44- إنا أنزلنا التوراة على موسى فيها هداية إلى الحق ، وبيان منير للأحكام التي يحكم بها النبيون ، والذين أخلصوا نفوسهم لربهم ، والعلماء السالكون طريقة الأنبياء والذين عهد إليهم أن يحفظوا كتابهم من التبديل ، حرساً عليه ، شاهدين بأنه الحق . فلا تخافوا الناس في أحكامكم ، وخافوني أنا ربكم رب العالمين ، ولا تستبدلوا بآياتي التي أنزلتها ثمناً قليلاً من متاع الدنيا ، كالرشوة والجاه ، ومن لم يحكم بما أنزل الله من شرائع مستهينين بها ، فهم من الكافرين .
{ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ } على موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام . { فِيهَا هُدًى } يهدي إلى الإيمان والحق ، ويعصم من الضلالة { وَنُورٌ } يستضاء به في ظلم الجهل والحيرة والشكوك ، والشبهات والشهوات ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ } { يَحْكُمُ بِهَا } بين الذين هادوا ، أي : اليهود في القضايا والفتاوى { النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا } لله وانقادوا لأوامره ، الذين إسلامهم أعظم من إسلام غيرهم ، وهم صفوة الله من العباد . فإذا كان هؤلاء النبيون الكرام والسادة للأنام قد اقتدوا بها وائتموا ومشوا خلفها ، فما الذي منع هؤلاء الأراذل من اليهود من الاقتداء بها ؟ وما الذي أوجب لهم أن ينبذوا أشرف ما فيها من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، الذي لا يقبل عمل ظاهر وباطن ، إلا بتلك العقيدة ؟ هل لهم إمام في ذلك ؟ نعم لهم أئمة دأبهم التحريف ، وإقامة رياستهم ومناصبهم بين الناس ، والتأكل بكتمان الحق ، وإظهار الباطل ، أولئك أئمة الضلال الذين يدعون إلى النار .
وقوله : { وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ } أي : وكذلك يحكم بالتوراة للذين هادواأئمة الدين من الربانيين ، أي : العلماء العاملين المعلمين الذين يربون الناس بأحسن تربية ، ويسلكون معهم مسلك الأنبياء المشفقين .
والأحبار أي : العلماء الكبار الذين يقتدى بأقوالهم ، وترمق آثارهم ، ولهم لسان الصدق بين أممهم .
وذلك الحكم الصادر منهم الموافق للحق { بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ } أي : بسبب أن الله استحفظهم على كتابه ، وجعلهم أمناء عليه ، وهو أمانة عندهم ، أوجب عليهم حفظه من الزيادة والنقصان والكتمان ، وتعليمه لمن لا يعلمه .
وهم شهداء عليه ، بحيث أنهم المرجوع إليهم فيه ، وفيما اشتبه على الناس منه ، فالله تعالى قد حمل أهل العلم ، ما لم يحمله الجهال ، فيجب عليهم القيام بأعباء ما حملوا .
وأن لا يقتدوا بالجهال ، بالإخلاد إلى البطالة والكسل ، وأن لا يقتصروا على مجرد العبادات القاصرة ، من أنواع الذكر ، والصلاة ، والزكاة ، والحج ، والصوم ، ونحو ذلك من الأمور ، التي إذا قام بها غير أهل العلم سلموا ونجوا .
وأما أهل العلم فكما أنهم مطالبون بالقيام بما عليهم أنفسهم ، فإنهم مطالبون أن يعلموا الناس وينبهوهم على ما يحتاجون إليه من أمور دينهم ، خصوصا الأمور الأصولية والتي يكثر وقوعها وأن لا يخشوا الناس بل يخشون ربهم ، ولهذا قال : { فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا } فتكتمون الحق ، وتظهرون الباطل ، لأجل متاع الدنيا القليل ، وهذه الآفات إذا سلم منها العالم فهو من توفيقه وسعادته ، بأن يكون همه الاجتهاد في العلم والتعليم ، ويعلم أن الله قد استحفظه ما{[266]} أودعه من العلم واستشهده عليه ، وأن يكون خائفا من ربه ، ولا يمنعه خوف الناس وخشيتهم من القيام بما هو لازم له ، وأن لا يؤثر الدنيا على الدين .
كما أن علامة شقاوة العالم أن يكون مخلدا للبطالة ، غير قائم بما أمر به ، ولا مبال بما استحفظ عليه ، قد أهمله وأضاعه ، قد باع الدين بالدنيا ، قد ارتشى في أحكامه ، وأخذ المال على فتاويه ، ولم يعلم عباد الله إلا بأجرة وجعالة .
فهذا قد من الله عليه بمنة عظيمة ، كفرها ودفع حظا جسيما ، محروما منه غيره ، فنسألك اللهم علما نافعا ، وعملا متقبلا ، وأن ترزقنا العفو والعافية من كل بلاء يا كريم .
{ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } من الحق المبين ، وحكم بالباطل الذي يعلمه ، لغرض من أغراضه الفاسدة { فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } فالحكم بغير ما أنزل الله من أعمال أهل الكفر ، وقد يكون كفرا ينقل عن الملة ، وذلك إذا اعتقد حله وجوازه . وقد يكون كبيرة من كبائر الذنوب ، ومن أعمال الكفر قد استحق من فعله العذاب الشديد .
ثم مدح التوراة التي أنزلها على عبده ورسوله موسى بن عمران ، فقال : { إِنَّا أَنزلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا } أي : لا يخرجون عن حكمها ولا يبدلونها ولا يحرفونها { وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ } أي : وكذلك الربانيون منهم وهم العباد العلماء ، والأحبار وهم العلماء{[9865]} { بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ } أي : بما استودعوا من كتاب الله الذي أمروا أن يظهروه ويعملوا به { وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ } أي : لا تخافوا منهم وخافوني{[9866]} { وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } فيه قولان سيأتي بيانهما . سبب آخر لنزول هذه الآيات الكريمة . {[9867]}
وكذا رواه هُشَيْم والثوري ، عن زكريا بن أبي زائدة ، عن الشعبي .
وقال عبد الرزاق أيضًا : أخبرنا مَعْمَر ، عن ابن طاوس{[9868]} عن أبيه قال : سئل ابن عباس عن قوله : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ [ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ] }{[9869]} قال : هي به كفر - قال ابن طاوس : وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله .
وقال الثوري ، عن ابن جُرَيْج{[9870]} عن عطاء أنه قال : كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق . رواه ابن جرير .
وقال وَكِيع عن سفيان ، عن سعيد المكي ، عن طاوس : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } قال : ليس بكفر ينقل عن الملة . {[9871]}
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن هشام بن حُجَير ، عن طاوس ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } قال : ليس بالكفر الذي يذهبون إليه .
ورواه الحاكم في مستدركه ، عن حديث سفيان بن عيينة ، وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه . {[9872]}
{ إنا أنزلنا التوراة فيها هدى } يهدي إلى الحق . { ونور } يكشف عما استبهم من الأحكام . { يحكم بها النبيون } يعني أنبياء بني إسرائيل ، أو موسى ومن بعده إن قلنا شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخ ، وبهذه الآية تمسك القائل به . { الذين أسلموا } صفة أجريت على النبيين مدحا لهم وتنويها بشأن المسلمين . وتعريضا باليهود وأنهم بمعزل عن دين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام واقتفاء هديهم . { للذين هادوا } متعلق بأنزل ، أو بيحكم أي يحكمون بها في تحاكمهم وهو يدل على أن النبيين أنبياؤهم . { والربانيون والأحبار } زهادهم وعلماؤهم السالكون طريقة أنبيائهم عطف على النبيون { بما استحفظوا من كتاب الله } بسبب أمر الله إياهم بأن يحفظوا كتابه من التضييع والتحريف ، والراجع إلى ما محذوف ومن للنبيين . { وكانوا عليه شهداء } رقباء لا يتركون أن يغير ، أو شهداء يبينون ما يخفى منه كما فعل ابن صوريا . { فلا تخشوا الناس واخشون } نهي للحكام أن يخشوا غير الله في حكوماتهم ويداهنوا فيها خشية ظالم أو مراقبة كبير . { ولا تشتروا بآياتي } ولا تستبدلوا بأحكامي التي أنزلتها . { ثمنا قليلا } هو الرشوة والجاه { ومن لم يحكم بما أنزل الله } مستهينا به منكرا له . { فأولئك هم الكافرون } لاستهانتهم به وتمردهم بأن حكموا بغيره ، ولذلك وصفهم بقوله { الكافرون } و{ الظالمون } و{ الفاسقون } ، فكفرهم لإنكاره ، وظلمهم بالحكم على خلافه ، وفسقهم بالخروج عنه . ويجوز أن يكون كل واحدة من الصفات الثلاث باعتبار حال انضمت إلى الامتناع عن الحكم به ملائمة لها ، أو لطائفة كما قيل هذه في المسلمين لاتصالها بخطابهم ، والظالمون في اليهود ، والفاسقون في النصارى .
وقوله تعالى : { إنا أنزلنا التوراة } الآية ، قال قتادة ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لما أنزلت هذه الآية ، نحن اليوم نحكم على اليهود وعلى من سواهم من أهل الأديان{[4555]} . و «الهدى » : الإرشاد في المعتقد والشرائع ، و «النور » : ما يستضاء به من أوامرها ونواهيها ، و { النبيون الذين أسلموا } هم من بعث من لدن موسى بن عمران إلى مدة محمد صلى الله عليه وسلم ، هذان طرفا هذه الجماعة المذكورة في هذه الآية و { أسلموا } معناه أخلصوا وجوههم ومقاصدهم لله تعالى . وقوله تعالى : { للذين هادوا } متعلق ب { يحكم } أي يحكمون بمقتضى التوراة لبني إسرائيل وعليهم . وقوله تعالى : { الربانيون } عطف على «النبيين » أي ويحكم بها الربانيون وهم العلماء ، وفي البخاري قال «الرباني » الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره ، وقيل «الرباني » منسوب إلى الرب أي عنده العلم به وبدينه ، وزيدت النون في «رباني » مبالغة كما قالوا منظراني ومخبراني وفي عظيم الرقبة رقباني ، والأحبار أيضاً العلماء واحدهم حِبر بكسر الحاء ، ويقال بفتحها وكثر استعمال الفتح فيه للفرق بينه وبين الحبر الذي يكتب به . وقال السدي المراد هنا «بالربانيين والأحبار » الذين يحكمون بالتوراة ابنا صوريا كان أحدهم ربانياً والآخر حبراً .
وكانوا قد أعطوا النبي صلى الله عليه وسلم عهداً أن لا يسألهما عن شيء من أمر التوراة إلا أخبراه به ، فسألهما عن آية الرجم فأخبراه به على وجهه فنزلت الآية مشيرة إليهما .
قال القاضي ابو محمد : وفي هذا نظر ، والرواية الصحيحة أن ابني صوريا{[4556]} وغيرهم جحدوا أمر الرجم وفضحهم فيه عبد الله بن سلام ، وإنما اللفظ عام في كل حبر مستقيم فيما مضى من الزمان ، وأما في مدة محمد صلى الله عليه وسلم فلو وجد لأسلم فلم يسم حبراً ولا ربانياً . وقوله تعالى : { بما استحفظوا } أي بسبب استحفاظ الله تعالى إياهم أمر التوراة وأخذه العهد عليهم في العمل والقول بها وعرفهم ما فيها فصاروا شهداء عليه ، وهؤلاء ضيعوا لما استحفظوا حتى تبدلت التوراة ، والقرآن بخلاف هذا لقوله تعالى : { وإنا له لحافظون }{[4557]} والحمد لله . وقوله تعالى : { فلا تخشوا الناسَ واخشون } حكاية ما قيل لعلماء بني إسرائيل . وقوله : { ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } نهي عن جميع المكاسب الخبيثة بالعلم والتحيل للدنيا بالدين . وهذا المعنى بعينه يتناول علماء هذه الأمة وحكامها ويحتمل أن يكون قوله فلا تخشوا الناس إلى آخر الآية خطاباً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم واختلف العلماء في المراد بقوله تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } فقالت جماعة : المراد اليهود بالكافرين والظالمين والفاسقين ، وروي في هذا حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق البراء بن عازب{[4558]} .
وقالت جماعة عظيمة من أهل العلم : الآية متناولة كل من لم يحكم بما أنزل الله . ولكنه في أمراء هذه الأمة كفر معصية لا يخرجهم عن الإيمان{[4559]} .
وقيل لحذيفة بن اليمان :أنزلت هذه الآية في بني إسرائيل ؟ فقال نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل ، ان كان لكم كل حلوة ، ولهم كل ُمَّرة ، لتسلكن طريقهم قدر الشراك{[4560]} .
وقال الشعبي : نزلت { الكافرون } في المسلمين و { الظالمون } في اليهود و { الفاسقون } في النصارى{[4561]} .
قال القاضي أبو محمد : ولا أعلم بهذا التخصيص وجهاً إلا إن صح فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، إلا أنه راعى من ذكر مع كل خبر من هذه الثلاثة ، فلا يترتب له ما ذكر في المسلمين إلا على أنهم خوطبوا بقوله : { فلا تخشوا الناس } وقال إبراهيم النخعي : نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل ثم رضي لهذه الأمة بها{[4562]} .