نزلت سورة يونس بعد سورة الإسراء ، وكان الإسراء قبل الهجرة بسنة ، فتكون سورة يونس من السور التي نزلت بين الإسراء والهجرة ، فهي سورة مكية من أواخر ما نزل من القرآن بمكة . وقد سميت بهذا الاسم ؛ لذكر قصة يونس فيها ، وتبلغ آياتها تسعا ومائة آية .
موضوعات هذه السورة هي موضوعات السور المكية الغالبة ، وهي الجدل حول مسائل العقيدة والتوجيه إلى آيات الله الكونية ، وإلى سنن الله في الأرض ، وإلى العظة بالقرون الخوالي ومصائرها وعرض بعض القصص من هذا الجانب الذي تبرز فيه العظة واللمسات الوجدانية التي تنتقل بالإنسان من آيات الله في الكون إلى آياته في النفس ، إلى مشاهد القيامة المؤثرة ، إلى قصص الماضين ومصائرهم ، كأنها جميعا حاضرة معرضة للأنظار .
وهذه السورة تتضمن شيئا من هذا كله ، و ينتقل السياق فيها من غرض إلى غرض بمناسبات ظاهرة أو خفية بين مقاطعها ، ولكن جوهرها كله هو هذا الجو حتى ليصعب الفصل بين مقطع ومقطع فيها في أغلب الأحيان .
يبدأ القسم الأول من السورة بحروف ثلاثة هي : ألف ، لام ، را ، كما بدأت سورة البقرة وسورة آل عمران بحروف مشابهة ؛ ذكر العلماء أنها أسماء للسورة ، أو إشارة إلى أسماء الله تعالى وصفاته ، أو هي لبيان إعجاز القرآن الكريم ، أو هي مما استأثر الله تعالى بعلمه ، ثم تأخذ السورة في عرض عدة أمور هي بيان حكمة القرآن وطريقته في تنبيه الغافلين إلى تدبر آيات الله ، في صفحة الكون وتضاعيفه : في السماء والأرض ، وفي الشمس والقمر ، وفي الليل والنهار ، وفي مصارع القرون الأولى ، وفي قصص الرسل فيهم ، وفي دلائل القدرة الكامنة والظاهرة في هذا الوجود .
ثم تشرح السورة الحكمة في الإيحاء إلى رجل من البشر يعرفه الناس ويطمئنون إليه ويأخذون منه ويعطونه بلا تكلف ولا جفوة ولا تحرج ، وتذكر الحكمة من إرسال الرسل ؛ فالإنسان بطبعه مهيئا للخير والشر ، وعقله هو أداته للتمييز ، ولكن هذا العقل في حاجة إلى ميزان مضبوط يعود إليه دائما كلما اختلط عليه الأمر وأحاطت به الشبهات وجذبته التيارات والشهوات ، وهذا الميزان الثابت العادل هو هدى الله وشريعته .
وتلفت سورة يونس النظر إلى خلق السماوات والأرض وتدبير الأمر فيهما ، وإظهار قدرة الله الذي { جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل } . ( يونس : 5 ) .
وقدر اختلاف الليل والنهار ، إن الله الذي خلق هذا ودبره هو الذي يليق أن يكون ربا يعبد ولا يشرك به شيء من خلقه .
إن هذا الليل المظلم ، الساكن إلا من دبيب الرؤى والأشباح ، وهذا الفجر المتفتح في نهاية الليل كابتسامة الولد ، وهذه الحركة التي يتنفس بها الصحيح فيدب النشاط في الحياة والأحياء وهذا الطير الرائح الغادي القافز الواثب الذي لا يستقر على حال ، وهذا النبت النامي المتطلع أبدا إلى النمو والحياة ، وهذه الخلائق الذاهبة الآيبة في تدافع وانطلاق ، وهذه الأرحام التي تدفع ، والقبور التي تبلع ، الحياة ماضية في طريقها كما شاء الله .
إن هذا الحشد من الصور والأشكال ، والحركات والأحوال والرواح والذهاب والبلى والتجدد والذبول والنماء ، والميلاد والممات ، والحركة الدائبة في هذا الكون الهائل التي لا تني ولا تتوقف لحظة من ليل أو نهار ، إن هذا كله ليستنهض كل همة في كيان البشر للتأمل والتدبر والتأثر حتى يستيقظ القلب ويتفتح لمشاهدة الآيات المبثوثة في ظواهر الكون وحناياه . والقرآن الكريم يعمد مباشرة إلى إيقاظ القلب ؛ لتدبر هذا الحشد من الصور والآيات وتأمل قدرة الله في اختلاف الليل والنهار بالطول والقصر ، فيطول الليل في الشتاء ويقصر في الصيف ، ويطول النهار في الصيف ويقصر في الشتاء ، ووراء كل إبداع يد الله القدير الذي رفع السماء وزينها بالنجوم وحفظها من التصدع والوقوع ، وبسط سبحانه الأرض وثبتها بالجبال وزينها بالنبات وأحياها بالأمطار ؛ { إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون } . ( يونس : 6 ) .
الدرس الثاني الأدلة على وجود الله :
يستهل الدرس الثاني من سورة يونس بإعلان جزاء المؤمنين وعاقبة المكذبين ، حيث يقول سبحانه : { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } ( يونس : 26 ) .
فالجزاء الحق من جنس العمل ، فمن عمل صالحا في الدنيا ؛ أدخله الله الجنة ، ومتعه بالطيبات ونجاه من النار .
ثم تستمر الآيات في بيان عقوبة المكذبين ، وجزاء الخائنين ، وتسوق السورة عددا من الأدلة والبراهين تنتهي كلها إلى هدف واحد ؛ هو إشعار النفس بتوحيد الله وصدق الرسول ، واليقين باليوم الآخر ، والقسط في الجزاء .
تلمس الأدلة أقطار النفس ، وتأخذ بها إلى آفاق الكون في جولة واسعة شاملة ، جولة من الأرض إلى السماء ، ومن آفاق الكون إلى آفاق النفس ومن ماضي القرون إلى حاضر البشر ، ومن الدنيا إلى الآخرة .
وقد لاحظنا في الدرس الماضي لمسات من هذه ، ولكنها في هذا الدرس أظهر ، فمن معرض الحشر إلى مشاهد الكون إلى ذات النفس ، وإلى التحدي بالقرآن إلى التذكير بمصائر المكذبين من الماضين ، ومن ثم لمحة عابرة عن الحشر في مشهد جديد ، إلى تخويف من المفاجأة بالعذاب ، وإلى تصوير علم الله الشامل الذي لا يند عنه شيء ، إلى بعض آيات الله في الكون ، إلى الإنذار بما ينتظر المفترين على الله يوم الحساب .
إنها مجموعة من اللمسات العميقة الصادقة ، لا تملك نفس سليمة التلقي ، صحيحة الاستجابة إلا أن تستجيب لها ، وألا تتذاوب الحواجز والموانع فيها دون هذا الفيض من المؤثرات المستمدة من الحقائق الواقعة ومن فطرة الكون وفطرة النفس وطبائع الوجود . لقد كان الكفار صادقين في إحساسهم بخطر القرآن على صفوفهم ، وهم يتناهون عن الاستماع إليه ؛ خيفة أن يجرفهم بتأثيره ويزلزل قلوبهم ، وهم يرددون أن يظلوا على الشرك صامدين . وأن سورة واحدة كهذه أو بعض سورة لتحمل من المؤثرات النفسية والعقلية ما لا يحمله جمع كبير من قوى الشرك والانحراف والفسوق .
لقد أخذ القرآن على النفوس كل مسلك ؛ ليسير بها نحو الإيمان ، وساق إليها أدلة محسوسة ملموسة ، حيث يقول سبحانه : { قل من يرزقكم من السماء والأرض } . من المطر الذي يحيى الأرض وينبت الزرع ، ومن طعام الأرض ونباتها وطيرها وأسماكها وحيوانها ، فمن سطح الأرض أرزاق ، ومن أعماقها أرزاق ، ومن أشعة الشمس أرزاق ومن ضوء القمر أرزاق . وحتى عفن الأرض كشف فيه عن دواء وترياق . { أمن يملك السمع والأبصار } . يهبهما القدرة على أداء وظائفهما أو يحرمهما ، ويصححهما أو يمرضهما ، ويصرفهما إلى العمل أو يلهيهما ، وإن تركيب العين وأعصابها و كيفية إدراكها للمرئيات ، أو تركيب الأذن وأجزائها وطريقة إدراكها للذبذبات لعالم وحده يدير الرءوس عندما يقاس هذا الجهاز أو ذلك إلى أدق الأجهزة التي يعدها الناس من معجزات العلم الحديث .
{ ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي } . أي : النور من الظلام والظلام من النور ، والنهار من الليل والليل من النهار ، والمؤمن من الكافر والكافر من المؤمن ، والنبتة من الحبة والحبة من النبتة ، والفرخ من البيضة والبيضة من الفرخ . . . إلى آخر هذه المشاهدات العجيبة ، وإلا فأين كانت تكمن السنبلة في الحبة ؟ ! وأين كان يكمن العود ، وأين كانت الجذور والساق والأوراق ؟ !
{ ومن يدبر الأمر } . كله في هذا الذي ذكر وفي سواه من شئون الكون وشئون البشر ؟ ! من يدبر الناموس الكوني الذي ينظم حركة هذه الأفلاك على هذا النحو الدقيق ؟ ! ومن يدبر السنن الاجتماعية التي تصرف حياة البشر ؟ !
{ فسيقولون الله فقل أفلا تتقون } . ( يونس : 31 ) ، أفلا تخشون الله الذي يرزقكم من السماء والأرض والذي يملك السمع والأبصار ، والذي يخرج الحي من الميت ، ويخرج الميت من الحي ، الذي يدبر الأمر كله في هذا وفي سواه : { فذالكم الله ربكم الحق } . هو سبحانه صاحب الحق والأمر تبارك الله رب العالمين .
اشتملت الآيات من 7193 من سورة يونس عل ذكر طرف من قصة نوح مع قومه ، وقصة موسى مع فرعون وملئه ، وقد تحقق فيهما عاقبة المكذبين ، وهلاك المخالفين لأوامر الله وهدى رسله ، والقصص في القرآن يجيء في السياق ؛ ليؤدي وظيفة فيه ، ويتكرر القصص في المواضع المختلفة بأساليب تتفق مع مواضعه في السياق والحلقات التي تعرض منه في موضع تفي بحاجة ذلك الموضع ، ونلاحظ فيما عرض من قصتي نوح وموسى هنا ، وفي طريقة العرض ، مناسبة ذلك لموقف المشركين في مكة من النبي صلى الله عليه وسلم والقلة المؤمنة معه ، واعتزاز هذه القلة المؤمنة بإيمانها في وجه الكثرة والقوة والسلطان ، كما نلحظ المناسبة الواضحة بين القصص والتعقيبات التي تتخلله وتتلوه .
بدأت قصة نوح من الحلقة الأخيرة ، حلقة التحدي الأخير بعد الإنذار الطويل والتذكر والتكذيب ، ولا يذكر في هذه الحلقة موضوع السفينة ولا من ركب فيها ولا الطوفان ولا التفصيلات الواردة في سور أخرى ؛ لأن الهدف هنا هو إبراز التحدي الذي واجه نوحا من قومه ، واستعانته بالله ، ونجاته ومن معه وهم قلة ، وهلاك المكذبين له وهم كثرة وقوة ، لذلك يختصر السياق هنا تفصيلات القصة التي يقصها إلى حلقة واحدة ، ويختصر تفصيلات الحلقة الواحدة إلى نتائجها الأخيرة وهي نجاة نوح ومن آمن معه في السفينة و استخلافهم في الأرض على قلتهم ، وإغراق المكذبين على قوتهم وكثرتهم . قال تعالى : { فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآيتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين } . ( يونس : 73 ) .
وأما قصة موسى فيبدؤها السياق هنا من مرحلة التكذيب والتحدي وينهيها عند غرق فرعون وجنوده ، وإذا كانت قصة نوح قد ذكرت في أربع آيات فقط هي الآيات من 71 إلى 74 من سورة يونس ، فإن قصة موسى قد ذكرت على نطاق أوسع خلال ثماني عشرة آية هي الآيات من 75 إلى 93 ، وقد ألمت قصة موسى بالمواقف ذات الشبه بموقف المشركين في مكة من الرسول صلى الله عليه وسلم وموقف القلة المؤمنة التي معه ، وهذه الحلقة المعروضة هنا من قصة موسى مقسمة إلى ثلاثة مواقف يليها تعقيب يتضمن العبرة من عرضها في هذه السورة على النحو الذي عرضت به . وهذه المواقف الثلاثة تتتابع في السياق على هذا النحو :
الموقف الأول : وصول موسى إلى فرعون ومعه آيات تسع ذكرت في سورة الأعراف ؛ و لكنها لم تذكر في سورة يونس ولم تفصل ؛ لأن السياق لا يقتضيها ، والإجمال في هذا الموضع بغنى ، والمهم هو تلقي فرعون وملئه لآيات الله ، لقد استقبلوها بالظلم والاستكبار قال تعالى :
{ ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون و ملإيه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين * فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين } . ( يونس : 75 ، 76 ) .
ادعى فرعون أن معجزة موسى سحر ظاهر ، وجمع له كبار السحرة وأرادوا أن يغرقوا الجماهير في صراع السحر بأن تعقد حلقة للسحر يتحدون بها موسى وما معه من آيات تشبه السحر في ظاهرها ؛ ليخرجوا منها في النهاية بأن موسى ليس إلا ساحرا ماهرا .
والموقف الثاني : موقف المبارزة بين السحرة وموسى ، فقد ألقى السحرة حبالهم وعصيهم وتحركت الحبال والعصي فبهرت جميع الناس وأرهبتهم ، ثم ألقى موسى عصاه في الأرض فانقلبت حية هائلة لها شفتان طويلتان ، شفة في الأرض تبتلع جميع الحبال والعصي التي ألقاها السحرة ، وشفة مرفوعة إلى أعلى ، ثم أمسك موسى بعصاه فعادت كما كانت ، وبطل السحر ، وعلا صوت الحق . و لكن السياق يختصر المشاهد هنا ؛ لأنها ليست مقصودة في هذا المجال ، ويسدل الستار ؛ ليرفع على موسى ومن آمن معه وهم قليل ، وهذه إحدى عبر القصة المقصودة :
{ فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملإيهم أن يفتنهم } . ( يونس : 83 ) .
وفي هذا الوضع تفيد الآيات : أن الذين أظهروا إيمانهم وانضمامهم لموسى من بني إسرائيل كانوا هم الفتيان الصغار لا مجموعة الشعب الإسرائيلي ، وأنهم تعرضوا للإرهاب من فرعون ، ولكن موسى ثبتهم على الإيمان ودعا موسى ربه أن ينجي المؤمنين وأن يهلك الكافرين ؛ فاستجاب الله دعاءه وجاء الموقف الحاسم .
الموقف الثالث والأخير : في قصة التحدي والتكذيب : هو غرق الطغاة الظالمين ونجاة من آمن بالمرسلين .
{ الر تلك آيات الكتاب الحكيم ( 1 ) أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين ( 2 ) } .
الر : قال السلف فيها وفي أمثالها : الله أعلم بمراده : ويأتي تفصيل الحديث عنها في الشرح .
الكتاب الحكيم : القرآن المشتمل على الحكمة وهي إصابة الحق .
1 { الر تلك آيات الكتاب الحكيم } .
أسلفنا الحديث عن هذه الأحرف المقطعة في صدر سورة البقرة ، وآل عمران ، والأعراف ، ومجمل هذا الحديث أن هذه الفواتح للعلماء فيها رأيان رئيسان :
الأول : أنها من المتشابه الذي استأثر الله تعالى بعلمه .
الثاني : أن لها معنى وتعددت الآراء في تحديد هذا المعنى .
فمن العلماء من قال : إنها أسماء للسور التي تصدرتها ، ومنهم من قال : هي إشارة إلى أسماء الله تعالى أو صفاته ، ومنهم من قال : هي حروف ذكرت للتحدي والإعجاز ، وبيان أن القرآن مكون من الحروف العربية التي تنطقون بها ، وقد عجزتم عن الإتيان بمثله ؛ فدل ذلك على أنه من عند الله تعالى .
ومنهم من قال : هي حروف للتنبيه كالجرس الذي يقرع فيتنبه التلاميذ إلى دخول المدرسة ؛ فقد تواصى الكفار بالإعراض عن القرآن وعدم الاستماع إليه ، قال تعالى : { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون } . ( فصلت : 26 ) .
فلما طرق أسماعهم ما لم يألفوه ؛ تنبهوا ، فكانت هذه الأحرف بمثابة أدوات الاستفتاح التي تدعو الناس إلى الإصغاء والانتباه لما يلقى عليهم .
وجاء في تفسير الطبري حكاية عن الربيع : أن الإعجاز في هذه الأحرف : هو جواز اشتمالها على جميع الآراء التي ذكرها العلماء في تفسيرها ، فهي أسماء للسورة ، وهي حروف للتحدي والإعجاز ، وهي أدوات للتنبيه ، وهي إشارة إلى أسماء الله تعالى أو صفاته ، وهي في نفس الوقت مما استأثر الله تعالى بعلمه .
{ تلك آيات الكتاب الحكيم } . أي : تلك الآيات السامية ، المنزلة عليك يا محمد ، هي آيات الكتاب المشتمل على الحكمة والصواب ، الناطق بكل ما يوصل إلى السعادة الدنيوية والأخروية .