{ 42 - 43 } { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ }
أي : إذا كان يوم القيامة ، وانكشف فيه من القلاقل [ والزلازل ] والأهوال ما لا يدخل تحت الوهم ، وأتى الباري لفصل القضاء بين عباده ومجازاتهم فكشف عن ساقه الكريمة التي لا يشبهها شيء ، ورأى الخلائق من جلال الله وعظمته ما لا يمكن التعبير عنه ، فحينئذ يدعون إلى السجود لله ، فيسجد المؤمنون الذين كانوا يسجدون لله ، طوعًا واختيارًا ، ويذهب الفجار المنافقون ليسجدوا فلا يقدرون على السجود ، وتكون ظهورهم كصياصي البقر ، لا يستطيعون الانحناء .
لما ذكر تعالى أن للمتقين عنده{[29201]} جنات النعيم ، بين متى ذلك كائن وواقع ، فقال : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ } يعني : يوم القيامة وما يكون فيه من الأهوال والزلازل والبلاء والامتحان والأمور العظام . وقد قال البخاري هاهنا :
حدثنا آدم ، حدثنا الليث ، عن خالد بن يزيد ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يَسَار ، عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " يَكشِفُ رَبّنا عن ساقه ، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة ، فيذهب ليسجد فيعود ظهره طَبَقًا واحدًا " {[29202]} .
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وفي غيرهما من طرق{[29203]} وله ألفاظ ، وهو حديث طويل مشهور .
وقد قال عبد الله بن المبارك ، عن أسامة بن زيد ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ }
قال : هو يوم كَرْب وشدة . رواه ابن جرير ثم قال :
حدثنا ابن حميد ، حدثنا مِهْران ، عن سفيان ، عن المغيرة ، عن إبراهيم ، عن ابن مسعود - أو : ابن عباس ، الشك من ابن جرير - : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ } قال : عن أمر عظيم ، كقول الشاعر :
وقامت الحرب بنا عن ساق{[29204]}
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ } قال : شدة الأمر{[29205]}
وقال ابن عباس : هي أول{[29206]} ساعة تكون في يوم القيامة .
وقال ابن جُرَيح ، عن مجاهد : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ } قال : شدة الأمر وجده .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ } هو الأمر الشديد المُفظِع من الهول يوم القيامة .
وقال العوفي ، عن ابن عباس قوله : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ } يقول : حين يكشف الأمر وتبدو الأعمال . وكشفه دخول الآخرة ، وكشف الأمر عنه . وكذا روى الضحاك وغيره عن ابن عباس . أورد ذلك كله أبو جعفر بن جرير ثم قال :
حدثني أبو زيد عمر بن شَبَّة ، حدثنا هارون بن عمر المخزومي ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا أبو سعيد روح بن جناح ، عن مولى لعمر بن عبد العزيز ، عن أبي بردة بن أبي موسى ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ } قال : " عن نور عظيم ، يخرون له سجدًا " .
ورواه أبو يعلى ، عن القاسم بن يحيى ، عن الوليد بن مسلم ، به{[29207]} وفيه رجل مبهم{[29208]} والله أعلم .
وقوله تعالى : { يوم يكشف عن ساق } ، قال مجاهد : هي أول ساعة من يوم القيامة ، وهي أفظعها ، وتظاهر حديث من النبي صلى الله عليه وسلم : «أنه ينادي مناد يوم القيامة ليتبع كل أحد ما كان يعبد » ، قال : «فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ، ويتبع من كان يعبد القمر القمر ، وكذلك كل عابد لكل معبود ثم تبقى هذه الأمة وغبرات أهل الكتاب{[11257]} ، معهم منافقوهم وكثير من الكفرة ، فيقال لهم : ما شأنكم لم تقفون ، وقد ذهب الناس فيقولون ننتظر ربنا فيجيئهم الله تعالى في غير الصورة التي عرفوه بها ، فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : نعوذ بالله منك ، قال فيقول : أتعرفونه بعلامة ترونها فيقولون : نعم ، فيكشف لهم عن ساق ، فيقولون : نعم أنت ربنا ، ويخرون للسجود فيسجد كل مؤمن وتصير أصلاب المنافقين والكفار كصياصي البقر عظماً واحداً ، فلا يستطيعون سجوداً »{[11258]} .
قال القاضي أبو محمد : هكذا هو الحديث وإن اختلفت منه ألفاظ بزيادة ونقصان ، وعلى كل وجه فما ذكر فيه من كشف الساق وما في الآية من ذلك ، فإنما هو عبارة عن شدة الهول وعظم القدرة التي يرى الله تعالى ذلك اليوم حتى يقع العلم أن تلك القدرة إنما هي لله تعالى وحده ، ومن هذا المعنى قول الشاعر في صفة الحرب [ جد طرفة ] : [ مجزوء الكامل ]
كشفت لهم عن ساقها . . . وبدا عن الشر البراح{[11259]}
وشمرت عن ساقها فشدوا . . . {[11260]}
في سنة قد كشفت عن ساقها . . . حمراء تبري اللحم عن عراقها{[11261]}
وأصل ذلك أنه من أراد الجد في أمر يحاوله فإنه يكشف عن ساقه تشميراً وجداً ، وقد مدح الشعراء بهذا المعنى فمنه قول دريد : [ الطويل ]
كميش الإزار خارج نصف ساقه . . . صبور على الضراء طلاع أنجدِ{[11262]}
وعلى هذا من إرادة الجد والتشمير في طاعة الله تعالى ، قال صلى الله عليه وسلم : «أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه »{[11263]} . وقرأ جمهور الناس : «يُكشَف عن ساق » بضم الياء على بناء الفعل للمفعول ، وقرأ ابن مسعود : «يَكشِف » بفتح الياء وكسر الشين على معنى يكشف الله ، وقرأ ابن عباس : «تُكشف » بضم التاء على معنى تكشف القيامة والشدة والحال الحاضرة ، وقرأ ابن عباس أيضاً : «تَكشف » بفتح التاء على أن القيامة هي الكاشفة ، وحكى الأخفش عنه أنه قرأ : «نَكشِف » بالنون مفتوحة وكسر الشين ، ورويت عن ابن مسعود . وقوله تعالى : { ويدعون } ظاهره أن ثم دعاء إلى السجود ، وهذا يرده ما قد تقرر في الشرع من أن الآخرة ليست بدار عمل وأنها لا تكليف فيها ، فإذا كان هذا فإنما الداعي ما يرونه من سجود المؤمنين فيريدون هم أن يسجدوا عند ذلك فلا يستطيعونه . وقد ذهب بعض العلماء إلى أنهم يدعون إلى السجود على جهة التوبيخ ، وخرج بعض الناس من قوله : { فلا يستطيعون } أنهم كانوا يستطيعونه قبل ذلك ، وذلك غير لازم . وعقيدة الأشعري : أن الاستطاعة إنما تكون مع التلبس بالفعل لما قبله ، وهذا القدر كاف من هذه المسألة هاهنا .