{ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ } أي : علم الله داود عليه السلام ، صنعة الدروع ، فهو أول من صنعها وعلمها وسرت صناعته إلى من بعده ، فألان الله له الحديد ، وعلمه كيف يسردها والفائدة فيها كبيرة ، { لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ } أي : هي وقاية لكم ، وحفظ عند الحرب ، واشتداد البأس .
{ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ } نعمة الله عليكم ، حيث أجراها على يد عبده داود ، كما قال تعالى : { وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ }
يحتمل أن تعليم الله لداود صنعة الدروع وإلانتها أمر خارق للعادة ، وأن يكون - كما قاله المفسرون- : إن الله ألان له الحديد ، حتى كان يعمله كالعجين والطين ، من دون إذابة له على النار ، ويحتمل أن تعليم الله له ، على جاري العادة ، وأن إلانة الحديد له ، بما علمه الله من الأسباب المعروفة الآن ، لإذابتها ، وهذا هو الظاهر ، لأن الله امتن بذلك على العباد وأمرهم بشكرها ، ولولا أن صنعته من الأمور التي جعلها الله مقدورة للعباد ، لم يمتن عليهم بذلك ، ويذكر فائدتها ، لأن الدروع التي صنع داود عليه السلام ، متعذر أن يكون المراد أعيانها ، وإنما المنة بالجنس ، والاحتمال الذي ذكره المفسرون ، لا دليل عليه إلا قوله : { وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ } وليس فيه أن الإلانة من دون سبب ، والله أعلم بذلك .
وقوله : { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِيُحْصِنَكُمْ{[19735]} مِنْ بَأْسِكُمْ } يعني صنعة الدروع .
قال قتادة : إنما كانت الدروع قبله صفائح ، وهو أول من سردها حلَقًا . كما قال تعالى : { وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ . أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ } [ سبأ : 10 ، 11 ] أي : لا توسع الحلقة فتقلق{[19736]} المسمار ، ولا تغلظ المسمار فتَقَدّ الحَلْقة ؛ ولهذا قال : { لِيُحْصِنَكُمْ{[19737]} مِنْ بَأْسِكُمْ } يعني : في القتال ، { فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ } أي : نعم الله عليكم ، لما ألهم به عبده داود ، فعلمه ذلك من أجلكم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَعَلّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وعلمنا داود صنعة لَبوس لكم ، واللّبوس عند العرب : السلاح كله ، درعا كان أو جَوْشنا أو سيفا أو رمحا ، يدلّ على ذلك قول الهُذليّ :
وَمَعِي لَبُوسٌ لِلّبِيسِ كأنّهُ *** رَوْقٌ بِجَبْهَةِ ذِي نِعاجٍ مُجْفِلِ
وإنما يصف بذلك رمحا . وأما في هذا الموضع فإن أهل التأويل قالوا : عني الدروع . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَعَلّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ . . . . الاَية ، قال : كانت قبل داود صفائح ، قال : وكان أوّل من صنع هذا الحلق وسرد داود .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : وَعَلّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ قال : كانت صفائح ، فأوّل من سَرَدَها وحَلّقها داود عليه السلام .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : لِتُحْصِنَكُمْ فقرأ ذلك أكثر قرّاء الأمصار : «لِيُحْصِنَكُمْ » بالياء ، بمعنى : ليحصنكم اللّبوس من بأسكم ، ذَكّروه لتذكير اللّبوس . وقرأ ذلك أبو جعفر يزيد بن القعقاع : لِتُحْصِنَكُمْ بالتاء ، بمعنى : لتحصنكم الصنعة ، فأنث لتأنيث الصنعة . وقرأ شيبة بن نصاح وعاصم بن أبي النّجود : «لِنُحْصِنَكُمْ » بالنون ، بمعنى : لنحصنكم نحن من بأسكم .
قال أبو جعفر : وأولى القراءات في ذلك بالصواب عندي قراءة من قرأه بالياء ، لأنها القراءة التي عليها الحجة من قرّاء الأمصار ، وإن كانت القراءات الثلاث التي ذكرناها متقاربات المعاني وذلك أن الصنعة هي اللبوس ، واللّبوس هي الصنعة ، والله هو المحصن به من البأس ، وهو المحصن بتصيير الله إياه كذلك . ومعنى قوله : «لِيُحْصِنَكُمْ » ليحرزَكم ، وهو من قوله : قد أحصن فلان جاريته . وقد بيّنا معنى ذلك بشواهده فيما مضى قبل . والبأس : القتال ، وعلّمنا داود صنعة سلاح لكم ليحرزكم إذا لبستموه ولقيتم فيه أعداءكم من القتل .
وقوله : فَهَلْ أنْتُمْ شاكُرونَ يقول : فهل أنتم أيها الناس شاكروا الله على نعمته عليكم بما علّمكم من صنعة اللبوس المحصِن في الحرب وغير ذلك من نعمه عليكم ، يقول : فاشكروني على ذلك .
{ وعلمناه صنعة لبوس } عمل الدرع وهو في الأصل اللباس قال :
البس لكل حالة لبوسها *** إما نعيمها وإما بوسها
قيل كانت صفائح فحلقها وسردها . { لكم } متعلق بعلم أو صفة للبوس { ليحصنكم من بأسكم } بدل منه بدل الاشتمال بإعادة الجار ، والضمير لداود عليه الصلاة والسلام أو للبوس وفي قراءة ابن عامر وحفص بالتاء للصنعة أو للبوس على تأويل الدرع وفي قراءة أبي بكر ورويس بالنون لله عز وجل { فهل أنتم شاكرون } ذلك أمر أخرجه في صورة الاستفهام للمبالغة والتقريع .
عدد الله تعالى على البشر أن علم داود { صنعة } الدروع فكان يصنعها أحكم صنعة لتكوين وقاية من الحرب وسبب نجاة من العدو ، و «اللبوس » في اللغة السلاح فمنه الدرع والسيف والرمح وغير ذلك ومنه قول الشاعر [ عامر بن الحليس ] : [ الكامل ]
ومعي لبوس للبئيس كأنه . . . روق بجبهة ذي لقاح مجفل{[8252]}
يعني الرمح . وقرأ نافع والجمهور «ليحصنكم » بالياء على معنى ليحصنكم داود اللبوس ، وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم «لتحصنكم » بالتاء على معنى الصنعة أو الدروع التي أوقع عليها اللبوس ، وقرأ أبو بكر عن عاصم «لنحصنكم » على معنى رد الفعل إلى الله تعالى ، ويروى أَنه كان الناس قبل تتخذ القوي لباساً من صفائح الحديد فكان ثقله يقطع بأكثر الناس .