّتنا إلى أن تنقضي آجالنا دون قتال ، فيصير تمنّيا لانتفاء فرض القتال ، وهذا بعيد لعدم ملاءمته لسياق الكلام ، إذ ليس الموت في القتال غير الموت بالأجل ، ولعدم ملاءمته لوصفه بقريب ، لأنّ أجل المرء لا يعرف أقريب هو أم بعيد إلاّ إذا أريد تقليل الحياة كلّها . وعلى كلا الوجهين فالقتال المشار إليه هنا هو أوّل قتال أمروا به ، والآية ذكّرتهم بذلك في وقت نزولها حين التهيُّؤ للأمر بفتح مكة . وقال السديّ : أريد بالفريق بعض من قبائل العرب دخلوا في الإسلام حديثاً قبل أن يكون القتال من فرائضه وكانوا يتمنّون أن يقاتلوا فلّما كتب عليهم القتال جبُنوا لضعف إيمانهم ، ويكون القتال الذين خافوه هو غزو مكة ، وذلك أنّهم خشوا بأس المشركين .
وقولهم : { ربّنا لم كتبت علينا القتال } يحتمل أن يكون قولاً في نفوسهم ، ويحتمل أنّه مع ذلك قول بأفواههم ، ويبدو هو المتعيّن إذا كان المراد بالفريق فريق المنافقين ؛ فهم يقولون : ربّنا لم كتبت علينا القتال بألسنتهم علناً ليوقعوا الوهن في قلوب المستعدّينَ له وهم لا يعتقدون أنّ الله كتب عليهم القتال ، وقال ابن جرير عن مجاهد : نزلت في اليهود ، وعليه تكون الآية مثالاً ضربه الله للمسلمين الذين أوجب عليهم القتال ، تحذيراً لهم في الوقوع في مثل ذلك ، فيكون على طريقة قوله :
{ ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبيء لهم ابعث لنا ملكاً } الآية في سورة البقرة ( 246 ) .
والرؤية بَصَرية ، وهي على بعض الوجوه المرويَّة بصرية حقيقية ، وعلى بعضها بصرية تنزيلية ، للمبالغة في اشتهار ذلك .
وانتصب { خشية } على التمييز لنسبة { أشد } ، كما تقدّم في قوله تعالى : { كذكركم آباءكم أو أشدّ ذِكراً } وقد مرّ ما فيه في سورة البقرة ( 200 ) .
والجواب بقوله : { قل متاع الدنيا قليل } جواب عن قولهم : { لولا أخرتنا إلى أجل قريب } سواء كان قولهم لسانياً وهو بيّن ، أم كان نفسياً ، ليعلموا أنّ الله أطْلَع رسوله على ما تضمره نفوسهم ، أي أنّ التأخير لا يفيد والتعلُّق بالتأخير لاستبقاء الحياة لا يوازي حظّ الآخرة ، وبذلك يبطل ما أرَادوا من الفتنة بقولهم : { لولا أخرتنا إلى أجل قريب } .
وموقع قوله : { ولا تظلمون فتيلاً } موقع زيادة التوبيخ الذي اقتضاه قوله : { قل متاع الدنيا قليل } ، أي ولا تنقصون شيئاً من أعماركم المكتوبة ، فلا وجه للخوف وطلب تأخير فرض القتال ؛ وعلى تفسير الأجل في : { لولا أخرتنا إلى أجل قريب } بأجل العُمر ، وهو الوجه المستبعد ، يكون معنى { ولا تظلمون فتيلاً } تغليطهم في اعتقادهم أنّ القتل يعجّل الأجل ، فيقتضي أن يكون ذلك عقيدة للمؤمنين إن كانوا هم المخاطبين قبل رسوخ تفاصيل عقائد الإسلام فيهم ، أو أنّ ذلك عقيدة المنافقين إن كانوا هم المخاطبين .
وقيل معنى نفي الظلم هنا أنّهم لا يظلمون بنقص ثواب جهادهم ، فيكون موقعه موقع التشجيع لإزالة الخوف ، ويكون نصبه على النيابة عن المفعول المطلق . وقيل : معناه أنّهم لا يظلمون بنقص أقلّ زمن من آجالهم ، ويجيء على هذا التفسير أن يجعل { تظلمون } بمعنى تنقصون ، كقوله تعالى : { ولم تَظْلِمْ منه شيئاً } [ الكهف : 33 ] ، أي كلتا الجنتين من أكلها ، ويكون { فتيلا } مفعولاً به ، أي لا تنقصون من أعماركم ساعة ، فلا موجب للجبن .
وقرأ الجمهور : { ولا تظلمون } بتاء الخطاب على أنّه أمِر الرسول أن يقوله لهم . وقرأه ابن كثير ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو جعفر ، وروْح عن يعقوب ، وخلف بياء الغيبة على أن يكون ممّا أخبر الله به رسوله صلى الله عليه وسلم ليبلّغه إليهم .
والفتيل تقدم آنفاً عند قوله تعالى : { بل الله يزكّي من يشاء ولا يظلمون فتيلا } [ النساء : 49 ] .
جملة : { أينما تكونوا يدرككم الموت } يجوز أن تكون من تمام القول المحكي بقوله : { قل متاع الدنيا قليل } .
وإنّما لم تعطف على جملة : { متاع الدنيا قليل } لاختلاف الغرضين ، لأنّ جملة { متاع الدنيا قليل } وما عطف عليها تغليط لهم في طلب التأخير إلى أجل قريب ،