الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَعَلَّمۡنَٰهُ صَنۡعَةَ لَبُوسٖ لَّكُمۡ لِتُحۡصِنَكُم مِّنۢ بَأۡسِكُمۡۖ فَهَلۡ أَنتُمۡ شَٰكِرُونَ} (80)

فيه ثلاث مسائل :

الأولى-قوله تعالى : " وعلمناه صنعة لبوس لكم " يعني اتخاذ الدروع بإلانة الحديد له ، واللبوس عند العرب السلاح كله ، درعا كان أو جَوْشَنًا أو سيفا أو رمحا . قال الهذلي{[11316]} يصف رمحا :

ومَعِي لَبُوسٌ للبئيسِ كأنه *** رَوْقٌ بجَبْهَةِ ذي نِعَاجٍ مُجْفِلِ

واللبوس كل ما يلبس ، وأنشد ابن السكيت{[11317]} :

الْبَسْ لكُلِّ حالةٍ لَبُوسَهَا *** إما نعيمَها وإما بُوسَهَا

وأراد الله تعالى هنا الدرع ، وهو بمعنى الملبوس نحو الركوب والحلوب . قال قتادة : أول من صنع الدروع داود . وإنما كانت صفائح ، فهو أول من سردها وحلقها .

الثانية-قوله تعالى : " ليحصنكم " {[11318]} ليحرزكم . " من بأسكم " أي من حربكم . وقيل : من السيف والسهم والرمح ، أي من آلة بأسكم فحذف المضاف . ابن عباس : " من بأسكم " من سلاحكم . الضحاك : من حرب أعدائكم . والمعنى واحد . وقرأ الحسن وأبو جعفر وابن عامر وحفص وروح " لتحصنكم " بالتاء ردا على الصفة . وقيل : على اللبوس والمنعة التي هي الدروع . وقرأ شيبة وأبو بكر والمفضل ورويس وابن أبي إسحاق " لنحصنكم " بالنون لقوله : " وعلمناه " . وقرأ الباقون بالياء جعلوا الفعل للبوس ، أو يكون المعنى ليحصنكم الله . " فهل أنتم شاكرون " أي على تيسير نعمة الدروع لكم . وقيل : " فهل أنتم شاكرون " بأن تطيعوا رسولي .

الثالثة-هذه الآية أصل في اتخاذ الصنائع والأسباب ، وهو قول أهل العقول والألباب ، لا قول الجهلة الأغبياء القائلين بأن ذلك إنما شرع للضعفاء ، فالسبب سنة الله في خلقه فمن طعن في ذلك فقد طعن في الكتاب والسنة ، ونسب من ذكرنا إلى الضعف وعدم المنة . وقد أخبر الله تعالى عن نبيه داود عليه السلام أنه كان يصنع الدروع ، وكان أيضا يصنع الخوص ، وكان يأكل من عمل يده ، وكان آدم حراثا ، ونوح نجارا ، ولقمان خياطا ، وطالوت دباغا . وقيل : سقاء ، فالصنعة يكف بها الإنسان نفسه عن الناس ، ويدفع بها عن نفسه الضرر والباس . وفي الحديث : " إن الله يحب المؤمن المحترف الضعيف المتعفف ويبغض السائل الملحف " . وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة " الفرقان " {[11319]} وقد تقدم في غير ما آية ، وفيه كفاية والحمد لله .


[11316]:هو أبو كبير الهذلي، واسمه عامر بن الحليم من قصيدة أولها: أزهير هل عن شيبة من معدل *** أم لا سبيل إلى الشباب الأول والبئيس: الشجاع. والروق: القرن: القرن. وذو نعاج: يعني ثورا، والنعاج: البقر من الوحش.
[11317]:البيت لبيهس الفزاري.
[11318]:"ليحصنكم" بالياء قراءة نافع.
[11319]:راجع جـ 13 ص 12 فما بعد وص 72.