هذه السورة مكية نزلت في مكة ، وتشتمل على 109 آيات ، وقد ابتدأت بالإشارة إلى مكانة الكتاب الكريم ، وما يقوله المشركون في شأن النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر الكون وآيات الله تعالى فيه ، والجزاء يوم القيامة ، وسنة الله تعالى بالنسبة للكافرين ، والتنديد عليهم في عقائدهم ، وحال الناس في الضراء والسراء ، وقدرة الله تعالى على كل شيء ، وعجز الأوثان عن أي سيء . وفيها الإشارة إلى التحدي بأن يأتوا بسورة ولو مفتراة ، وفيها التهديد الشديد بعذاب الله تعالى ، وأحوال نفوس الناس ، ومراقبة الله تعالى لأعمالهم ، وانتقلت بعد ذلك إلى التسرية عن النبي صلى الله عليه وسلم لألمه من كفرهم ، مع قيام الحجة القاطعة عليهم ، وسري عنه بذكر قصص الأنبياء مع أقوامهم ، فجاءت قصة نوح ، وقصة موسى وهارون وفرعون وبني إسرائيل ، ثم إشارة إلى قصة يونس ، وبها سميت السورة ، واتجه البيان في السورة من بعد ذلك إلى النبي لتمام العظة والاعتبار .
1- هذه حروف بدأ الله تعالى بها السورة ، وهو أعلم بمراده منها ، وهي مع ذلك تشير إلى أن القرآن مُكَوَّن من مثل هذه الحروف ، ومع ذلك عجزتم عن أن تأتوا بمثله ، وهذه الحروف الصوتية تثير انتباه المشركين فيستمعون إليه ، وإن اتفقوا على عدم استماع هذه الآيات الكريمة ونحوها التي هي آيات القرآن المحكم في أسلوبه ومعانيه ، الذي اشتمل على الحكمة وما ينفع الناس في أمور دينهم ودنياهم .
{ 1 - 2 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ }
يقول تعالى : { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ } وهو هذا القرآن ، المشتمل على الحكمة والأحكام ، الدالة آياته على الحقائق الإيمانية والأوامر والنواهي الشرعية ، الذي على جميع الأمة تلقيه بالرضا والقبول والانقياد .
[ وهي مكية ]{[1]}
أما الحروف المقطعة في أوائل السور ، فقد تقدم الكلام عليها [ مستوفى ]{[14043]} في أوائل{[14044]} سورة البقرة .
وقال أبو الضحى ، عن ابن عباس في قوله تعالى : " الر " ، أي : أنا الله أرى . وكذا قال الضحاك وغيره .
{ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ } أي : هذه آيات القرآن المحكم المبين وقال مجاهد : { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ } [ قال : التوراة والإنجيل ]{[14045]} . [ وقال الحسن : التوراة والزبور ]{[14046]} . وقال قتادة : { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ } قال : الكتب التي كانت قبل القرآن .
سميت في المصاحف وفي كتب التفسير والسنة سورة يونس لأنها انفردت بذكر خصوصية لقوم يونس ، أنهم آمنوا بعد أن توعدهم رسولهم بنزول العذاب فعفا الله عنهم لما آمنوا . وذلك في قوله تعالى { فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين } . وتلك الخصوصية كرامة ليونس عليه السلام وليس فيها ذكر ليونس غير ذلك . وقد ذكر يونس في سورة الصافات بأوسع مما في هذه السورة ولكن وجه التسمية لا يوجبها .
والأظهر عندي أنها أضيفت إلى يونس تمييزا لها عن أخواتها الأربع المفتتحة ب{ ألر } . ولذلك أضيفت كل واحدة منها إلى نبي أو قوم نبي عوضا عن أن يقال : آلر الأولى وألر الثانية . وهكذا فإن اشتهار السور بأسمائها أول ما يشيع بين المسلمين بأولى الكلمات التي تقع فيها وخاصة إذا كانت فواتحها حروفا مقطعة فكانوا يدعون تلك السور بآل حم وآل ألر ونحو ذلك .
وهي مكية في قول الجمهور . وهو المروي عن ابن عباس في الأصح عنه . وفي الإتقان عن عطاء عنه أنها مدنية . وفي القرطبي عن ابن عباس أن ثلاث آيات منها مدنية وهي قوله تعالى { فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك } إلى قوله { حتى يروا العذاب الأليم } وجزم بذلك القمي النيسابوري . وفي ابن عطية عن مقاتل إلا آيتين مدنيتين هما { فإن كنت في شك إلى قوله من الخاسرين } . وفيه عن الكلبي أن آية واحدة نزلت بالمدينة وهي قوله تعالى { ومنهم من يؤمن به إلى أعلم بالمفسدين } نزلت في شأن اليهود .
وقال ابن عطية : قالت فرقة : نزل نحو من أربعين آية من أولها بمكة ونزل باقيها بالمدينة . ولم ينسبه إلى معين . وأحسب أن هذه الأقوال ناشئة عن ظن أن ما في القرآن من مجادلة مع أهل الكتاب لم ينزل إلا بالمدينة ، فإن كان كذلك فظن هؤلاء مخطئي . وسيأتي التنبيه عليه .
وعدد آيها مائة وتسع آيات في عد أكثر الأمصار ، ومائة وعشر في عد أهل الشام .
وهي السورة الحادية والخمسون في ترتيب نزول السور . نزلت بعد سورة بني إسرائيل وقبل سورة هود . وأحسب أنها نزلت سنة إحدى عشرة بعد البعثة لما سيأتي عند قوله تعالى { وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا } .
ابتدئت بمقصد إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بدلالة عجز المشركين عن معارضة القرآن ، دلالة نبه عليها بأسلوب تعريضي دقيق بني على الكناية بتهجية الحروف المقطعة في أول السورة كما تقدم في مفتتح سورة البقرة ، ولذلك أتبعت تلك الحروف بقوله تعالى { تلك آيات الكتاب الحكيم } إشارة إلى أن إعجازه لهم هو الدليل على أنه من عند الله . وقد جاء التصريح بما كني عنه هنا في قوله { قل فأتوا بسورة مثله } .
وأتبع بإثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وإبطال إحالة المشركين أن يرسل الله رسولا بشرا .
وانتقل من ذلك إلى إثبات انفراد الله تعالى بالإلهية بدلالة أنه خالق العالم ومدبره ، فأفضى ذلك إلى إبطال أن يكون لله شركاء في إلهيته ، وإلى إبطال معاذير المشركين بأن أصنامهم شفعاء عند الله .
وأتبع ذلك بإثبات الحشر والجزاء . فذلك إبطال أصول الشرك .
وتخلل ذلك بذكر دلائل من المخلوقات ، وبيان حكمة الجزاء ، وصفة الجزاء ، وما في دلائل المخلوقات من حكم ومنافع للناس .
ووعيد منكري البعث المعرضين عن آيات الله ، وبضد أولئك وعد الذين آمنوا . فكان معظم هذه السورة يدور حول محور تقرير هذه الأصول .
فمن ذلك التنبيه على أن إمهال الله تعالى الكافرين دون تعجيل العذاب هو حكمة منه .
ومن ذلك التذكير بما حل بأهل القرون الماضية لما أشركوا وكذبوا الرسل .
والاعتبار بما خلق الله للناس من مواهب القدرة على السير في البر والبحر ، وما في أحوال السير في البحر من الإلطاف .
وضرب المثل للدنيا وبهجتها وزوالها ، وأن الآخرة هي دار السلام .
واختلاف أحوال المؤمنين والكافرين في الاخرة ، وتبرؤ الإلهة الباطلة من عبدتها .
وإبطال إلهية غير الله تعالى ، بدليل أنها لا تغني عن الناس شيئا في الدنيا ولا في الآخرة .
وإثبات أن القرآن منزل من الله ، وأن الدلائل على بطلان أن يكون مفترى واضحة .
وتحدي المشركين بأن يأتوا بسورة مثله ، ولكن الضلالة أعمت أبصار المعاندين .
وإنذار المشركين بعواقب ما حل بالأمم التي كذبت بالرسل ، وأنهم إن حل بهم العذاب لا ينفعهم إيمانهم ، وأن ذلك لم يلحق قوم يونس لمصادفة مبادرتهم بالإيمان قبل حلول العذاب .
وتوبيخ المشركين على ما حرموه مما أحل الله من الرزق .
وتبشير أولياء الله في الحياة الدنيا وفي الآخرة .
وتسلية الرسول عما يقوله الكافرون .
وأنه لو شاء لآمن من في الأرض كلهم .
ثم تخلص إلى الاعتبار بالرسل السابقين نوح ورسل من بعده ثم موسى وهارون .
ثم استشهد على صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بشهادة أهل الكتاب .
وختمت السورة بتلقين الرسول عليه الصلاة والسلام مما يعذر به لأهل الشك في دين الإسلام ، وأن اهتداء من اهتدى لنفسه وضلال من ضل عليها ، وأن الله سيحكم بينه وبين معانديه .
تقدم القول في الحروف الواقعة في فواتح بعض السور في أول سورة البقرة فهي بمنزلة الأعداد المسرودة ، لا محل لها من الإعراب ، ولا يُنطق بها إلا على حال السكت ، وحالُ السكت يعامَل معاملة الوقف ، فلذلك لا يُمد اسم رَا في الآية ، وإن كان هو في اللغة بهمزة في آخره لأنه بالسكت تحذف الهمزة كما تحذف في الوقف لثقل السكوت على الهمزة في الوقف والسكت ، فبذلك تصير الكلمة على حرفين فلا تمد . ولذلك أجمع القراء على عدم مد الحروف : را . ها . يا . طا . حا . التي في أوائل السور وإن كانت تلك الأسماء ممدودة في استعمال اللغة .
اسم الإشارة يجوز أن يكون مراداً به جميع آي القرآن التي نزلت قبل هذه السورة باعتبار حضور تلك الآيات في أذهان الناس من المؤمنين وغيرهم ، فكأنها منظورة مشاهدة ، فصحت الإشارة إليها إذ هي متلوة محفوظة فمن شاء أن يسمعها ويتدبرها أمكنه ذلك ولأن الخوض في شأنها هو حديث الناس في نواديهم وأسمارهم وشغلهم وجدالهم ، فكانت بحيث تتبادر إلى الأذهان عند ورود الإشارة إليها .
واسمُ الإشارة يُفسر المقصودَ منه خبرُه وهو { آيات الكتاب الحكيم } كما فسره في قوله تعالى : { فهذا يومُ البعث } [ الروم : 56 ] وقوله تعالى : { قال هذا فراقُ بيني وبينك } [ الكهف : 78 ] . قال في « الكشاف » : تصَوَّر فراقاً بينهما سيقع قريباً فأشار إليه بهذا .
وقد تقدم شيء من هذا المعنى عند قوله تعالى : { ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده } في سورة [ الأنعام : 88 ] . فالمقصود من الإشارة إما الحث على النظر في آيات القرآن ليتبين لهم أنه من عند الله ويعلموا صدق من جاءهم به . وإما إقناعهم من الآيات الدالة على صدق النبي بآيات الكتاب الحكيم فإنهم يسألون النبي آيةً على صدقه ، كما دل عليه قوله في هذه السورة [ يونس : 15 ] { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائتِ بقرآن غير هذا أو بَدله } فقيل لهم { تلك آيات الكتاب الحكيم } ، أي ما هو آية واحدة بل آيات كثيرة ، فإن الإعجاز حاصل بكل سورة منه .
ولأنه اشتمل على الحقائق السامية والهدى إلى الحق والحكمة ؛ فرجل أمي ينشأ في أمة جاهلة يجيء بمثل هذا الهدى والحكمة لا يكون إلا موحى إليه بوحي إلهي ، كما دل عليه قوله تعالى : { وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارْتاب المبطلون } [ العنكبوت : 48 ] .
وعليه فاسم الإشارة مبتدأ و { آيات } خبره . وإضافة { آيات } إلى { الكتاب } إضافة شبيهة بالبيانية وإن كان الكتاب بمنزلة الظرف للآيات باختلاف الاعتبار ، وهو معنى الإضافة البيانية عند التحقيق .
ويجوز أن تجعل الإشارة ب { تلك } إلى حروف { ألر } لأن المختار في الحروف المقطعة في فواتح السور أن المقصود من تعدادها التحدي بالإعجاز ، فهي بمنزلة التهجي للمتعلم .
فيصح أن يجعل ( ألر ) في محل ابتداء ويكون اسم الإشارة خبراً عنه . والمعنى تلك الحروف آيات الكتاب الحكيم ، أي من جنسها حروف الكتاب الحكيم ، أي جميع تراكيبه من جنس تلك الحروف .
والمقصود تسجيل عجزهم عن معارضته بأن آيات الكتاب الحكيم كلها من جنس حروف كلامهم فما لكم لا تستطيعون معارضتها بمثلها إن كنتم تكذّبون بأن الكتاب منزل من عند الله ، فلولا أنه من عند الله لكان اختصاصه بهذا النظم المعجز دون كلامهم محالاً إذ هو مركب من حروف كلامهم .
والكتاب : القرآن . فالتعريف فيه للعهد . ويجوز جعل التعريف دالاً على معنى الكمال في الجنس ، كما تقول : أنتَ الرجل .
والحكيم : وصف إما بمعنى فاعل ، أي الحاكم على الكتب بتمييز صحيحها من محرفها ، مثل قوله : { ومُهيمِناً عليه } [ المائدة : 48 ] ، وقوله : { وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } [ البقرة : 213 ] .
وإما بمعنى مُفعَل بفتح العين ، أي مُحكَم ، مثل عَتِيد ، بمعنى مُعَد .
وإما بمعنى ذي الحِكمة لاشتماله على الحكمة والحق والحقائق العالية ، إذ الحكمة هي إصابة الحق بالقول والعمل فوُصف بوصف ذي الحكمة من الناس على سبيل التوسع الناشىء عن البليغ كقول الأعشى :
وغريبةٍ تأتي الملوك حَكِيمة *** قد قلتُها ليقال مَن ذَا قالها
وإما أن يكون وُصِفَ بوصف منزّله المُتكلم به ، كما مشَى عليه صاحب « الكشاف » عند قوله تعالى : { يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين } [ يس : 1 ، 3 ]
واختيار وصف { الحكيم } من بين أوصاف الكمال الثابتة للقرآن ؛ لأن لهذا الوصف مزيد اختصاص بمقام إظهار الإعجاز من جهة المعنى بعد إظهار الإعجاز من جهة اللفظ بقوله : { الر تلك آيات الكتاب الحكيم } ، ولِما اشتملت عليه السورة من براهين التوحيد وإبطال الشرك .
وإلى هذا المعنى يشير قوله بعد هذا : { قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثتُ فيكم عمراً من قبله أفلا تعقلون } [ يونس 16 ] .