يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ ( 9 ) فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ( 10 )
وهم يظنون في أنفسهم الذكاء والدهاء والقدرة على خداع هؤلاء البسطاء ؛ ولكن القرآن يصف حقيقة فعلتهم ، فهم لا يخادعون المؤمنين ، إنما يخادعون الله كذلك أو يحاولون :
( يخادعون الله والذين آمنوا ) . .
وفي هذا النص وأمثاله نقف أمام حقيقة كبيرة ، وأمام تفضل من الله كريم . . تلك الحقيقة هي التي يؤكدها القرآن دائما ويقررها ، وهي حقيقة الصلة بين الله والمؤمنين . إنه يجعل صفهم صفه ، وأمرهم أمره . وشأنهم شأنه . يضمهم سبحانه إليه ، ويأخذهم في كنفه ، ويجعل عدوهم عدوه ، وما يوجه إليهم من مكر موجها إليه - سبحانه - وهذا هو التفضل العلوي الكريم . . التفضل الذي يرفع مقام المؤمنين وحقيقتهم إلى هذا المستوى السامق ؛ والذي يوحي بأن حقيقة الإيمان في هذا الوجود هي أكبر وأكرم الحقائق ، والذي يسكب في قلب المؤمن طمأنينة لا حد لها ، وهو يرى الله - جل شأنه - يجعل قضيته هي قضيته ، ومعركته هي معركته ، وعدوه هو عدوه ، ويأخذه في صفة ، ويرفعه إلى جواره الكريم . . فماذا يكون العبيد وكيدهم وخداعهم وأذاهم الصغير ؟ !
وهو في ذات الوقت تهديد رعيب للذين يحاولون خداع المؤمنين والمكر بهم ، وإيصال الأذى إليهم . تهديد لهم بأن معركتهم ليست مع المؤمنين وحدهم إنما هي مع الله القوي الجبار القهار . وأنهم إنما يحاربون الله حين يحاربون أولياءه ، وإنما يتصدون لنقمة الله حين يحاولون هذه المحاولة اللئيمة .
وهذه الحقيقة من جانبيها جديرة بأن يتدبرها المؤمنون ليطمئنوا ويثبتوا ويمضوا في طريقهم لا يبالون كيد الكائدين ، ولا خداع الخادعين ، ولا أذى الشريرين . ويتدبرها أعداء المؤمنين فيفزعوا ويرتاعوا ويعرفوا من الذي يحاربونه ويتصدون لنقمته حين يتصدون للمؤمنين . .
ونعود إلى هؤلاء الذين يخادعون الله والذين آمنوا بقولهم : آمنا بالله وباليوم الآخر . ظانين في أنفسهم الذكاء والدهاء . . ولكن يا للسخرية ! يا للسخرية التي تنصب عليهم قبل أن تكتمل الآية : ( وما يخدعون إلا أنفسهم ، وما يشعرون ) . .
إنهم من الغفلة بحيث لا يخدعون إلا أنفسهم في غير شعور ! إن الله بخداعهم عليم ؛ والمؤمنون في كنف الله فهو حافظهم من هذا الخداع اللئيم . أما أولئك الأغفال فهم يخدعون أنفسهم ويغشونها . يخدعونها حين يظنون أنهم أربحوها وأكسبوها بهذا النفاق ، ووقوها مغبة المصارحة بالكفر بين المؤمنين . وهم في الوقت ذاته يوردونها موارد التهلكة بالكفر الذي يضمرونه ، والنفاق الذي يظهرونه . وينتهون بها إلى شر مصير !
{ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ }
قال أبو جعفر : وخداع المنافق ربه والمؤمنين إظهاره بلسانه من القول والتصديق خلاف الذي في قلبه من الشك والتكذيب ليدرأ عن نفسه بما أظهر بلسانه حُكْمَ الله عز وجل اللازمَ من كان بمثل حاله من التكذيب لو لم يظهر بلسانه ما أظهر من التصديق والإقرار من القتل والسباء ، فذلك خداعه ربه وأهل الإيمان بالله .
فإن قال قائل : وكيف يكون المنافق لله وللمؤمنين مخادعا وهو لا يظهر بلسانه خلاف ما هو له معتقد إلا تقية ؟ قيل : لا تمتنع العرب أن تسمي من أعطى بلسانه غير الذي هو في ضميره تقية لينجو مما هو له خائف ، فنجا بذلك مما خافه مخادعا لمن تخلص منه بالذي أظهر له من التقية ، فكذلك المنافق سمي مخادعا لله وللمؤمنين باظهاره ما أظهر بلسانه تقية مما تخلص به من القتل والسباء والعذاب العاجل ، وهو لغير ما أظهر مستبطن ، وذلك من فعله وإن كان خداعا للمؤمنين في عاجل الدنيا فهو لنفسه بذلك من فعله خادع لأنه يظهر لها بفعله ذلك بها أنه يعطيها أمنيتها ويسقيها كأس سرورها ، وهو موردها به حياض عطبها ، ومجرّعها به كأس عذابها ، ومذيقها من غضب الله وأليم عقابه ما لا قبل لها به . فذلك خديعته نفسه ظنّا منه مع إساءته إليها في أمر معادها أنه إليها محسن ، كما قال جل ثناؤه : وَما يَخْدَعُونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ وَما يَشْعَرُونَ إعلاما منه عباده المؤمنين أن المنافقين بإساءتهم إلى أنفسهم في إسخاطهم ربهم بكفرهم وشكهم وتكذيبهم غير شاعرين ولا دارين ، ولكنهم على عمياء من أمرهم مقيمون .
وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك كان ابن زيد يقول .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : سألت عبد الرحمن بن زيد ، عن قول الله جل ذكره : يُخادعُونَ اللّهَ وَالّذِينَ آمَنُوا إلى آخر الآية ، قال : هؤلاء المنافقون يخادعون الله ورسوله والذين آمنوا ، أنهم مؤمنون بما أظهروا .
وهذه الآية من أوضح الدليل على تكذيب الله جل ثناؤه قول الزاعمين : إن الله لا يعذب من عباده إلا من كفر به عنادا ، بعد علمه بوحدانيته ، وبعد تقرّر صحة ما عاند ربه تبارك وتعالى عليه من توحيده والإقرار بكتبه ورسله عنده لأن الله جل ثناؤه قد أخبر عن الذين وصفهم بما وصفهم به من النفاق وخداعهم إياه والمؤمنين أنهم لا يشعرون أنهم مبطلون فيما هم عليه من الباطل مقيمون ، وأنهم بخداعهم الذي يحسبون أنهم به يخادعون ربهم وأهل الإيمان به مخدوعون . ثم أخبر تعالى ذكره أن لهم عذابا أليما بتكذيبهم بما كانوا يكذبونه من نبوّة نبيه واعتقاد الكفر به ، وبما كانوا يكذبون في زعمهم أنهم مؤمنون ، وهم على الكفر مصرّون .
فإن قال لنا قائل : قد علمت أن المفاعلة لا تكون إلا من فاعلين ، كقولك : ضاربت أخاك ، وجالست أباك إذا كان كل واحد مجالس صاحبه ومضاربه . فأما إذا كان الفعل من أحدهما فإنما يقال : ضربت أخاك وجلست إلى أبيك ، فمن خادع المنافق فجاز أن يقال فيه : خادع الله والمؤمنين . قيل : قد قال بعض المنسوبين إلى العلم بلغات العرب : إن ذلك حرف جاء بهذه الصورة ، أعني «يُخادع » بصورة «يُفاعل » وهو بمعنى «يَفْعل » في حروف أمثالها شاذّة من منطق العرب ، نظير قولهم : قاتلك الله ، بمعنى قتلك الله .
وليس القول في ذلك عندي كالذي قال ، بل ذلك من التفاعل الذي لا يكون إلا من اثنين كسائر ما يعرف من معنى «يُفاعل ومُفاعل » في كل كلام العرب ، وذلك أن المنافق يخادع الله جل ثناؤه بكذبه بلسانه على ما قد تقدم وصفه ، والله تبارك اسمه خادعه بخذلانه عن حسن البصيرة بما فيه نجاة نفسه في آجل معاده ، كالذي أخبر في قوله : { وَلا يَحْسَبنّ الّذِينَ كَفَرُوا أنّمَا نُمْلي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إثْما } وبالمعنى الذي أخبر أنه فاعل به في الاَخرة بقوله : { يَوْمَ يَقُولُ المُنافِقُونَ وَالمُنافِقَاتُ لِلّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ } الآية ، فذلك نظير سائر ما يأتي من معاني الكلام بيفاعل ومفاعل . وقد كان بعض أهل النحو من أهل البصرة يقول : لا تكون المفاعلة إلا من شيئين ، ولكنه إنما قيل : يخادعون الله عند أنفسهم بظنهم أن لا يعاقبوا ، فقد علموا خلاف ذلك في أنفسهم بحجة الله تبارك اسمه الواقعة على خلقه بمعرفته وما يخْدَعُونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ . قال : وقد قال بعضهم : وما يخدعون يقول : يخدعون أنفسهم بالتخلية بها . وقد تكون المفاعلة من واحد في أشياء كثيرة .
القول في تأويل قوله تعالى : وَما يَخْدَعُونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ .
إن قال لنا قائل : أوليس المنافقون قد خدعوا المؤمنين بما أظهروا بألسنتهم من قيل الحقّ عن أنفسهم وأموالهم وذراريهم حتى سلمت لهم دنياهم وإن كانوا قد كانوا مخدوعين في أمر آخرتهم ؟ قيل : خطأ أن يقال إنهم خدعوا المؤمنين لأنا إذا قلنا ذلك أوجبنا لهم حقيقة خدعة جازت لهم على المؤمنين ، كما أنا لو قلنا : قتل فلان فلانا ، أوجبنا له حقيقة قتل كان منه لفلان . ولكنا نقول : خادع المنافقون ربهم والمؤمنين ، ولم يخدعوهم بل خدعوا أنفسهم ، كما قال جل ثناؤه ، دون غيرها ، نظير ما تقول في رجل قاتل آخر فقتل نفسه ولم يقتل صاحبه : قاتل فلان فلانا ولم يقتل إلا نفسه ، فتوجب له مقاتلة صاحبه ، وتنفي عنه قتله صاحبه ، وتوجب له قتل نفسه . فكذلك تقول : خادع المنافق ربه والمؤمنين ، ولم يخدع إلا نفسه ، فتثبت منه مخادعة ربه والمؤمنين ، وتنفي عنه أن يكون خدع غير نفسه لأن الخادع هو الذي قد صحت له الخديعة ووقع منه فعلها . فالمنافقون لم يخدعوا غير أنفسهم ، لأن ما كان لهم من مال وأهل فلم يكن المسلمون ملكوه عليهم في حال خداعهم إياه عنه بنفاقهم ولا قبلها فيستنقذوه بخداعهم منهم ، وإنما دافعوا عنه بكذبهم وإظهارهم بألسنتهم غير الذي في ضمائرهم ، ويحكم الله لهم في أموالهم وأنفسهم وذراريهم في ظاهر أمورهم بحكم ما انتسبوا إليه من الملة ، والله بما يخفون من أمورهم عالم . وإنما الخادع من خَتَلَ غيره عن شيئه ، والمخدوع غير عالم بموضع خديعة خادعه . فأما والمخادَع عارف بخداع صاحبه إياه ، وغير لاحقه من خداعه إياه مكروه ، بل إنما يتجافى للظان به أنه له مخادع استدراجا ليبلغ غاية يتكامل له عليه الحجة للعقوبة التي هو بها موقع عند بلوغه إياها . والمستدرج غير عالم بحال نفسه عند مستدرجه ، ولا عارف باطلاعه على ضميره ، وأن إمهال مستدرجيه إياه تركه معاقبته على جرمه ليبلغ المخاتل المخادع من استحقاقه عقوبة مستدرجه بكثرة إساءته وطول عصيانه إياه وكثرة صفح المستدرج وطول عفوه عنه أقصى غاية ، فإنما هو خادع نفسه لا شك دون من حدثته نفسه أنه له مخادع . ولذلك نفى الله جل ثناؤه عن المنافق أن يكون خدع غير نفسه ، إذ كانت الصفة التي وصفنا صفته . وإذ كان الأمر على ما وصفنا من خداع المنافق ربه وأهل الإيمان به ، وأنه غير سائر بخداعه ذلك إلى خديعة صحيحة إلا لنفسه دون غيرها لما يورطها بفعله من الهلاك والعطب ، فالواجب إذا أن يكون الصحيح من القراءة : وَما يَخْدَعُونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ دون : «وما يخادعون » ، لأن لفظ المخادع غير موجب تثبيت خديعة على صحة ، ولفظ خادع موجب تثبيت خديعة على صحة . ولا شك أن المنافق قد أوجب خديعة الله عز وجل لنفسه بما ركب من خداعه ربه ورسوله والمؤمنين بنفاقه ، فلذلك وجبت الصحة لقراءة من قرأ : وَما يَخْدَعُونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ .
ومن الدلالة أيضا على أن قراءة من قرأ : وما يَخْدَعُونَ أولى بالصحة من قراءة من قرأ : «وما يخادعون » أن الله جل ثناؤه قد أخبر عنهم أنهم يخادعون الله والمؤمنين في أول الآية ، فمحال أن ينفي عنهم ما قد أثبت أنهم قد فعلوه ، لأن ذلك تضادّ في المعنى ، وذلك غير جائز من الله جل وعز .
القول في تأويل قوله تعالى : وَما يَشْعُرُونَ .
يعني بقوله جل ثناؤه : وَما يَشْعُرُونَ : وَما يدرون ، يقال : ما شعر فلان بهذا الأمر ، وهو لا يشعر به إذا لم يدر ولم يعلم شعرا وشعورا ، كما قال الشاعر :
عَقّوا بِسَهْمٍ ولَمْ يَشْعُرْ بِهِ أحَدٌ *** ثُمّ اسْتَفاءُوا وَقالُوا حَبّذَا الوَضَحُ
يعني بقوله : «لم يشعر به » : لم يدر به أحد ولم يعلم . فأخبر الله تعالى ذكره عن المنافقين ، أنهم لا يشعرون بأن الله خادعهم بإملائه لهم واستدراجه إياهم الذي هو من الله جل ثناؤه إبلاغ إليهم في الحجة والمعذرة ، ومنهم لأنفسهم خديعة ، ولها في الاَجل مضرّة . كالذي :
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سألت ابن زيد عن قوله : وَما يَخْدَعُونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ قال : ما يشعرون أنهم ضرّوا أنفسهم بما أسرّوا من الكفر والنفاق . وقرأ قول الله : يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعا قال : هم المنافقون ، حتى بلغ وَيحْسَبُونَ أنّهُمْ على شَيءٍ قد كان الإيمان ينفعهم عندكم .
يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ( 9 )
واختلف المتأولون في قوله تعالى : { يخادعون الله } .
فقال الحسن بن أبي الحسن : «المعنى يخادعون رسول الله فأضاف الأمر إلى الله تجوزاً( {[211]} ) لتعلق رسوله به ، ومخادعتهم في تحيلهم في أن يفشي رسول الله والمؤمنون لهم أسرارهم فيتحفظون مما يكرهونه ويتنبهون من ضرر المؤمنين على ما يحبونه » .
وقال جماعة من المتأولين : «بل يخادعون الله والمؤمنين ، وذلك بأن يظهروا من الإيمان خلاف ما أبطنوا من الكفر ليحقنوا دماءهم ويحرزوا أموالهم ويظنون أنهم قد نجوا وخدعوا وفازوا ، وإنما خدعوا أنفسهم لحصولهم في العذاب وما شعروا لذلك » .
واختلف القراء في يخادعون الثاني .
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو : «يخادعون » .
وقرأ عصام وابن عامر وحمزة والكسائي : «وما يخدعون » .
وقرأ أبو طالوت عبد السلام بن شداد والجارود بن أبي سبرة : «يُخدعون » بضم الياء( {[212]} ) .
وقرأ قتادة ومورق العجلي( {[213]} ) : «يُخَدِّعون » بضم الياء وفتح الخاء وكسر الدال وشدها . فوجه قراءة ابن كثير ومن ذكر إحراز تناسب اللفظ ، وأن يسمى الفعل الثاني باسم الفعل الأول المسبب له ويجيء ذلك كما قال الشاعر( {[214]} ) : [ عمرو بن كلثوم ] : [ الوافر ] .
ألاَ لاَ يجْهلنْ أحدٌ عليْنا . . . فَنَجْهل فوق جهْل الجاهلينا
فجعل انتصاره جهلاً ، ويؤيد هذا المنزع في هذه الآية أن فاعل قد تجيء من واحد كعاقبت اللص وطارقت النعل( {[215]} ) .
وتتجه أيضاً هذه القراءة بأن ينزل ما يخطر ببالهم ويهجس في خواطرهم من الدخول في الدين والنفاق فيه والكفر في الأمر وضده في هذا المعنى بمنزلة مجاورة أجنبيين فيكون الفعل كأنه من اثنين . وقد قال الشاعر( {[216]} ) : [ الكميت ] [ الطويل ] .
تذكر من أَنَّى ومن أين شربه . . . يؤامرُ نفسيه كذي الهجمة الأبل
وأنشد ابن الأعرابي( {[217]} ) : [ المنسرح ]
لم تدر ما لا ولست قائلها . . . عمرك ما عشت آخر الأبد
ولم تؤامرْ نفسيك ممترياً في . . . ها وفي أختها ولم تكد
وقال الآخر( {[218]} ) :
يؤامر نفسيهِ وفي العيشِ فُسْحَةٌ . . . أيستوتغ الذوبانَ أمْ لا يطورُها
وأنشد ثعلب عن ابن الأعرابي : [ الطويل ]
وكنتَ كذات الضنء لم تدر إذْ بَغَتْ . . . تؤامرُ نفسيْها أتسرِقُ أن تزني( {[219]} )
ووجه قراءة عاصم ومن ذكر ، أن ذلكَ الفعل هو خدع لأنفسهم يمضي عليها ، تقول : «خادعت الرجل » بمعنى أعملت التحيل عليه ، فخدعته بمعنى تمت عليه الحيلة ونفذ فيه المراد ، والمصدر «خِدع » بكسر الخاء وخديعة ، حكى ذلك أبو زيد . فمعنى الآية وما ينفذون السوء إلا على أنفسهم فيها . ووجه قراءة أبي طالوت أحد أمرين : إما أن يقدر الكلام وما يخدعون إلا عن أنفسهم فحذف حرف الجر ووصل الفعل كما قال تعالى : { واختار موسى قومه }( {[220]} ) [ الأعراف : 155 ] أي من قومه ، وإما أن يكون «يخدعون » أعمل عمل ينتقصون لما كان المعنى وما ينقصون ويستلبون إلا أنفسهم( {[221]} ) ، ونحوه قول الله تعالى : { ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم }( {[222]} ) [ البقرة : 187 ] ولا تقول رفثت إلى المرأة ، ولكن لما كان بمعنى الإفضاء ساغ ذلك ، ومنه قوله تعالى : { هل لك إلى أن تزكى }( {[223]} ) [ النازعات : 18 ] وإنما يقال هل لك في كذا ، ولكن لما كان المعنى أجذ بك إلى أن تزكى ساغ ذلك وحسن ، وهو باب سني من فصاحة الكلام ، ومنه قول الفرزدق : [ الرجز ] :
كيف تراني قالباً مجني . . . قد قتل الله زياداً عنّي( {[224]} )
لما كانت قتل قد دخلها معنى صرف . ومنه قول الآخر( {[225]} ) : [ نحيف العامري ] : [ الوافر ]
إذا رضيت عليّ بنو قشيرٍ . . . لعمر اللَّهِ أعجبني رضاها
لما كانت رضيت قد تضمنت معنى أقبلت علي( {[226]} ) .
وأما الكسائي فقال في هذا البيت : «وصل رضي بوصل نقيضه وهو سخط وقد تجرى أمور في اللسان مجرى نقائضها »( {[227]} ) .
ووجه قراءة قتادة المبالغة في الخدع ، إذ هو مصير إلى عذاب الله .
قال الخليل : «يقال خادع من واحد لأن في المخادعة مهلة ، كما يقال عالجت المريض لمكان المهلة » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا من دقيق نظره وكأنه يرد فاعل( {[228]} ) إلى الاثنين ، ولا بد من حيث ما فيه مهلة ومدافعة ومماطلة ، فكأنه يقاوم في المعنى الذي تجيء فيه فاعل .
وقوله تعالى : { وما يشعرون } معناه وما يعلمون علم تفطن وتهد ، وهي لفظة مأخوذة من الشعار كأن الشيء المتفطن له شعار للنفس ، والشعار الثوب الذي يلي جسد الإنسان ، وهو مأخوذ من الشعر ، والشاعر المتفطن لغريب المعاني .
وقولهم : «ليت شعري » معناه ليت فطنتي تدرك ، ومن هذا المعنى قول الشاعر : [ المنخل الهذلي ] .
عقوا بسهمٍ فلم يشعرْ به أحدٌ . . . ثم استفاؤوا قالوا حبّذا الوضح( {[229]} )
واختلف ما الذي نفى الله عنهم أن يشعروا له( {[230]} ) ؟ فقالت طائفة : «وما يشعرون أن ضرر تلك المخادعة راجع عليهم لخلودهم في النار » .
وقال آخرون : «وما يشعرون أن الله يكشف لك سرهم ومخادعتهم في قولهم آمنا » .