بعدئذ يذكر قصة هذا المنهج الإلهي ومراحلها في الرسالات قبل الإسلام .
( وإذ قال موسى لقومه : يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم ? فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ، والله لا يهدي القوم الفاسقين ) .
وإذ قال عيسى بن مريم : يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد . .
وإيذاء بني إسرائيل لموسى - وهو منقذهم من فرعون وملئه ، ورسولهم وقائدهم ومعلمهم - إيذاء متطاول متعدد الألوان ، وجهاده في تقويم اعوجاجهم جهاد مضن عسير شاق . ويذكر القرآن في قصص بني إسرائيل صورا شتى من ذلك الإيذاء ومن هذا العناء .
كانوا يتسخطون على موسى وهو يحاول مع فرعون إنقاذهم ، ويتعرض لبطشه وجبروته وهم آمنون بذلتهم له ! فكانوا يقولون له لائمين متبرمين : ( أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا ) ! كأنهم لا يرون في رسالته خيرا ، أو كأنما يحملونه تبعة هذا الأذى الأخير !
وما كاد ينقذهم من ذل فرعون باسم الله الواحد الذي أنقذهم من فرعون وأغرقه وهم ينظرون . . حتى مالوا إلى عبادة فرعون وقومه . . ( فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا : يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ) . . وما كاد يذهب لميقات ربه على الجبل ليتلقى الألواح ، حتى أضلهم السامري : ( فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا : هذا إلهكم وإله موسى فنسي ! ) . .
ثم جعلوا يتسخطون على طعامهم في الصحراء : المن والسلوى . فقالوا : ( يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها ) !
وفي حادث البقرة التي كلفوا ذبحها ظلوا يماحكون ويتعللون ويسيئون الأدب مع نبيهم وربهم وهم يقولون : ( ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ) . . ( ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها ) . . ( ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا ) . . ( فذبحوها وما كادوا يفعلون ) !
ثم طلبوا يوم عطلة مقدسا فلما كتب عليهم السبت اعتدوا فيه .
وأمام الأرض المقدسة التي بشرهم الله بدخولها وقفوا متخاذلين يصعرون خدهم في الوقت ذاته لموسى : ( قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين ، وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون ) . . فلما كرر عليهم التحضيض والتشجيع تبجحوا وكفروا : ( قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ) . .
ذلك إلى إعنات موسى بالأسئلة والاقتراحات والعصيان والتمرد ، والاتهام الشخصي بالباطل كما جاء في بعض الأحاديث .
وتذكر الآية هنا قول موسى لهم في عتاب ومودة :
( يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم ? ) . .
وهم كانوا يعلمون عن يقين . . إنما هي لهجة العتاب والتذكير . .
وكانت النهاية أنهم زاغوا بعدما بذلت لهم كل أسباب الاستقامة ، فزادهم الله زيغا ، وأزاغ قلوبهم فلم تعد صالحة للهدى . وضلوا فكتب الله عليهم الضلال أبدا : ( والله لا يهدي القوم الفاسقين ) . .
وبهذا انتهت قوامتهم على دين الله ، فلم يعودوا يصلحون لهذا الأمر ، وهم على هذا الزيغ والضلال .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ مُوسَىَ لِقَوْمِهِ يَقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تّعْلَمُونَ أَنّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمّا زَاغُوَاْ أَزَاغَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واذكر يا محمد إذْ قالَ مُوسَى بن عمران لِقَوْمِهِ يا قَوْم لِمَ تُوءْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ حقا أنُى رَسُولُ اللّهُ إلَيْكُمْ .
وقوله : { فَلَمّا زَاغُوا أزَاغَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ } يقول : فلما عدلوا وجاروا عن قصد السبيل أزاغ الله قلوبهم : يقول : أمال الله قلوبهم عنه وقد :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا العوّام ، قال : حدثنا أبو غالب ، عن أبي أمامة في قوله : { فَلَمّا زَاغُوا أزَاغَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ } قال : هم الخوارج .
{ وَاللّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ }يقول : والله لا يوفّق لإصابة الحقّ القوم الذين اختاروا الكفر على الإيمان .
{ وإذ قال موسى لقومه }مقدرا بأذكر أو كان كذا { يا قوم لم تؤذونني } بالعصيان والرمي بالادرة ، { وقد تعلمون أني رسول الله إليكم } بما جئتكم من المعجزات ، والجملة حال مقررة للإنكار فإن العلم بنبوته يوجب تعظيمه ويمنع إيذاءه وقد لتحقيق العلم ، { فلما زاغوا }عن الحق{ أزاغ الله قلوبهم }صرفها عن قبول الحق والميل إلى الصواب ، { والله لا يهدي الفاسقين }هداية موصلة إلى معرفة الحق أو إلى الجنة .
ثم ذكر الله تعالى مقالة موسى وذلك ضرب مثل للمؤمنين الذين يقولون ما لا يفعلون ذكرهم الله تعالى بقوم آذوا نبيهم على علم منهم بنبوته و { زاغوا } ف { أزاغ الله قلوبهم } ، أي فاحذروا أيها المؤمنون أن يصيركم العصيان ، وقول الباطل إلى مثل حالهم ، وقال أبو أمامة : هم الخوارج ، وقال سعد بن أبي وقاص : هم الحرورية ، المعنى : أنهم أشباههم في أنهم لما { زاغوا أزاغ الله قلوبهم } ، وقوله :{ لم تؤذونني } تقرير ، والمعنى { تؤذونني } بتعنيتكم وعصيانكم واقتراحاتكم ، وهذه كانت أفعال بني إسرائيل ، وانظر إنه تعالى أسند الزيغ إليهم لكونه فعل حطيطة{[11072]} ، كما قال الله تعالى : { نسوا الله فأنساهم أنفسهم }{[11073]} [ الحشر : 19 ] وهذا يخالف قوله تعالى : { ثم تاب عليهم ليتوبوا }{[11074]} [ التوبة : 118 ] فأسند التوبة إلى نفسه لكونها فعل رفعة ومنه قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام : { وإذا مرضت فهو يشفين }{[11075]} [ الشعراء : 80 ] ، و { زاغ } معناه : مال ، وصار عرفها في الميل عن الحق ، و { أزاغ الله قلوبهم } معناه : طبع عليها وختم وكثر ميلها عن الحق ، وهذه العقوبة على الذنب بالذنب ، وأمال ابن أبي إسحاق : { زاغوا } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.