المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{لَّا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ إِن طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ مَا لَمۡ تَمَسُّوهُنَّ أَوۡ تَفۡرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةٗۚ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى ٱلۡمُوسِعِ قَدَرُهُۥ وَعَلَى ٱلۡمُقۡتِرِ قَدَرُهُۥ مَتَٰعَۢا بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ حَقًّا عَلَى ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (236)

236- ولا إثم عليكم - أيها الأزواج - ولا مهر إذا طلقتم زوجاتكم قبل الدخول بهن وقبل أن تُقدِّروا لهن مهرَا ، ولكن أعطوهن عطية من المال يتمتعن بها لتخفيف آلام نفوسهن ، ولتكن عن رضا وطيب خاطر ، وليدفعها الغنى بقدر وسعه والفقير بقدر حاله ، وهذه العطية من أعمال البر التي يلتزمها ذوو المروءات وأهل الخير والإحسان .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{لَّا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ إِن طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ مَا لَمۡ تَمَسُّوهُنَّ أَوۡ تَفۡرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةٗۚ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى ٱلۡمُوسِعِ قَدَرُهُۥ وَعَلَى ٱلۡمُقۡتِرِ قَدَرُهُۥ مَتَٰعَۢا بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ حَقًّا عَلَى ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (236)

{ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ }

أي : ليس عليكم يا معشر الأزواج جناح وإثم ، بتطليق النساء قبل المسيس ، وفرض المهر ، وإن كان في ذلك كسر لها ، فإنه ينجبر بالمتعة ، فعليكم أن تمتعوهن بأن تعطوهن شيئا من المال ، جبرا لخواطرهن . { عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ } أي : المعسر { قَدَرُهُ }

وهذا يرجع إلى العرف ، وأنه يختلف باختلاف الأحوال ولهذا قال : { مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ } فهذا حق واجب { عَلَى الْمُحْسِنِينَ } ليس لهم أن يبخسوهن .

فكما تسببوا لتشوفهن واشتياقهن ، وتعلق قلوبهن ، ثم لم يعطوهن ما رغبن فيه ، فعليهم في مقابلة ذلك المتعة .

فلله ما أحسن هذا الحكم الإلهي ، وأدله على حكمة شارعه ورحمته " ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ؟ " فهذا حكم المطلقات قبل المسيس وقبل فرض المهر .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{لَّا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ إِن طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ مَا لَمۡ تَمَسُّوهُنَّ أَوۡ تَفۡرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةٗۚ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى ٱلۡمُوسِعِ قَدَرُهُۥ وَعَلَى ٱلۡمُقۡتِرِ قَدَرُهُۥ مَتَٰعَۢا بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ حَقًّا عَلَى ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (236)

أباح تبارك وتعالى طلاق المرأة بعد العقد عليها وقبل الدخول بها . قال ابن عباس ، وطاوس ، وإبراهيم ، والحسن البصري : المس : النكاح . بل ويجوز أن يطلقها قبل الدخول بها ، والفرض لها إن كانت مفوضة ، وإن كان في هذا انكسار لقلبها ؛ ولهذا أمر تعالى بإمتاعها ، وهو تعويضها عما فاتها بشيء تعطاه من زوجها بحسب حاله ، على الموسع قدره وعلى المقتر قدره .

وقال سفيان الثوري ، عن إسماعيل بن أمية ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : متعة الطلاق أعلاه الخادم ، ودون ذلك الورق ، ودون ذلك الكسوة .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : إن{[4048]} كان موسرا متعها بخادم ، أو شبه ذلك ، وإن كان معسرا أمتعها بثلاثة أثواب .

وقال الشعبي : أوسط ذلك : درع وخمار وملحفة وجلباب . قال : وكان شريح يمتع بخمسمائة . وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين قال : كان يُمتع بالخادم ، أو بالنفقة ، أو بالكسوة ، قال : ومتع الحسن بن علي بعشرة آلاف{[4049]} ويروى أن المرأة قالت :

متاعٌ قليلٌ من حَبِيبٍ مُفَارق

وذهب أبو حنيفة ، رحمه الله ، إلى أنه متى تنازع الزوجان في مقدار المتعة وجب لها عليه نصف مهر مثلها . وقال الشافعي في الجديد : لا يجبر الزوج على قدر معلوم ، إلا على أقل ما يقع عليه اسم المتعة ، وأحب ذلك إليَّ أن يكون أقله ما تجزئ فيه الصلاة . وقال في القديم : لا أعرف في المتعة قدرًا{[4050]} إلا أني أستحسن ثلاثين درهمًا ؛ لما روي عن ابن عمر ، رضي الله عنهما{[4051]} .

وقد اختلف العلماء أيضًا : هل تجب المتعة لكل مطلقة ، أو إنما تجب المتعة لغير المدخول بها التي لم يفرض لها ؟ على أقوال :

أحدها : أنه تجب المتعة لكل مطلقة ، لعموم قوله تعالى : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 241 ] ولقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا } [ الأحزاب : 28 ] وقد كن مفروضا لهن ومدخولا بهن ، {[4052]} وهذا قول سعيد بن جُبير ، وأبي العالية ، والحسن البصري . وهو أحد قولي الشافعي ، ومنهم من جعله الجديد الصحيح ، فالله أعلم .

والقول الثاني : أنها تجب للمطلقة إذا طلقت قبل المسيس ، وإن كانت مفروضًا لها لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا } [ الأحزاب : 49 ] قال شعبة وغيره ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب قال : نسخت هذه الآية التي في الأحزاب الآية التي في البقرة .

وقد روى البخاري في صحيحه ، عن سهل بن سعد ، وأبي أسَيد أنهما قالا تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أميمة بنت شراحيل ، فلما أدخلت عليه بسط يده إليها فكأنما{[4053]} كرهت ذلك ، فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين رازِقِيَّين{[4054]} {[4055]} .

والقول الثالث : أن المتعة إنما تجب للمطلقة إذا لم يدخل بها ، ولم يفرض{[4056]} لها ، فإن كان قد دخل بها وجب لها مهر مثلها إذا كانت مفوضة ، وإن كان قد فرض لها وطلقها قبل الدخول ، وجب لها عليه شطره ، فإن دخل بها استقر الجميع ، وكان ذلك عوضًا لها عن المتعة ، وإنما المصابة التي لم يفرض لها ولم يدخل بها فهذه التي دلت هذه الآية الكريمة على وجوب متعتها . وهذا قول ابن عمر ، ومجاهد . ومن العلماء : من استحبها لكل مطلقة ممن عدا المفوضة المفارقة قبل الدخول : وهذا ليس بمنكور{[4057]} وعليه تحمل آية التخيير في الأحزاب ؛ ولهذا قال تعالى : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 241 ] .

ومن العلماء من يقول : إنها مستحبة مطلقًا . قال ابن أبي حاتم : حدثنا كثير بن شهاب القزويني ، حدثنا محمد بن سعيد بن سابق ، حدثنا عمرو - يعني ابن أبي قيس - عن أبي إسحاق ، عن الشعبي قال : ذكروا له المتعة ، أيحبس فيها ؟ فقرأ : { عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ } قال الشعبي : والله ما رأيت أحدا حبس{[4058]} فيها ، والله لو كانت واجبة لحبس فيها القضاة .


[4048]:في أ: "إذا".
[4049]:ورواه الطبري في تفسيره (5/123) من طريق عبد الرزاق به.
[4050]:في جـ، أ، و: "وقتا".
[4051]:في جـ: "عنه".
[4052]:في جـ: "وقد كن مدخولا بهن ومفروضا لهن".
[4053]:في أ، و: "فكأنها".
[4054]:في جـ: "درافتين".
[4055]:صحيح البخاري برقم (5226).
[4056]:في جـ: "ولم يعرض"
[4057]:في جـ: "بمعلوم".
[4058]:في جـ: "أحسن".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{لَّا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ إِن طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ مَا لَمۡ تَمَسُّوهُنَّ أَوۡ تَفۡرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةٗۚ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى ٱلۡمُوسِعِ قَدَرُهُۥ وَعَلَى ٱلۡمُقۡتِرِ قَدَرُهُۥ مَتَٰعَۢا بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ حَقًّا عَلَى ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (236)

استئناف تشريع لبيان حكم ما يترتب على الطلاق من دفع المهر ، كله أو بعضه ، وسقوطه وحكم المتعة مع إفادة إباحة الطلاق قبل المسيس . فالجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً ، ومناسبة موقعها لا تخفى ، فإنه لما جرى الكلام في الآيات السابقة على الطلاق الذي تجب فيه العدة ، وهو طلاق المدخول بهن ، عرج هنا على الطلاق الواقع قبل الدخول ، وهو الذي في قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } الآية ، في سورة الأحزاب ( 49 ) ، وذكر مع ذلك هنا تنصيف المهر والعفو عنه .

وحقيقة الجناح الإثم كما تقدم في قوله : { فلا جناح عليه أن يطوف بهما } [ البقرة : 158 ] . ولا يعرف إطلاق الجناح على غير معنى الإثم ، ولذلك حمله جمهور المفسرين هنا على نفي الإثم في الطلاق ، ووقع في « الكشاف » تفسير الجناح بالتبعة فقال : { لا جناح عليكم لا تبعة عليكم من إيجاب المهر } ثم قال : والدليل على أن الجناح تبعة المهر ، قوله : { وإن طلقتموهن } إلى قوله : { فنصف ما فرضتم } فقوله : { فنصف ما فرضتم } إثبات للجناح المنفي ثمة » وقال ابن عطية وقال قوم : لا جناح عليكم معناه لا طلب بجميع المهر فعلمنا أن صاحب « الكشاف » مسبوق بهذا التأويل ، وهو لم يذكر في « الأساس » هذا المعنى للجناح حقيقة ولا مجازاً ، فإنما تأوله من تأوله تفسيراً لمعنى الكلام كله لا لكلمة { جناح } وفيه بعد ، ومحمله على أن الجناح كناية بعيدة عن التبعة بدفع المهر . والوجه ما حمل عليه الجمهور لفظ الجناح ، وهو معناه المتعارف ، وفي « تفسير ابن عطية » عن مكي بن أبي طالب « لا جناح عليكم في الطلاق قبل البناء ؛ لأنه قد يقع الجناح على المطلق بعد أن كان قاصداً للذوق ، وذلك مأمون قبل المسيس » وقريب منه في الطيبي عن الراغب أي في « تفسيره » .

فالمقصود من الآية تفصيل أحوال دفع المهر أو بعضه أو سقوطه ، وكأن قوله : { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن } إلى آخره تمهيد لذلك وإدماج لإباحة الطلاق قبل المسيس لأنه بعيد عن قصد التذوق ، وأبعد من الطلاق بعد المسيس عن إثارة البغضاء بين الرجل والمرأة ، فكان أولى أنواع الطلاق بحكم الإباحة الطلاق قبل البناء .

قال ابن عطية وغيره : إنه لكثرة ما حض الرسول عليه الصلاة والسلام المؤمنين على أن يقصدوا من التزوج دوام المعاشرة ، وكان ينهى عن فعل الذواقين الذين يكثرون تزوج النساء وتبديلهن ، ويكثر النهي عن الطلاق حتى قد يظن محرماً ، فأبانت الآية إباحته بنفي الجناح بمعنى الوزر .

والنساء : الأزواج ، والتعريف فيه تعريف الجنس ، فهو في سياق النفي للعموم ، أي لا جناح في تطليقكم الأزواج ، و ( ما ) ظرفية مصدرية ، والمسيس هنا كناية عن قربان المرأة .

و ( أو ) في قوله : { أو تفرضوا لهن فريضة } عاطفة على { تمسوهن } المنفي ، و ( أو ) إذا وقعت في سياق النفي تفيد مفاد واو العطف فتدل على انتفاء المعطوف والمعطوق عليه معاً ، ولا تفيد المفاد الذي تفيده في الإثبات ، وهو كون الحكم لأحد المتعاطفين ، نبه على ذلك الشيخ ابن الحاجب في « أماليه » وصرح به التفتازاني في « شرح الكشاف » ، وقال الطيبي : إنه يؤخذ من كلام الراغب ، وهو التحقيق ؛ لأن مفاد « أو » في الإثبات نظير مفاد النكرة وهو الفرد المبهم ، فإذا دخل النفي استلزم نفي الأمرين جميعاً ، ولهذا كان المراد في قوله تعالى : { ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً } [ الإنسان : 24 ] النهي عن طاعة كليهما ، لا عن طاعة أحدهما دون الآخر ، وعلى هذا انبنت المسألة الأصولية وهي : هل وقع في اللغة ما يدل على تحريم واحد لا بعينه ، بناء على أن ذلك لا يكون إلا بحرف أو ، وأن أو إذا وقعت في سياق النهي كانت كالتي تقع في سياق النفي .

وجعل صاحب « الكشاف » ( أو ) في قوله : { أو تفرضوا لهن فريضة } بمعنى إلا أو حتى ، وهي التي ينتصب المضارع بعدها بأن واجبة الإضمار ، بناء على إمكانه هنا وعلى أنه أبعد عن الخفاء في دلالة أو العاطفة في سياق النفي ، على انتفاء كلا المتعاطفين ؛ إذ قد يتوهم أنها لنفي أحدهما كشأنها في الإثبات ، وبناء على أنه أنسب بقوله تعالى بعد ذلك { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة } حيث اقتصر في التفصيل على أحد الأمرين : وهو الطلاق قبل المسيس مع فرض الصداق ، ولم يذكر حكم الطلاق قبل المسيس أو بعده ، وقبل فرض الصداق ، فدل بذلك على أن الصورة لم تدخل في التقسيم السابق ، وذلك أنسب بأن تكون للاستثناء أو الغاية ، لا للعطف ، ولا يتوهم أن صاحب الكشاف أهمل تقدير العطف لعدم استقامته ، بل لأن غيره هنا أوضح وأنسب ، يعني والمراد قد ظهر من الآية ظهوراً لا يدع لتوهم قصد نفي أحد الأمرين خطوراً بالأذهان ، ولهذا استدركه البيضاوي فجوز تقديرها عاطفة في هذه الآية .

وقد أفادت الآية حكماً بمنطوقها وهو أن المطلقة قبل البناء إذا لم يسم لها مهر لا تستحق شيئاً من المال ، وهذا مجمع عليه فيما حكاه ابن العربي ، وحكى القرطبي عن حماد بن سليمان أن لها نصف صداق أمثالها ، والجمهور على خلافه وأن ليس لها إلا المتعة ، ثم اختلفوا في وجوبها كما سيأتي . وهذا الحكم دلنا على أن الشريعة قد اعتبرت النكاح عقداً لازماً بالقول ، واعتبرت المهر الذي هو من متمماته غير لازم بمجرد صيغة النكاح ، بل يلزم بواحد من أمرين إما بصيغة تخصه ، وهي تعيين مقداره بالقول ، وهي المعبر عنها في الفقه بنكاح التسمية ، وإما بالفعل وهو الشروع في اجتناء المنفعة المقصودة ابتداء من النكاح وهي المسيس ، فالمهر إذن من توابع العقود التي لا تثبت بمجرد ثبوت متبوعها ، بل تحتاج إلى موجب آخر كالحوز في عقود التبرعات ، وفيه نظر ، والنفس لقول حماد بن سليمان أميل .

والآية دلت على مشروعية أصل الطلاق ، لما أشعرت بنفي الجناح عن الطلاق قبل المسيس وحيث أشعرت بإباحة بعض أنواعه : بالتصدي لبيان أحكامها ، ولما لم يتقدم لنا موضع هو أنسب بذكر مشروعية الطلاق من هذه الآية ، فنحن نبسط القول في ذلك : إن القانون العام لانتظام المعاشرة هو الوفاق في الطبائع والأخلاق والأهواء والأميال ، وقد وجدنا المعاشرة نوعين : أولهما معاشرة حاصلة بحكم الضرورة ، وهي معاشرة النسب ، المختلفة في القوة والضعف ، بحسب شدة قرب النسب وبعده كمعاشرة الآباء مع الأبناء ، والإخوة بعضهم مع بعض ، وأبناء العم والعشيرة ، واختلافها في القوة والضعف يستتبع اختلافها في استغراق الأزمان ، فنجد في قصر زمن المعاشرة ، عند ضعف الآصرة ، ما فيه دافع للسآمة والتخالف الناشئين عما يتطرق إلى المتعاشرين من تنافر في الأهواء والأميال ، وقد جعل الله في مقدار قرب النسب تأثيراً في مقدار الملاءمة ؛ لأنه بمقدار قرب النسيب ، يكون التئام الذات مع الأخرى أقوى وأتم ، وتكون المحاكة والممارسة والتقارب أطول ، فنشأ من السببين الجبلي ، والاصطحابي ، ما يقوي اتحاد النفوس في الأهواء والأميال بحكم الجبلة ، وحكم التعود والإلف ، وهكذا يذهب ذلك السببان يتباعدان بمقدار ما يتباعد النسيب .

النوع الثاني : معاشرة بحكم الاختيار وهي معاشرة الصحبة والخلة والحاجة والمعاونة ، وما هي إلا معاشرة مؤقتة تطول أو تقصر ، وتستمر أو تغب ، بحسب قوة الداعي وضعفه ، وبحسب استطاعة الوفاء بحقوق تلك المعاشرة ، والتقصير في ذلك ، والتخلص من هذا النوع ممكن إذا لم تتحد الطباع . ومعاشرة الزوجين في التنويع ، هي من النوع الثاني ، وفي الآثار محتاجة إلى آثار النوع الأول ، وينقصها من النوع الأول سببه الجبلي لأن الزوجين يكثر ألا يكونا قريبين وسببه الاصطحابي ، في أول عقد التزوج حتى تطول المعاشرة ويكتسب كل من الآخر خلقه ، إلا أن الله تعالى جعل في رغبة الرجل في المرأة إلى حد أن خطبها ، وفي ميله إلى التي يراها ، مذ انتسبت به واقترنت ، وفي نيته معاشرتها معاشرة طيبة ، وفي مقابلة المرأة الرجل بمثل ذلك ما يغرز في نفس الزوجين نوايا وخواطر شريفة وثقة بالخير ، تقوم مقام السبب الجبلي ، ثم تعقبها معاشرة وإلف تكمل ما يقوم مقام السبب الاصطحابي ، وقد أشار الله تعالى إلى هذا السر النفساني الجليل ، بقوله : { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة } [ الروم : 21 ] .

وقد يعرض من تنافر الأخلاق وتجافيها ما لا يطمع معه في تكوين هذين السببين أو أحدهما ، فاحتيج إلى وضع قانون للتخلص من هذه الصحبة ، لئلا تنقلب سبب شقاق وعداوة فالتخلص قد يكون مرغوباً لكلا الزوجين ، وهذا لا إشكال فيه ، وقد يكون مرغوباً لأحدهما ويمتنع منه الآخر ، فلزم ترجيح أحد الجانبين وهو جانب الزوج لأن رغبته في المرأة أشد ، كيف وهو الذي سعى إليها ورغب في الاقتران بها ؛ ولأن العقل في نوعه أشد ، والنظر منه في العواقب أسد ، ولا أشد احتمالاً لأذى وصبراً على سوء خلق من المرأة ، فجعل الشرع التخلص من هذه الورطة بيد الزوج ، وهذا التخلص هو المسمى : بالطلاق ، فقد يعمد إليه الرجل بعد لأي ، وقد تسأله المرأة من الرجل ، وكان العرب في الجاهلية تسأل المرأة الرجل الطلاق فيطلقها ، قال سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل يذكر زوجتيه :

تلك عِرساي تنطقان على عم *** د إلى اليوم قولَ زور وهَتْر

سَالَتَانِي الطلاق أَن رأَتامَا *** لي قليلاً قد جئتماني بنُكْـــر

وقال عبيد بن الأبرصْ :

تلكَ عِرسي غضبى تريد زيالي *** أَلبَيْن تري ، ، د أم لِـــدَلال

إن يكن طِبُّكِ الفــراقَ فلا أح *** فِلُ أن تعطفي صُدور الجِمال

وجعل الشرع للحاكم إذا أبى الزوج الفراق ولحق الزوجة الضرُّ من عشرته ، بعد ثبوت موجباته ، أن يطلقها عليه . فالطلاق فسخ لعقدة النكاح بمنزلة الإقالة في البيع ، إلا أنه فسخ لم يشترط فيه رضا كلا المتعاقدين بل اكتُفي برضا واحد : وهو الزوج ، تسهيلاً للفراق عند الاضطرار إليه ، ومقتضى هذا الحكم أن يكون الطلاق قبل البناء بالمرأة ممنوعاً ؛ إذ لم تقع تجربة الأخلاق ، لكن لما كان الداعي إلى الطلاق قبل البناء لا يكون إلا لسبب عظيم لأن أفعال العقلاء تصان عن العبث ، كيف يعمد راغب في امرأة ، باذل لها ماله ونفسه إلى طلاقها قبل التعرف بها ، لولا أن قد علم من شأنها ما أزال رجاءه في معاشرتها ، فكان التخلص وقتئذ قبل التعارف ، أسهل منه بعد التعارف .

وقرأ الجمهور ( ما لم تمسوهن ) بفتح المثناة الفوقية مضارع مس المجرد ، وقرأ حمزة والكسائي وخلف ، ( تماسوهن ) بضم المثناة الفوقية وبألف بعد الميم مضارع ماس ؛ لأن كلا الزوجين يمس الآخر .

وقوله : { ومتعوهن على الموسع قدره } الآية عطف على قوله : { لا جناح عليكم } عطف التشريع على التشريع ، على أن الاتحاد بالإنشائية والخبرية غير شرط عند المحققين ، والضمير عائد إلى النساء المعمول للفعل المقيد بالظرف وهو : { ما لم تَمسوهن أو تفرضوا } ، كما هو الظاهر ، أي متعوا المطلقات قبل المسيس ، وقبل الفرض ، ولا أحسب أحداً يجعل معاد الضمير على غير ما ذكرنا ، وأما ما يوجد من الخلاف بين العلماء في حكم المتعة للمطلقة المدخول بها ، فذلك لأدلة أخرى غير هذه الآية .

والأمر في قوله : { ومتعوهن } ظاهره الوجوب وهو قول علي وابن عمر والحسن والزهريّ وابن جبير وقتادة والضحاك وإسحاق بن راهويه ، وقاله أبو حنيفة والشافعي وأحمد ؛ لأن أصل الصِّيغة للوجوب مع قرينة قوله تعالى : { حقا على المحسنين } وقوله بعد ذلك ، في الآية الآتية : { حقا على المتقين } لأن كلمة { حقا } تؤكد الوجوب ، والمراد بالمحسنين عند هؤلاء المؤمنون ، فالمحسن بمعنى المحسن إلى نفسه بإبعادها عن الكفر ، وهؤلاء جعلوا المتعة للمطلقة غير المدخول بها وغير المسمى لها مهر واجبة ، وهو الأرجح لئلا يكون عقد نكاحها خلياً عن عوض المهر .

وجعل جماعة الأمر هنا للندب لقوله بعدُ : { حقا على المحسنين } فإنه قرينة على صرف الأمر إلى أحد ما يقتضِيه ، وهو ندب خاص مؤكد للندب العام في معنى الإحسان ، وهو قول مالك وشُريح ، فجعلها حقاً على المحسنين ، ولو كانت واجبة لجعلها حقاً على جميع الناس ، ومفهوم جعلها حقاً على المحسنين أنها ليست حقاً على جميع الناس ، وكذلك قوله { المتقين } في الآية الآتية ، لأن المتقي هو كثير الامتثال ، على أننا لو حملنا المتقين على كل مؤمن لكان بين الآيتين تعارض المفهوم والعموم ، فإن المفهوم الخاص يخصص العموم .

وفي « تفسير الأبّي » عن ابن عرفة : « قال محمد بن مسلمة من أصحاب مالك : المتعة واجبة يقضى بها إذ لا يأبى أن يكون من المحسنين ولا من المتقين إلا رجل سوء ، ثم ذكر ابن عرفة عن ابن عبد السلام عن ابن حبيب أنه قال بتقديم العموم على المفهوم عند التعارض ، وأنه الأصح عند الأصوليين ، قلت : فيه نظر ، فإن القائل بالمفهوم لا بد أن يخصص بخصوصه عموم العام إذا تعارضا ، على أن لمذهببِ مالك أن المتعة عطية ومؤاساة ، والمؤاساة في مرتبة التحسيني ، فلا تبلغ مبلغ الوجوب ، ولأنها مال بذل في غير عوض ، فيرجع إلى التبرعات ، والتبرعات مندوبة لا واجبة ، وقرينة ذلك قوله تعالى : { حقا على المحسنين } فإن فيه إيماء إلى أن ذلك من الإحسان لا من الحقوق ، على أنه قد نفى الله الجناح عن المطلق ثم أثبت المتعة ، فلو كانت المتعة واجبة لانتقض نفي الجناح ، إلا أن يقال : إن الجناح نفي لأن المهر شيء معين ، قد يجحف بالمطلق بخلاف المتعة ، فإنها على حسب وسعه ولذلك نفى مالك ندبَ المتعة للتي طلقت قبل البناء وقد سمَّى لها مهراً ، قال : فحسبها ما فرض لها أي لأن الله قصَرها على ذلك ، رفقاً بالمطلق ، أي فلا تندب لها ندب خاصاً ، بأمر القرآن . وقد قال مالك : بأن المطلقة المدخول بها يستحب تمتيعها ، أي بقاعدة الإحسان الأعم ولما مضى من عمل السلف .

وقوله : { على الموسع قدره وعلى المقتر قدره } الموسع من أوسع إذا صار ذا سعة ، والمقتر من أقتر إذا صار ذا قَتر وهو ضيق العيش ، والقدر بسكون الدال وبفتحها ما به تعيين ذات الشيء أو حاله ، فيطلق على ما يساوي الشيء من الأجرام ، ويطلق على ما يساويه في القيمة ، والمراد به هنا الحال التي يقدر بها المرء في مراتب الناس في الثروة ، وهو الطبقة من القوم ، والطاقة من المال ، وقرأه الجمهور بسكون الدال ، وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر بفتح الدال .