127- قد استفتى الناس النبي في شأن النساء وكنَّ ولا يزلن ضعيفات ، فبيَّن الله لنبيه أن يبين حال النساء وحال الضعفاء في الأسرة من الولدان واليتامى ، وذكر أن يتامى النساء اللاتي يُزوجن ولا يأخذن مهورهن ، والأولاد ، واليتامى ، كل هؤلاء يعاملون بالعدل والرحمة والرعاية ، وأن كل ما يفعل من خير فإن الله يعلمه وهو الذي سيجزى به .
علاج رواسب الجاهلية فيما يختص بالمرأة والأسرة هذا الدرس تكمله لما بدأت به السورة من علاج رواسب المجتمع الجاهلي ، فيما يختص بالمرأة والأسرة ؛ وفيما يختص بمعاملة الضعاف في المجتمع كاليتامى والأطفال . وتنقية المجتمع المسلم من هذه الرواسب ؛ من الجاهلية ، وإشفاق من كل ما كان فيها من تقاليد وعادات وأوضاع وأحكام . مع شدة إحساسهم بقيمة هذا التغيير الكامل الذي أنشأه الإسلام في حياتهم . أو بتعبير أدق بقيمة هذا الميلاد الجديد الذي ولدوه على يدي الإسلام .
وهنا نجد جزاء تطلعهم لله ، وجزاء حرارتهم ، وصدق عزيمتهم على الاتباع . . نجد جزاء هذا كله عناية من الله ورعاية . . بأنه سبحانه - بذاته العلية - يتولى إفتاءهم فيما يستفتون فيه :
( ويستفتونك في النساء . قل الله يفتيكم فيهن . . . ) . .
فهم كانوا يستفتون الرسول [ ص ] والله - سبحانه - يتفضل فيقول للنبي [ ص ] قل : إن الله يفتيكم فيهن وفي بقية الشؤون التي جاء ذكرها في الآية . وهي لفتة لها قيمتها التي لا تقدر ، في عطف الله سبحانه ، وتكريمه للجماعة المسلمة ؛ وهو يخاطبها بذاته ؛ ويرعاها بعينه ؛ ويفتيها فيما تستفتي ، وفيما تحتاج إليه حياتها الجديدة .
وقد تناولت الفتوى هنا تصوير الواقع المترسب في المجتمع المسلم من الجاهلية التي التقطه المنهج الرباني منها . كما تناولت التوجيه المطلوب ، لرفع حياة المجتمع المسلم وتطهيرها من الرواسب .
( قل الله يفتيكم فيهن ؛ وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن ، وترغبون أن تنكحوهن . والمستضعفين من الولدان . وأن تقوموا لليتامى بالقسط . . ) .
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية : كان الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة فيلقي عليها ثوبه . فإذا فعل ذلك فلم يقدر أحد أن يتزوجها أبدا . وإن كانت جميلة وهويها تزوجها ، وأكل مالها . وإن كانت دميمة منعها الرجال أبد حتى تموت . فإذا ماتت ورثها . فحرم الله ذلك ونهى عنه . . وقال في قوله : ( والمستضعفين من الولدان ) كانوا في الجاهلية لا يورثون الصغار ولا البنات . وذلك قوله : لا تؤتونهن ما كتب لهن . . فنهى الله عن ذلك ؛ وبين لكل ذي سهم سهمه فقال : للذكر مثل حظ الأنثيين ، صغيرا أو كبيرا . .
وقال سعيد بن جبير في قوله : ( وأن تقوموا لليتامى بالقسط ) . . كما إذا كانت ذات جمال وقال نكحتها واستأثرت بها ، كذلك وإذا لم تكن ذات مال ولا جمال فأنكحها واستأثر بها .
وعن عائشة - رضي الله عنها - : ويستفتونك في النساء . قل الله يفتيكم فيهن . - إلى قوله : ( وترغبون أن تنكحوهن ) قالت عائشة : هو الرجل تكون عنده اليتيمة ، هو وليها ووارثها ، فأشركته في ماله ، حتى في العذق ، فيرغب أن ينكحها ويكره أن يزوجها رجلا فيشركه في ماله بما شركته ، فيعضلها فنزلت الآية [ أخرجه البخاري ومسلم ] .
وقال ابن أبي حاتم : قرأت مع محمد بن عبدالله بن عبد الحكم ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني يونس عن ابن شهاب ، أخبرني عروة بن الزبير قالت عائشة : " ثم إن الناس استفتوا رسول الله [ ص ] بعد هذه الآية فيهن . فأنزل الله : ( ويستفتونك في النساء قل : الله يفتيكم فيهن ، وما يتلى عليكم في الكتاب ) . . . الآية . . قالت . والذي ذكر الله أنه يتلى في الكتاب : الآية الأولى التي قال الله : ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء . . . ) . وبهذا الإسناد عن عائشة قالت : " وقول الله عز وجل :
( وترغبون أن تنكحوهن ) . . رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال . فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء - إلا بالقسط - من أجل رغبتهم هن " .
وظاهر من هذه النصوص ، ومن النص القرآني . ما كان عليه الحال في الجاهلية ؛ فيما يختص بالفتيات اليتيمات . فقد كانت اليتيمة تلقى من وليها الطمع والغبن : الطمع في مالها ، والغبن في مهرها - إن هو تزوجها - فيأكل مهرها ويأكل مالها . والغبن إن لم يتزوجها كراهية لها لأنها دميمة . ومنعها أن تتزوج حتى لا يشاركه زوجها فيما تحت يده من مالها !
كذلك كان الحال في الولدان الصغار والنساء ، إذ كانوا يحرمونهم من الميراث لأنهم لا يملكون القوة التي يدفعون بها عن ميراثهم ؛ أو أنهم غير محاربين ، فلا حق لهم في الميراث ، تحت تأثير الشعور القبلي ، الذي يجعل للمحاربين في القبيلة كل شيء . ولا شيء للضعاف !
وهذه التقاليد الشائهة البدائية ، هي التي أخذ الإسلام يبدلها ، وينشى ء مكانها تقاليد إنسانية راقية لا تعد - كما قلنا - مجرد وثبة ، أو نهضة ، في المجتمع العربي . إنما هي في حقيقتها نشأة أخرى ، وميلاد جديد ، وحقيقة أخرى لهذه الأمة غير حقيقتها الجاهلية !
والمهم الذي يجب أن نسجله : هو أن هذه النشأة الجديدة ، لم تكن تطورا مسبوقا بأية خطوات تمهيدية له ؛ أو أنه انبثق من واقع مادي تغير فجأة في حياة هذا الشعب !
فالنقلة من إقامة حقوق الإرث والملك على أساس حق المحارب إلى إقامتها على أساس الحق الإنساني ، وإعطاء الطفل واليتيمة والمرأة حقوقهم بصفتهم الإنسانية ، لا بصفتهم محاربين ! هذه النقلة لم تنشأ لأن المجتمع قد انتقل إلى أوضاع مستقرة لا قيمة فيها للمحاربين . ومن ثم قضى على الحقوق المكتسبة للمحاربين ، لأنه لم يعد في حاجة إلى تمييزهم !
كلا ! فقد كان للمحاربين في العهد الجديد قيمتهم كلها ؛ وكانت الحاجة إليهم ماسة ! ولكن كان هناك . . الإسلام . . كان هناك هذا الميلاد الجديد للإنسان . الميلاد الذي انبثق من خلال كتاب ؛ ومن خلال منهج ؛ فأقام مجتمعا جديدا وليدا . على نفس الأرض . وفي ذات الظروف . وبدون حدوث انقلاب لا في الإنتاج وأدواته ! ولا في المادة وخواصها ! وإنما مجرد انقلاب في التصور هو الذي انبثق منه الميلاد الجديد . وحقيقة أن المنهج القرآني قد كافح . وكافح طويلا . لطمس ومحو معالم الجاهلية في النفوس والأوضاع ، وتخطيط وتثبيت المعالم الإسلامية في النفوس والأوضاع . . وحقيقة كذلك أن رواسب الجاهلية ظلت تقاوم ؛ وظلت تعاود الظهور في بعض الحالات الفردية ؛ أو تحاول أن تعبر عن نفسها في صور شتى . .
ولكن المهم هنا : هو أن المنهج المتنزل من السماء ، والتصور الذي أنشأة هذا المنهج كذلك ، هو الذي كان يكافح " الواقع المادي " ويعدله ويبدله . . ولم يكن قط أن الواقع المادي أو " النقيض " الكامن فيه ؛ أو تبدل وسائل الإنتاج . . أو شيء من هذا " الهوس الماركسي " ! هو الذي اقتضى تغيير التصورات ومناهج الحياة ، وأوضاعها ، لتلائم هذا التبدل الذي تفرضه وسائل الإنتاج !
كان هناك فقط شيء جديد واحد في حياة هذا الشعب . . شيء هبط عليه من الملأ الأعلى . . فاستجابت له نفوس ، لأنه يخاطب فيها رصيد الفطرة ، الذي أودعه الله فيها . . ومن ثم وقع هذا التغيير . بل تم هذا الميلادالجديد للإنسان . الميلاد الذي تغيرت فيه ملامح الحياة كلها . . في كل جانب من جوانبها . . عن الملامح المعهودة في الجاهلية ! ! !
ومهما يكن هناك من صراع قد وقع بين الملامح الجديدة والملامح القديمة . ومهما يكن هناك من آلام للمخاض وتضحيات . . فقد تم هذا كله . لأن هناك رسالة علوية ؛ وتصورا اعتقاديا ؛ هو الذي كان له الأثر الأول والأثر الأخير في هذا الميلاد الجديد . الذي لم تقتصر موجته على المجتمع الإسلامي ؛ ولكن تعدته كذلك إلى المجتمع الإنساني كله
ومن ثم ينتهي هذا النص القرآني الذي يفتي فيه الله المؤمنين ، فيما يستفتون فيه الرسول [ ص ] في أمر النساء ، ويقص عليهم حقوق اليتيمات ، وحقوق الولدان الضعاف . . ينتهي بربط هذه الحقوق وهذه التوجيهات كلها ، بالمصدر الذي جاء من عنده هذا المنهج :
وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليمًا . .
فهو غير مجهول ، وهو غير ضائع . . وهو مسجل عندالله . ولن يضيع خير سجل عند الله .
وهذا هو المرجع الأخير الذي يعود إليه المؤمن بعمله ، والجهة الوحيدة التي يتعامل معها في نيته وجهده . وقوة هذا المرجع ، وسلطانه ، هي التي تجعل لهذه التوجيهات ولهذا المنهج قوته وسلطانه في النفوس ، وفي الأوضاع وفي الحياة .
إنه ليس المهم أن تقال توجيهات ؛ وأن تبتدع مناهج ؛ وأن تقام أنظمة . . إنما المهم هو السلطان الذي ترتكن إليه تلك التوجيهات والمناهج والأنظمة . السلطان الذي تستمد منه قوتها ونفاذها وفاعليتها في نفوس البشر . . وشتان بين توجيهات ومناهج ونظم يتلقاها البشر من الله ذي الجلال والسلطان ، وتوجيهات ومناهج ونظم يتلقونها من العبيد أمثالهم من البشر ! ذلك على فرض تساوي هذه وتلك في كل صفة أخرى وفي كل سمة ؛ وبلوغهما معا أوجا واحدا - وهو فرض ظاهر الاستحالة . ألا إنه ليكفي أن أشعر ممن صدرت هذه الكلمة ، لأعطيها في نفسي ما تستحقه من مكان . . ولتفعل في نفسي ما تفعله كلمة الله العلي الأعلى . أو كلمة الإنسان ابن الإنسان !
{ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّسَآءِ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ وَمَا يُتْلَىَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النّسَآءِ الّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنّ مَا كُتِبَ لَهُنّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَىَ بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنّ اللّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً } . .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ } ويسألك يا محمد أصحابك أن تفتيهم في أمر النساء ، والواجب لهنّ وعليهنّ . فاكتفى بذكر النساء من ذكر شأنهنّ ، لدلالة ما ظهر من الكلام على المراد منه . { قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ } قل لهم يا محمد : الله يفتيكم فيهنّ ، يعني في النساء . { وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ فِي يَتامَى النّساءِ الّلاتِي لا تُؤْتُونَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ } .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : { وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ } فقال بعضهم : يعني بقوله : { وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ } قل الله يفتيكم فيهنّ ، وفيما يتلى عليكم ، قالوا : والذي يتلى عليهم هو آيات الفرائض ، التي في أوّل هذه السورة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام بن سلم ، عن عمرو بن أبي قيس ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ ، قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ } قال : كان أهل الجاهلية لا يورثون المولود حتى يكبر ، ولا يورثون المرأة¹ فلما كان الإسلام قال : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ ، قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ } في أوّل السورة في الفرائض اللاتي لا تؤتونهنّ ما كتب الله لهن .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : { وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ في يَتامَى النّساءِ اللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ } قالت : هذا في اليتيمة تكون عند الرجل لعلهم أن تكون شريكته ، في ماله ، وهو أولى بها من غيره ، فيرغب عنها أن ينكحها ويعضلها لمالها ولا ينكحها غيره كراهية أن يشركه أحد في مالها .
حدثنا ابن وكيع وابن حميد ، قالا : حدثنا جرير ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، قال : كانوا لا يورّثون في الجاهلية النساء والصبيّ حتى يحتلم ، فأنزل الله : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ ، قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ فِي يَتامَى النّساءِ } في أوّل سورة النساء من الفرائض .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن شعبة ، قال : كانوا في الجاهلية لا يورثون اليتيمة ولا ينكحونها ويعضلونها ، فأنزل الله : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ ، قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ } . . . إلى آخر الاَية .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : أخبرني الحجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع سعيد بن جبير يقول في قوله : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ ، قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ في يَتامَى النّساءِ اللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ } . . . الاَية ، قال : كان لا يرث إلا الرجل الذي قد بلغ ، لا يرث الرجل الصغير ، ولا المرأة¹ فلما نزلت آية المواريث في سورة النساء ، شقّ ذلك على الناس ، وقالوا : يرث الصغير الذي لا يعمل في المال ولا يقوم فيه ، والمرأة هي كذلك فيرثان كما يرث الرجل الذي يعمل في المال ! فرجوا أن يأتي في ذلك حدث من السماء ، فانتظروا فلما رأوا أنه لا يأتي حدث ، قالوا : لئن تمّ هذا إنه لواجب ما منه بدّ ، ثم قالوا : سلوا ! فسألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ ، قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ } في أوّل السورة : { في يَتامَى النّساءِ اللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ } . قال سعيد بن جبير : وكان الولي إذا كانت المرأة ذات جمال ومال رغب فيها ونكحها واستأثر بها ، وإذا لم تكن ذات جمال ومال أنكحها ولم يَنْكِحْها .
حدثنا ابن حميد وابن وكيع ، قالا : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ ، قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ في يَتامَى النّساءِ اللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ } قال : كانوا إذا كانت الجارية يتيمة دميمة لم يعطوها ميراثها وحبسوها عن التزويج حتى تموت ، فيرثوها ، فأنزل الله هذا .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم في قوله : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ ، قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ } قال : كان الرجل منهم تكون له اليتيمة بها الدمامة والأمر الذي يرغب عنها فيه ولها مال ، قال : فلا يتزوّجها ولا يزوّجها حتى تموت فيرثها ، قال : فنهاهم الله عن ذلك .
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا عبد الله ، عن إسرائيل ، عن السديّ ، عن أبي مالك : { وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ في يَتامَى النّساءِ اللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ } قال : كانت المرأة إذا كانت عند وليّ يرغب عنها حبسها أن لم يتزوّجها ولم يدع أحدا يتزوّجها .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { في يَتامَى النّساءِ اللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ } قال : كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصبيان شيئا ، كانوا يقولون : لا يغزون ولا يغنمون خيرا ، ففرض الله لهنّ الميراث حقا واجبا ، ليتنالفس أو لينفس الرجل في مال يتيمته إن لم تكن حسنة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه .
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ ، قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ } يعني الفرائض التي افترض في أمر النساء اللاتي لا تؤتونهنّ ما كتب لهن ، { وتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ } قال : كانت اليتيمة تكون في حجر الرجل ، فيرغب أن ينكحها ، أو يجامعها ولا يعطيها مالها ، رجاء أن تموت فيرثها ، وإن مات لها حميم لم تعط من الميراث شيئا ، وكان ذلك في الجاهلية ، فبين الله لهم ذلك .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ ، قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ } حتى بلغ : { وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ } فكان الرجل تكون في حجره اليتيمة بها دمامة ولها مال ، فكان يرغب عنها أن يتزوّجها ويحبسها لمالها ، فأنزل الله فيه ما تسمعون .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ ، قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ } قال : كانت اليتيمة تكون في حجر الرجل فيها دمامة ، فيرغب عنها أن ينكحها ، ولا يُنكحها رغبة في مالها .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : { وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ في يَتامَى النّساءِ اللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ } . . . إلى قوله : { بالقِسْطِ } قال : كان جابر بن عبد الله الأنصاريّ ثم السلميّ له ابنة عمّ عمياء ، وكانت دميمة ، وكانت قد ورثت عن أبيها مالاً ، فكان جابر يرغب عن نكاحها ولا ينكحها رهبة أن يذهب الزوج بمالها ، فسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك . وكان ناس في حجورهم جوار أيضا مثل ذلك ، فجعل جابر يسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم ، أترث الجارية إذا كانت قبيحة عيماء ؟ فجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول «نعم » ، فأنزل الله فيهنّ هذا .
وقال آخرون : معنى ذلك : ويستفتونك في النساء ، قل الله يفتيكم فيهنّ ، وفيما يتلى عليكم في الكتاب في آخر سورة النساء ، وذلك قوله : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلالَة } . . . إلى آخر السورة . ذكر من قال ذلك :
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سلام بن سليم ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن حبير قال : كان أهل الجاهلية لا يورثون الولدان حتى يحتلموا ، فأنزل الله : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ } إلى قوله : { فَأنّ اللّهَ كانَ بِهِ عَلِيما } قال : ونزلت هذه الاَية : { إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ } . . . الاَية كلها .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ويستفتونك في النساء ، قل الله يفتيكم فيهنّ وفيما يتلى عليكم في الكتاب ، يعني في أوّل هذه السورة ، وذلك قوله : { وَإنْ خِفْتُمْ ألاّ تُقْسِطُوا فِي اليَتامَى فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ } . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني عروة بن الزبير أنه سأل عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، عن قول الله : { وَإنْ خِفْتُمْ ألاّ تُقْسِطُوا فِي اليْتَامَى فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ } قالت : يا ابن أختي هيْ اليتيمة تكون في حجر وليها ، تشاركه في ماله ، فيعجبه مالها وجمالها ، فيريد وليها أن يتزوّجها بغير أن يقسط في صداقها ، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره ، فنهوا أن ينكحوهنّ إلا أن يقسطوا لهنّ ويبلغوا بهنّ أعلى سنتهنّ من الصداق ، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهنّ . قال عروة : قالت عائشة : ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الاَية فيهنّ ، فأنزل الله : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ ، قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ في يَتامَى النّساءِ اللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ } قالت : والذي ذكر الله أنه يتلى في الكتابِ الاَية الأولى التي قال فيها : { وَإنْ خِفْتُمْ ألاّ تُقْسِطُوا فِي اليْتَامَى فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني الليث ، قال : ثني يونس ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة ، مثله .
فعلى هذه الأقوال الثلاثة التي ذكرناها «ما » التي في قوله : { وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ } في موضع خفض بمعنى العطف على الهاء والنون التي في قوله : { يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ } فكأنهم وجهوا تأويل الاَية : قل الله يفتيكم أيها الناس في النساء ، وفيما يتلى عليكم في الكتاب .
وقال آخرون : نزلت هذه الاَية على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم من أصحابه سألوه عن أشياء من أمر النساء ، وتركوا المسألة عن أشياء أخر كانوا يفعلونها ، فأفتاهم الله فيما سألوا عنه وفيما تركوا المسألة عنه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى وسفيان بن وكيع ، قال سفيان : حدثنا عبد الأعلى ، وقال ابن المثنى : ثني عبد الأعلى قال : حدثنا داود ، عن محمد بن أبي موسى في هذه الاَية : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ } قال : استفتوا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم في النساء ، وسكتوا عن شيء كانوا يفعلونه ، فأنزل الله : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ ، قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ } ويفتيكم فيما لم تسألوا عنه . قال : كانوا لا يتزوجون اليتيمة إذا كان بها دمامة ، ولا يدفعون إليها مالها فتنفق ، فنزلت : { قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي النّساءِ وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ في يَتامَى النّساءِ اللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ } قال : والمستضعفين من الولدان . قال : كانوا يورثون الأكابر ولا يورثون الأصاغر ، ثم أفتاهم فيما سكتوا عنه ، فقال : { وَإنِ امْرأةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزا أوْ أعْرَاضا فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحا وَالصّلْحُ خَيْرٌ } ، ولفظ الحديث لابن المثنى .
قال أبو جعفر : فعلى هذا القول الذي يتلى علينا في الكتاب الذي قال الله جل ثناؤه : { قُلِ اللّهُ يُفْتيكُمْ فِيهِنّ وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ } : { وَإنِ امْرأةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزا أوْ إعْرَاضا } . . . الاَية ، والذي سأل القوم فأجيبوا عنه في يتامى النساء اللاتي كانوا لا يؤتونهنّ ما كتب الله لهنّ من الميراث عمن ورثنه عنه .
وأولى هذه الأقوال التي ذكرنا عمن ذكرناها عنه بالصواب وأشبهها بظاهر التنزيل قول من قال : معنى قوله : { وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ } : وما يتلى عليكم من آيات الفرائض في أوّل هذه السورة وآخرها .
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ، لأن الصداق ليس مما كتب للنساء إلا بالنكاح ، فما لم تنكح فلا صداق لها قِبَلَ أحَد ، وإذا لم يكن ذلك لها قِبَل أحد لم يكن مما كتب لها ، وإذا لم يكن مما كتب لها ، لم يكن لقول قائل عني بقوله : { وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ } : الإقساط في صدقات يتامى النساء وجه ، لأن الله قال في سياق الاَية مبينا عن الفتيا التي وعدنا أن يفتيناها في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهنّ ما كتب لهنّ ، فأخبر أن بعض الذي يفتينا فيه من أمر النساء أمر اليتيمة المحول بينها وبين ما كتب الله لها ، والصداق قبل عقد النكاح ليس مما كتب الله لها على أحد ، فكان معلوما بذلك أن التي عنيت بهذه الاَية هي التي قد حيل بينها وبين الذي كتب لها مما يتلى علينا في كتاب الله . فإذا كان ذلك كذلك ، كان معلوما أن ذلك هو الميراث الذي يوجبه الله لهن في كتابه . فأما الذي ذكر عن محمد بن أبي موسى ، فإنه مع خروجه من قول أهل التأويل ، بعيد مما يدلّ عليه ظاهر التنزيل ، وذلك أنه زعم أن الذي عنى الله بقوله : { وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ } هو { وَإنِ امْرأةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزا أوْ إعْرَاضا } ، وإذا وجه الكلام إلى المعنى الذي تأوّله صار الكلام مبتدأ من قوله : { في يَتامَى النّساءِ اللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ } ترجمة بذلك عن قوله { فِيهِنّ } ويصير معنى الكلام : قل الله يفتيكم فيهن في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهنّ ، ولا دلالة في الاَية على ما قاله ، ولا أثر عمن يعلم بقوله صحة ذلك . وإذا كان ذلك كذلك ، كان وصل معاني الكلام بعضه ببعض أولى ما وجد إليه سبيل . فإذا كان الأمر على ما وصفنا ، فقوله : { فِي يَتامَى النّساءِ } بأن يكون صلة لقوله : { وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ } أولى من أن يكون ترجمة عن قوله : { قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ } لقربه من قوله : { وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ } ، وانقطاعه عن قوله : { يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ } . وإذ كان ذلك كذلك ، فتأويل الاَية : ويستفتونك في النساء ، قل الله يفتيكم فيهنّ ، وفيما يتلى عليكم فِي كتابِ الله الذي أنزله على نبيه في أمر يتامى النساء اللاتي لا تعطونهنّ ما كتب لهنّ ، يعني : ما فرض الله لهنّ من الميراث عمن ورثنه . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { لا تُؤْتُونَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ } قال : لا تورثونهن .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قوله : { لاَ تُؤْتُونَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ } قال : من الميراث ، قال : كانوا لا يورثون النساء ، وترغبون أن تنكحوهن .
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : { وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ } فقال بعضهم : معنى ذلك : وترغبون عن نكاحهنّ . وقد مضى ذكر جماعة ممن قال ذلك ، وسنذكر قول آخرين لم نذكرهم .
حدثنا حميد بن مسعدة الساميّ ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا عبيد الله بن عون ، عن الحسن : { وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ } قال : ترغبون عنهنّ .
حدثنا يعقوب وابن وكيع ، قالا : حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ، عن الحسن ، مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، قال : قالت عائشة في قوله الله : { وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ } : رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال ، فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، يعني ابن صالح ، قال : ثني الليث ، قال : ثني يونس ، عن ابن شهاب ، قال : قال عروة ، قالت عائشة ، فذكر مثله .
وقال آخرون : معنى ذلك : وترغبون في نكاحهنّ . وقد مضى ذكر جماعة ممن قال ذلك قبل ، ونحن ذاكرو قول من لم نذكر منهم .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا ابن عون عن محمد ، عن عبيدة : { وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ } قال : وترغبون فيهن .
حدثني يعقوب بن إبراهيم وابن وكيع ، قالا : حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ، عن محمد ، قال : قلت لعبيدة : { وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ } قال : ترغبون فيهنّ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس في قوله : { فِي يَتامَى النّساءِ اللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ } فكان الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة فيلقى عليها ثوبه ، فإذا فعل بها ذلك لم يقدر أحد أن يتزوّجها أبدا ، فإن كانت جميلة وهويها تزوّجها وأكل مالها ، وإن كانت دميمة منعها الرجل أبدا حتى تموت فإذا ماتت ورثها ، فحرّم الله ذلك ونهى عنه .
قال أبو جعفر : وأولى القولين بتأويل الاَية قول من قال : معنى ذلك : وتَرْغَبُونَ عَنْ أنْ تَنْكِحُوهُنّ ، لأن حبسهم أموالهن عنهنّ ، مع عضلهم إياهنّ إنما كان ليرثوا أموالهن دون زوج إن تزوّجن . ولو كان الذين حبسوا عنهنّ أموالهنّ إنما حبسوها عنهنّ رغبة في نكاحهنّ ، لم يكن للحبس عنهنّ وجه معروف ، لأنهم كانوا أولياءهن ، ولم يكن يمنعهم من نكاحهنّ مانع فيكون به حاجة إلى حبس مالها عنها ليتخذ حبسها عنها سببا إلى إنكاحها نفسها منه .
القول في تأويل قوله : { وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الوِلْدَانِ وأنْ تَقُومُوا لليَتامَى بالقِسْطِ } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : ويستفتونك في النساء ، قل الله يفتيكم فيهنّ وفيما يتلى عليكم في الكتاب ، وفي المستضعفين من الولدان ، وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط . وقد ذكرنا الرواية بذلك عمن قاله من الصحابة والتابعين فيما مضى ، والذي أفتاهم في أمر المستضعفين من الولدان أن يؤتوهم حقوقهم من الميراث لأنهم كانوا لا يورثون الصغار من أولاد الميت ، وأمرهم أن يقسطوا فيهم فيعدلوا ويعطوهم فرائضهم على ما قسم الله لهم في كتابه . كما :
حدثنا محمد بن السحين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : { والمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الوِلْدَانِ } كانوا لا يورثون جارية ولا غلاما صغيرا ، فأمرهم الله أن يقوموا لليتامى بالقسط . والقسط : أن يعطى كلّ ذي حقّ منهم حقه ، ذكرا كان أو أنثى ، الصغير منهم بمنزلة الكبير .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ ، قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ في يَتامَى النّساءِ اللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ } قال : لا تورثونهنّ مالاً ، { وأنْ تَقُومُوا للْيَتامَى بالقِسْطِ } قال : فدخل النساء والصغير والكبير في المواريث ، ونسخت المواريث ذلك الأوّل .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وأنْ تَقُومُوا للْيَتامَى بالقِسْطِ } أمروا لليتامى بالقسط : بالعدل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن السديّ ، عن أبي مالك : { والمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الِولْدَانِ وأنْ تَقُومُوا للْيَتامَى بالقِسْطِ } قال : كانوا لا يورثون إلا الأكبر فالأكبر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : { والمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الوِلْدانِ } فكانوا في الجاهلية لا يورّثون الصغار ولا البنات ، فذلك قوله : { لا تُؤْتُوَنَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ } فنهى الله عن ذلك ، وبين لكل ذي سهم سهمه ، فقال : { للذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأُنْثَيينِ } صغيرا كان أو كبيرا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : { والمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الوِلْدَانِ ، وأنْ تَقُومُوا للْيَتامَى بالقِسْطِ } وذلك أنهم كانوا لا يورّثون الصغير والضعيف ، شيئا ، فأمر الله أن يعطيه نصيبه من الميراث .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة عن إبراهيم : أن عمر بن الخطاب كان إذا جاءه وليّ اليتيمة فإن كانت حسنة غنية قال له عمر : زوّجها غيرك ، والتمس لها مَن هو خير منك ! وإذا كانت بها دَمامة ولا مال لها ، قال : تزوّجها فأنت أحقّ بها ! .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا يونس بن عبيد ، عن الحسن ، قال : جاء رجل إلى عليّ بن أبي طالب ، فقال : يا أمير المؤمنين ما أمري ، وما أمر يتيمتي ؟ قال : في أيّ بالُكما ؟ قال : ثم قال علي : أمتزوّجها أنت غنية جميلة ؟ قال : نعم والإلهِ ! قال : فتزوّجها دميمة لا مال لها ! ثم قال عليّ : تزوّجها إن كنت خيرا لها ، فإن كان غيرك خيرا لها فألحقها بالخير .
قال أبو جعفر : فقيامهم لليتامي بالقسط كان العدل فيما أمر الله فيهم .
القول في تأويل قوله : { وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فإنّ اللّهَ كانَ بِهِ عَلِيما } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : ومهما يكن منكم أيها المؤمنون من عدل في أموال اليتامى التي أمركم الله أن تقوموا فيهم بالقسط ، والانتهاء إلى أمر الله في ذلك ، وفي غيره ، وإلى طاعته ، فإن الله كان به عليما لم يزل عالما بما هو كائن منكم ، وهو محصٍ ذلك كله عليكم ، حافظ له ، حتى يجازيَكم به جزاءكم يوم القيامة .
وقوله تعالى : { ويستفتونك } الآية ، نزلت بسبب سؤال قوم من الصحابة عن أمر النساء وأحكامهن في المواريث وغير ذلك ، فأمر الله نبيه أن يقول لهم { الله يفتيكم فيهن } أي يبين لكم حكم ما سألتم عنه وقوله تعالى { وما يتلى عليكم } يحتمل { ما } أن تكون في موضع خفض عطفاً على الضمير في قوله { فيهن } ، أي : «ويفتيكم فيما يتلى عليكم » ، قاله محمد بن أبي موسى ، وقال : أفتاهم الله فيما سألوا عنه وفيما لم يسألوا عنه ، ويضعف هذا التأويل ما فيه من العطف على الضمير المخفوض بغير إعادة حرف الخفض{[4303]} ، ويحتمل أن تكون { ما } في موضع رفع عطفاً على اسم الله عز وجل ، أي و «يفتيكم ما يتلى عليكم في الكتاب » ، يعني القرآن ، والإشارة بهذا إلى ما تقدم من الآيات في أمر النساء ، وهو قوله تعالى في صدر السورة { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء } [ النساء : 3 ] قالت عائشة : نزلت هذه الآية أولاً ، ثم سأل ناس بعدها رسول الله صلى الله عيله وسلم عن أمر النساء فنزلت : { ويستفتونك في النساء ، قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم }{[4304]} .
وقوله تعالى { في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن } معناه : النهي عما كانت العرب تفعله من ضم اليتيمة الجميلة الغنية بدون ما تستحقه من المهر ، ومن عضل{[4305]} الدميمة الفقيرة أبداً ، والدميمة الغنية حتى تموت فيرثها العاضل ، ونحو هذا مما يقصد به الولي منفعة نفسه لا نفع اليتيمة ، والذي كتب الله لهن هو توفية ما تستحقه من مهر ، وإلحاقها بأقرانها ، وقرأ أبو عبد الله المدني - «في ييامى النساء » بياءين ، قال أبو الفتح : والقول في هذه القراءة أنه أراد أيامى فقلبت الهمزة ياء ، كما قلبت في قولهم : باهلة بن يعصر ، وإنما هو ابن أعصر لأنه إنما يسمى بقوله : [ الكامل ]
أبُنَيّ إن أَبَاكَ غَيَّرَ لَوْنَه *** كَرُّ الليالي واختلافُ الأعْصُرِ{[4306]}
وكما قلبت الياء همزة في قولهم : قطع الله أده ، يريدون يده ، وأيامى : جمع أيم أصله : أيايم ، قلبت اللام موضع العين ، فجاء أيامى ، ثم أبدلت من الكسرة فتحة ومن الياء ألف .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : يشبه أن الداعي إلى هذا استثقال الضمة على الياء ، قال أبو الفتح : ولو قال قائل كسر أيم على أيمى على وزن سكرى وقتلى من حيث الأيومة بلية تدخل كرهاً ، ثم كسر أيمى على أيامى لكان وجهاً حسناً ، وقوله تعالى { وترغبون أن تنكحوهن } إن كانت الجارية غنية جميلة فالرغبة في نكاحها ، وإن كانت بالعكس فالرغبة عن نكاحها ، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأخذ الناس بالدرجة الفضلى في هذا المعنى ، فكان إذا سأل الولي عن وليته فقيل : هي غنية جميلة ، قال له : أطلب لها من هو خير منك وأعود عليها بالنفع ، وإذا قيل له : هي دميمة فقيرة ، قال له : أنت أولى بها وبالستر عليها من غيرك ، وقوله تعالى { والمستضعفين من الولدان } عطف على { يتامى النساء } ، والذي ُتلي{[4307]} في { المستضعفين من الولدان } هو قوله تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم }{[4308]} ، وذلك : أن العرب كانت لا تورث الصبية ولا الصبي الصغير ، وكان الكبير ينفرد بالمال ، وكانوا يقولون : إنما يرث المال من يحمي الحوزة ، ويرد الغنيمة ، ويقاتل عن الحريم ، ففرض الله لكل أحد حقه ، وقوله تعالى : { وأن تقوموا لليتامى بالقسط } عطف أيضاً على ما تقدم ، والذي ُتلي في هذا المعنى هو قوله تعالى : { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم }{[4309]} إلى غير ذلك مما ذكر في مال اليتيم ، والقسط العدل ، وباقي الآية وعد على فعل الخير بالجزاء الجميل ، بّيِّنٌ .