{ 128 - 129 } { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ }
يمتن [ تعالى ] على عباده المؤمنين بما بعث فيهم النبي الأمي الذي من أنفسهم ، يعرفون حاله ، ويتمكنون من الأخذ عنه ، ولا يأنفون عن الانقياد له ، وهو صلى الله عليه وسلم في غاية النصح لهم ، والسعي في مصالحهم .
{ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } أي : يشق عليه الأمر الذي يشق عليكم ويعنتكم .
{ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ } فيحب لكم الخير ، ويسعى جهده في إيصاله إليكم ، ويحرص على هدايتكم إلى الإيمان ، ويكره لكم الشر ، ويسعى جهده في تنفيركم عنه . { بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } أي : شديد الرأفة والرحمة بهم ، أرحم بهم من والديهم .
يقول تعالى ممتنا على المؤمنين بما أرسل إليهم رسولا من أنفسهم ، أي : من جنسهم وعلى لغتهم ، كما قال إبراهيم ، عليه السلام : { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ } [ البقرة : 129 ] ، وقال تعالى : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ } [ آل عمران : 164 ] ، وقال تعالى : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ } أي : منكم وبلغتكم ، كما قال جعفر بن أبي طالب للنجاشي ، والمغيرة بن شعبة لرسول كسرى : إن الله بعث فينا رسولا منا ، نعرف نسبه وصفته ، ومدخله ومخرجه ، وصدقه وأمانته ، وذكر الحديث .
وقال سفيان بن عُيينة ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه في قوله تعالى : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ } قال : لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية ، وقال صلى الله عليه وسلم : " خرجت من نكاح ، ولم أخرج من سِفاح " .
وقد وصل هذا من وجه آخر ، كما قال الحافظ أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن الرامهُرْمُزي في كتابه " الفاصل بين الراوي والواعي " : حدثنا أبو أحمد يوسف بن هارون بن زياد ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا محمد بن جعفر بن محمد قال : أشهد على أبي لحدثني ، عن أبيه ، عن جده ، عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح ، من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي لم يمسني{[14022]} من سفاح الجاهلية شيء " {[14023]} . وقوله : { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } أي : يعز عليه الشيء الذي يَعْنَتُ أمته ويشق عليها ؛ ولهذا جاء في الحديث المروي من طرق عنه أنه قال : " بعثت بالحنيفية السمحة " {[14024]} وفي الصحيح : " إن هذا الدين يسر " {[14025]} وشريعته كلها سهلة سمحة كاملة ، يسيرة على من يسرها الله تعالى عليه .
{ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ } أي : على هدايتكم ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم .
قال الطبراني : حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ، حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ ،
حدثنا سفيان بن عيينة ، عن فِطْر ، عن أبي الطفيل ، عن أبي ذر قال . تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر{[14026]} يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكرنا منه علما - قال : وقال صلى الله عليه وسلم : " ما بقي شيء يُقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بين لكم " . {[14027]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا [ أبو ]{[14028]} فَطَن ، حدثنا السعودي ، عن الحسن بن سعد ، عن عبدة النَّهدي ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله لم يحرم حُرمة إلا وقد علم أنه سيطلعها منكم مُطَّلَع ، ألا وإني آخذ بحجزكم أن تهافتوا في النار ، كتهافت الفراش ، أو الذباب " . {[14029]} وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد بن جُدْعان ، عن يوسف بن مِهْرَان ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه ملكان ، فيما يرى النائم ، فقعد أحدهما عند{[14030]} رجليه والآخر عند رأسه . فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه : اضرب مثل هذا ومثل أمته . فقال : إن مثله{[14031]} ومثل أمته كمثل قوم سفر انتهوا إلى رأس مفازة{[14032]} فلم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة{[14033]} ولا ما يرجعون به ، فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجل في حُلَّة حِبَرَة فقال : أرأيتم إن ورَدت بكم رياضا معشبة ، وحياضا رواء تتبعوني ؟ فقالوا : نعم . قال : فانطلق بهم ، فأوردهم رياضا معشبة ، وحياضا رواء ، فأكلوا وشربوا وسمنوا ، فقال لهم : ألم ألفكم على تلك الحال ، فجعلتم لي إن وردت بكم رياضا معشبة وحياضا رواء أن تتبعوني ؟ فقالوا : بلى . قال : فإن بين أيديكم رياضا هي أعشب من هذه ، وحياضا هي أروى من هذه ، فاتبعوني . فقالت طائفة : صدق ، والله لنتبعنه وقالت طائفة : قد رضينا بهذا نقيم عليه . {[14034]} وقال البزار : حدثنا سلمة بن شبيب وأحمد بن منصور قالا حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان حدثنا أبي ، عن عِكْرِمة عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ؛ أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستعينه في شيء - قال عِكْرِمة : أراه قال : " في دم " - فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ، ثم قال : " أحسنت إليك ؟ " قال الأعرابي : لا ولا أجملت . فغضب بعض المسلمين ، وهموا أن يقوموا إليه ، فأشار رسول الله إليهم : أن كفوا . فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغ إلى منزله ، دعا الأعرابي إلى البيت ، فقال له : " إنك جئتنا فسألتنا فأعطيناك ، فقلت ما قلت " فزاده رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ، وقال : " أحسنت إليك ؟ " فقال الأعرابي : نعم ، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرًا . قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنك جئتنا تسألنا{[14035]} فأعطيناك ، فقلت ما قلت ، وفي أنفس أصحابي عليك من ذلك شيء ، فإذا جئت{[14036]} فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي ، حتى يذهب عن صدورهم " . قال : نعم . فلما جاء الأعرابي . قال{[14037]} إن صاحبكم كان
جاءنا فسألنا فأعطيناه ، فقال ما قال ، وإنا قد دعوناه فأعطيناه فزعم أنه قد رضي ، [ كذلك يا أعرابي ؟ ]{[14038]} قال الأعرابي : نعم ، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرًا . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة ، فشردت عليه ، فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفورا . فقال لهم صاحب الناقة : خلوا بيني وبين ناقتي ، فأنا أرفق بها ، وأعلم بها . فتوجه إليها وأخذ لها{[14039]} من قَتَام الأرض ، ودعاها حتى جاءت واستجابت ، وشد عليها رحْلها وإنه لو أطعتكم حيث قال ما قال لدخل النار " . ثم قال البزار : لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه . {[14040]} قلت : وهو ضعيف بحال إبراهيم بن الحكم بن أبان ، والله أعلم .
وقوله : { بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } كما قال تعالى : { وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ . فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ . وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ } [ الشعراء : 215 - 217 ] .
وقوله تعالى : { لقد جاءكم } مخاطبة للعرب في قول الجمهور وهذا على جهة تعديد النعمة عليهم في ذلك ، إذ جاء بلسانهم وبما يفهمونه من الأغراض والفصاحة وشرفوا به غابر الأيام ، وقال الزجّاج : هي مخاطبة لجميع العالم ، والمعنى لقد جاءكم رسول من البشر والأول أصوب ، وقوله { من أنفسكم } يقتضي مدحاً لنسب النبي صلى الله عليه وسلم وأنه من صميم العرب وأشرفها{[5985]} ، وينظر إلى هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم : «إن الله اصطفى كنانة من ولد اسماعيل ، واصطفى قريشاً من كنانة ، واصطفى بني هاشم من قريش ، واصطفاني من بني هاشم »{[5986]} ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : «إني من نكاح ولست من سفاح »{[5987]} معناه أن نسبه صلى الله عليه وسلم إلى آدم عليه السلام لم يكن النسل فيه إلا من من نكاح ولم يكن فيه زنى ، وقرأ عبد الله بن قسيط المكي «من أنفَسكم » بفتح الفاء من النفاسة ، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن فاطمة رضي الله عنها ، ذكر أبو عمرو أن ابن عباس رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقوله { ما عنتم } معناه عنتكم ف { ما } مصدرية وهي ابتداء ، و { عزيز } خبر مقدم ، ويجوز أن يكون { ما عنتم } فاعلاً ب { عزيز } و { عزيز } صفة للرسول ، وهذا أصوب من الأول{[5988]} والعنت المشقة وهي هنا لفظة عامة أي ما شق عليكم من كفر وضلال بحسب الحق ومن قتل أو أسار وامتحان بسبب الحق واعتقادكم أيضاً معه ، وقال قتادة : المعنى عنت مؤمنيكم .
قال القاضي أبو محمد : وتعميم عنت الجميع أوجه ، وقوله : { حريص عليكم } يريد على إيمانكم وهداكم ، وقوله : { رؤوف } معناه مبالغ في الشفقة ، قال أبو عبيدة : الرأفة أرق الرحمة ، وقرأ «رؤف » دون مد الأعمش وأهل الكوفة وأبو عمرو{[5989]} .