95- وإن الجهاد مع هذا الاحتراس فضله عظيم جداً ، فلا يستوي الذين يقعدون عن الجهاد في منازلهم والذين يجاهدون بأموالهم وأنفسهم ، فقد جعل اللَّه للمجاهدين درجة رفيعة فوق الذين قعدوا إلا إذا كان القاعدون من ذوى الأعذار التي تمنعهم من الخروج للقتال ، فإن عذرهم يرفع عنهم الملامة ومع أن المجاهدين لهم فضل ودرجة خاصة بهم ، فقد وعد اللَّه الفريقين المنزلة الحسنى والعاقبة الطيبة .
{ لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }
أي : لا يستوي من جاهد من المؤمنين بنفسه وماله ومن لم يخرج للجهاد ولم يقاتل أعداء الله ، ففيه الحث على الخروج للجهاد ، والترغيب في ذلك ، والترهيب من التكاسل والقعود عنه من غير عذر .
وأما أهل الضرر كالمريض والأعمى والأعرج والذي لا يجد ما يتجهز به ، فإنهم ليسوا بمنزلة القاعدين من غير عذر ، فمن كان من أولي الضرر راضيًا بقعوده لا ينوي الخروج في سبيل الله لولا [ وجود ] المانع ، ولا يُحَدِّث نفسه بذلك ، فإنه بمنزلة القاعد لغير عذر .
ومن كان عازمًا على الخروج في سبيل الله لولا وجود المانع يتمنى ذلك ويُحَدِّث به نفسه ، فإنه بمنزلة من خرج للجهاد ، لأن النية الجازمة إذا اقترن بها مقدورها من القول أو الفعل ينزل صاحبها منزلة الفاعل .
ثم صرَّح تعالى بتفضيل المجاهدين على القاعدين بالدرجة ، أي : الرفعة ، وهذا تفضيل على وجه الإجمال ، ثم صرح بذلك على وجه التفصيل ، ووعدهم بالمغفرة الصادرة من ربهم ، والرحمة التي تشتمل على حصول كل خير ، واندفاع كل شر .
والدرجات التي فصلها النبي صلى الله عليه وسلم بالحديث الثابت عنه في " الصحيحين " أن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، أعدها الله للمجاهدين في سبيله .
وهذا الثواب الذي رتبه الله على الجهاد ، نظير الذي في سورة الصف في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } إلى آخر السورة .
وتأمل حسن هذا الانتقال من حالة إلى أعلى منها ، فإنه نفى التسوية أولا بين المجاهد وغيره ، ثم صرَّح بتفضيل المجاهد على القاعد بدرجة ، ثم انتقل إلى تفضيله بالمغفرة والرحمة والدرجات .
وهذا الانتقال من حالة إلى أعلى منها عند التفضيل والمدح ، أو النزول من حالة إلى ما دونها ، عند القدح والذم - أحسن لفظا وأوقع في النفس .
وكذلك إذا فضَّل تعالى شيئا على شيء ، وكل منهما له فضل ، احترز بذكر الفضل الجامع للأمرين لئلا يتوهم أحد ذم المفضل عليه كما قال هنا : { وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى }
وكما [ قال تعالى ] في الآيات المذكورة في الصف في قوله : { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } وكما في قوله تعالى : { لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ } أي : ممن لم يكن كذلك .
ثم قال : { وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } وكما قال تعالى : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } فينبغي لمن بحث في التفضيل بين الأشخاص والطوائف والأعمال أن يتفطن لهذه النكتة .
وكذلك لو تكلم في ذم الأشخاص والمقالات ذكر ما تجتمع فيه عند تفضيل بعضها على بعض ، لئلا يتوهم أن المفضَّل قد حصل له الكمال . كما إذا قيل : النصارى خير من المجوس فليقل مع ذلك : وكل منهما كافر .
والقتل أشنع من الزنا ، وكل منهما معصية كبيرة ، حرمها الله ورسوله وزجر عنها .
قال البخاري : حدثنا حفص بن عمر{[8103]} حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : لما نزلت : { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدًا فكتبها ، فجاء ابن أم مكتوم فشكا ضرارته فأنزل الله [ عز وجل ]{[8104]} { غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ }
حدثنا محمد بن يوسف ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : لما نزلت : { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ادع فلانا " فجاءه ومعه الدواة واللوح والكتف فقال : " اكتب : لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله " وخَلْف النبي صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم ، فقال : يا رسول الله ، أنا ضرير فنزلت مكانها : { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ }{[8105]}
وقال البخاري أيضا : حدثنا إسماعيل بن عبد الله ، حدثني إبراهيم بن سعد ، عن صالح بن كَيْسان ، عن ابن شهاب ، حدثني سهل بن سعد الساعدي : أنه رأى مَروان بن الحكم في المسجد ، قال : فأقبلت حتى جلست إلى جنبه ، فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عَلَيّ : " لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله " . فجاءه ابن أم مكتوم ، وهو يمليها عليَّ ، قال : يا رسول الله ، والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت - وكان أعمى - فأنزل الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفَخِذه على فخذي ، فثقلت علي حتى خفت أن تُرَض{[8106]} فخذي ، ثم سري عنه ، فأنزل الله : { غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ }
انفرد به البخاري{[8107]} دون مسلم ، وقد روي من وجه آخر عن زيد فقال الإمام أحمد :
حدثنا سليمان بن داود ، أنبأنا عبد الرحمن بن{[8108]} أبي الزناد ، عن خارجة بن زيد قال : قال زيد بن ثابت : إني قاعد إلى جنب رسول الله{[8109]} صلى الله عليه وسلم ، إذ أُوحِي إليه ، قال : وغشيته السكينة ، قال : فوقع{[8110]} فخذه على فخذي حين غشيته السكينة . قال زيد : فلا والله ما وجدت شيئًا قط أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم سري عنه فقال : " اكتب يا زيد " . فأخذت كتفا فقال : " اكتب : { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ } إلى قوله{[8111]} { أَجْرًا عَظِيمًا } فكتب{[8112]} ذاك في كتف ، فقام حين سمعها ابن أم مكتوم - وكان رجلا أعمى - فقام حين سمع فضيلة المجاهدين فقال : يا رسول الله ، وكيف بمن لا يستطيع الجهاد ممن هو أعمى ، وأشباه ذلك ؟ قال زيد : فوالله ما مضى{[8113]} كلامه - أو ما هو إلا أن قضى كلامه - حتى غشيت النبي صلى الله عليه وسلم السكينة ، فوقعت فخذه على فخذي ، فوجدت من ثقلها كما وجدت في المرة الأولى ، ثم سري عنه فقال : " اقرأ " . فقرأت عليه : " لا يستوِي القاعدون من الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ " {[8114]} فقال النبي صلى الله عليه وسلم : { غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ } قال زيد : فألحقتها ، فوالله لكأني أنظر إلى مُلْحَقها عند صدع كان في الكتف .
ورواه أبو داود ، عن سعيد بن منصور ، عن عبد الرحمن بن أبي الزِّناد ، عن أبيه ، عن خارجة بن زيد بن ثابت ، عن أبيه ، به نحوه{[8115]} .
وقال عبد الرزاق : أنبأنا{[8116]} معمر ، عن الزهري ، عن قَبيصة بن{[8117]} ذُؤَيب ، عن زيد بن ثابت ، قال : كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " اكتب لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله " فجاء{[8118]} عبد الله ابن أم مكتوم فقال : يا رسول الله إني أحب الجهاد في سبيل الله ولكن بي من الزمانة ما قد ترى ، قد ذهب بصري . قال زيد : فثقلت فَخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي ، حتى خشيت أن ترضها{[8119]} ثم سُرِّي عنه ، ثم قال : " اكتب : { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ }
ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير{[8120]} وقال عبد الرزاق : أخبرني ابن جُرَيْج ، أخبرني عبد الكريم - هو ابن مالك الجَزري{[8121]} - أن مِقْسما مولى عبد الله بن الحارث - أخبره أن ابن عباس أخبره : لا يستوي القاعدون من المؤمنين عن بدر ، والخارجون إلى بدر .
انفرد به البخاري{[8122]} دون مسلم . وقد رواه الترمذي من طريق حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عبد الكريم ، عن مِقْسم ، عن ابن عباس قال : لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضر عن بدر ، والخارجون إلى بدر ، لما نزلت غزوة بدر قال عبد الله بن جحش وابن أم مكتوم : إنا أعميان يا رسول الله فهل لنا رخصة ؟ فنزلت : { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ } وفضل الله المجاهدين على القاعدين درجة ، فهؤلاء القاعدون غير أولي الضرر { وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } درجات منه على القاعدين من المؤمنين غير أولي الضرر .
هذا لفظ الترمذي ، ثم قال : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه . {[8123]}
فقوله [ تعالى ]{[8124]} { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } كان مطلقا ، فلما نزل بوحي سريع : { غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ } صار{[8125]} ذلك مخرجا لذوي الأعذار{[8126]} المبيحة لترك الجهاد - من الْعَمَى والعَرَج والمرض - عن مساواتهم للمجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم .
ثم أخبر تعالى بفضيلة المجاهدين على القاعدين ، قال ابن عباس : { غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ } وكذا ينبغي أن يكون لما ثبت في الصحيح عند البخاري من طريق زهير بن معاوية ، عن حُمَيْد ، عن أنس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن بالمدينة أقوامًا ما سِرْتُم من مَسِير ، ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه " قالوا : وهم بالمدينة يا رسول الله ؟ قال : " نعم حبسهم العذر " .
وهكذا رواه الإمام أحمد عن محمد بن أبي عَدِيّ عن حُمَيد ، عن أنس ، به{[8127]} وعلقه البخاري مجزوما . ورواه أبو داود عن حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن موسى بن أنس بن مالك ، عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرًا ، ولا أنفقتم من نفقة ، ولا قطعتم من وادٍ إلا وهم معكم فيه " . قالوا : يا رسول الله ، وكيف{[8128]} يكونون معنا وهم بالمدينة ؟ قال : " حبسهم العذر " .
لفظ أبي داود{[8129]} وفي هذا المعنى قال الشاعر :
يا راحلين إلى البَيت العتيق لَقَدْ *** سرْتُم جُسُوما وسرْنا نحنُ أرواحا
إنَّا أقَمنا على عُذْرٍ وعَنْ قَدَرٍ *** ومَنْ أقامَ على عذْرٍ فقد راحا
وقوله : { وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } أي : الجنة والجزاء الجزيل . وفيه دلالة على أن الجهاد ليس بفرض عين بل هو فرض على الكفاية .
ثم قال تعالى : { وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } ثم أخبر تعالى بما فضلهم به من الدرجات ، في غرف الجِنَان{[8130]} العاليات ، ومغفرة الذنوب والزلات ، وحلول الرحمة والبركات ، إحسانا منه وتكريما ؛ ولهذا قال تعالى : { دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }
{ لاّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَىَ وَفَضّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً } . .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { لا يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غيرُ أُولى الضّرَرِ وَالمُجاهِدُونَ } : لا يعتدل المتخلفون عن الجهاد في سبيل الله من أهل الإيمان بالله وبرسوله ، المؤثرون الدعة والخفض والقعود في منازلهم على مقاساة حزونة الأسفار والسير في الأرض ومشقة ملاقاة أعداء الله بجهادهم في ذات الله وقتالهم في طاعة الله ، إلا أهل العذر منهم بذهاب أبصارهم ، وغير ذلك من العلل التي لا سبيل لأهلها للضرر الذي بهم إلى قتالهم وجهادهم في سبيل الله والمجاهدون في سبيل الله ، ومنهاج دينه ، لتكون كلمة الله هي العليا ، المستفرغون طاقتهم في قتال أعداء الله وأعداء دينهم بأموالهم ، إنفاقا لها فيما أوهن كيد أعداء أهل الإيمان بالله وبأنفسهم ، مباشرة بها قتالهم ، بما تكون به كلمة الله العالية ، وكلمة الذين كفروا السافلة .
واختلفت القراء في قراءة قوله : { غيرَ أُولي الضّرَرِ }¹ فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة ومكة والشام : «غيرَ أُولي الضّرَرِ } نصبا ، بمعنى : إلا أولي الضرر . وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل العراق والكوفة والبصرة : { غيرُ أُولي الضّرَرِ } برفع «غيرُ » على مذهب النعت للقاعدين .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا : «غيرَ أُولي الضّرَرِ » بنصب غيرَ ، لأن الأخبار متظاهرة بأن قوله : «غَيْرَ أُولي الضّرَرِ » نزل بعد قوله : { لا يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ } استثناء من قوله : { لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُجاهِدُونَ } . ذكر بعض الأخبار الواردة بذلك :
حدثنا نصر بن عليّ الجهضمي ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن أبي إسحاق ، عن البراء : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «ائْتُونِي بالكَتِفِ وَاللّوْحِ » ! فَكَتبَ : { لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُجاهِدُونَ } وعمرو بن أمّ مكتوم خلف ظهره ، فقال : هل لي من رخصة يا رسول الله ؟ فنزلت : «غَيْرَ أُولي الضّرَرِ » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو كبر بن عياش ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، قال : لما نزلت : { لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ } جاء ابن أمّ مكتوم وكان أعمى ، فقال : يا رسول الله كيف وأنا أعمى ؟ فما برح حتى نزلت : «غَيْرَ أُولي الضّرَرِ » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بن عازب في قوله : «لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرَ أُولي الضّرَرِ » قال : لما نزلت جاء عمرو بن أمّ مكتوم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وكان ضرير البصر ، فقال : يا رسول الله ما تأمرني ، فإني ضرير البصر ؟ فأنزل الله هذه الاَية ، فقال : «ائتُونِي بالكَتفِ والدّوَاةِ ، أوِ اللّوْحِ وَالدّوَاةِ » .
حدثني محمد بن إسماعيل بن إسرائيل الدلال الرملي ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن المغيرة ، قال : حدثنا مسعر ، عن أبي إسحاق ، عن البراء أنه لما نزلت : { لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ } كلمه ابن أمّ مكتوم ، فأنزلت : «غَيْرَ أُولي الضّرَرِ » .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبو إسحاق أنه سمع البراء يقول في هذه الاَية : { لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ } قال : فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا ، فجاء بكتف فكتبها ، قال : فشكى إليه ابن أمّ مكتوم ضَرَارَتَهُ ، فنزلت : «لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرَ أُولِي الضّرَرِ » .
قال شعبة : وأخبرني سعد بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن رجل ، عن زيد في هذه الاَية : { لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ } مثل حديث البراء .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا إسحاق بن سليمان ، عن أبي سنان الشيباني ، عن ابن إسحاق ، عن زيد بن أرقم ، قال : لما نزلت : { لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ } جاء ابن أمّ مكتوم ، فقال : يا رسول الله مالي رخصة ؟ قال : «لا »قال : ابن أمّ مكتوم : اللهمّ إني ضرير فرخّص ! فأنزل الله : «غَيْرَ أُولي الضّرَرِ » ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتبها ، يعني الكاتب .
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع ويعقوب بن إبراهيم ، قالا : حدثنا بشر بن المفضل ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن الزهري ، عن سهل بن سعد ، قال : رأيت مروان بن الحكم جالسا ، فجئت حتى جلست إليه ، فحدثنا عن زيد بن ثابت : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل عليه : { لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمِجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ } قال : فجاء ابن أمّ مكتوم وهو يمليها عليّ ، فقال : يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت ! قال : فأنزل عليه وفخذه على فخذي ، فثقلت ، فظننت أن ترضّ فخذي ، ثم سُرّي عنه ، فقال : «غَيْرَ أُولي الضّرَرِ » .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن قبيصة ابن ذؤيب ، عن زيد بن ثابت ، قال : كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «اكْتُبْ : لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُجاهِدونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ » ! فجاء عبد الله بن أمّ مكتوم ، فقال : يا رسول الله إني أحبّ الجهاد في سبل الله ، ولكن بي من الزمانة ما قد ترى ، قد ذهب بصري . قال زيد : فثقلت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي حتى خشيت أن يرضها ، ثم قال : «اكْتُبْ : لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرَ أُولي الضّرَرِ والمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ » .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الكريم : أن مقسما مولى عبد الله بن الحارث أخبره أن ابن عباس أخبره ، قال : { لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ } عن بدر والخارجون إلى بدر .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا حسين ، قال : ثني حجاج ، قال : أخبرني عبد الكريم أنه سمع مقسما يحدّث عن ابن عباس أنه سمعه يقول : { لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ } عن بدر والخارجون إلى بدر . لما نزلت غزوة بدر ، قال عبد الله بن أم مكتوم وأبو أحمد بن جحش بن قيس الأسدي : يا رسول الله ، إننا أعميان ، فهل لنا رخصة ؟ فنزلت : «لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرَ أُولي الضّرَرَ والمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسهِمْ فَضّل اللّهُ المُجاهِدِينَ بأمْوَالِهِمْ وَأنْفُسِهِمْ على القاعِدِينَ دَرَجَةً » .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسهِمْ } فسمع بذلك عبد الله بن أمّ مكتوم الأعمى ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، قد أنزل الله في الجهاد ما قد علمت وأنا رجل ضرير البصر لا أستطيع الجهاد ، فهل لي من رخصة عند الله إن قعدت ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما أُمِرْتُ فِي شأْنِكَ بِشَيءٍ وَما أدْري هَلْ يَكُونُ لَكَ ولأصحَابِكَ مِنْ رُخْصَةٍ ! » فقال ابن أمّ مكتوم : اللهمّ إني أنشدك بصري ! فأنزل الله بعد ذلك على رسوله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرَ أُولى الضّرَرِ وَالمُجاهِدُونَ فِي سَبِيل اللّهِ » . . . إلى قوله : { على القاعِدِينَ دَرَجَةً } .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن سعيد ، قال : نزلت : { لا يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ } فقال رجل أعمى : يا نبيّ الله فأنا أحبّ الجهاد ولا أستطيع أن أجاهد ! فنزلت : «غَيْرَ أُولي الضّرَرَ » .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن عبد الله بن شداد ، قال : لما نزلت هذه الاَية في الجهاد : { لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ } قال عبد الله بن أمّ مكتوم : يا رسول الله إني ضرير كما ترى ! فنزلت : «غَيْرَ أُولي الضّرَر » .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيرُ أُولي الضّرَر } عذر الله أهل العذر من الناس ، فقال : «غَيْرَ أُولي الضّرَر » كان منهم ابن أمّ مكتوم ، { وَالمجاهِدُونَ فِي سَبِيل الله بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ } .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدّي : { لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيرُ أُولي الضّرَر وَالمُجاهِدُونَ فِي سَبيلِ اللّهِ } . . . إلى قوله : { وكُلاّ وَعَدَ اللّهُ الحُسْنَى } لما ذكر فضل الجهاد ، قال ابن أمّ مكتوم : يا رسول الله إني أعمى ولا أطيق الجهاد ! فأنزل الله فيه : «غَيْرَ أُولي الضّرَر » .
حدثني المثنى ، قثال : حدثنا محمد بن عبد اللهالنفيلي ، قال : حدثنا زهير بن معاوية ، قال : حدثنا أبو إسحاق ، عن البراء ، قال : كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «ادْعُ لي زَيْدا وَقُلْ لَهُ يَأْتِي أوْ يَجِيىءُ بالكَتِف والدّوَاة أو اللّوْح والدّواة ، الشكّ من زهير اكتب : { لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُجاهِدُونَ فِي سَبيلِ اللّهِ } » فقال ابن أمّ مكتوم : يا رسول الله إن بعينيّ ضررا ! فنزلت قبل أن يبرح «غَيْرَ أُولي الضّرَر » .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن رجاء البصري ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بنحوه ، إلا أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ادْعُ لي زَيْدا وَلْيَجِئْني مَعَهُ بِكَتفٍ وَدَوَاةٍ ، أو لَوْحٍ وَدَوَاةٍ » .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن زياد بن فياض ، عن أبي عبد الرحمن ، قال : لما نزلت : { لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ } قال عمرو بن أمّ مكتوم : يا ربّ ابتليتني فكيف أصنع ؟ فنزلت : «غَيْرَ أُولي الضّرَر » .
وكان ابن عباس يقول في معنى : «غَيْرَ أُولي الضّرَر » نحوا مما قلنا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قا : ثني معاوية ، عن عليّ عن ابن عباس ، قوله : «غَيْرَ أُولي الضّرَر » قال : أهل الضرر .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَضّلَ اللّهُ المُجاهِدينَ بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ على القاعِدِينَ دَرَجَةً } .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { فَضّلَ اللّهُ المُجاهِدِينَ بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ على القاعِدِينَ دَرَجَةً } فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين من أولي الضرر درجة واحدة ، يعني فضيلة واحدة ، وذلك بفضل جهاد بنفسه ، فأما فيما سوى ذلك فهما مستويان . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك أنه سمع ابن جريج يقول في : { فَضّلَ اللّهُ المُجاهِدِينَ بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ على القاعِدِينَ دَرَجَةً } قال : على أهل الضرر .
القول في تأويل قوله : { وكُلاّ وَعَدَ اللّهُ الحُسْنَى وَفَضّلَ اللّهُ المُجاهِدِينَ على القاعدِينَ أجْرا عَظيما } .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { وكُلاّ وَعَدَ اللّهُ الحُسْنَى } : وعد الله الكلّ من المجاهدين بأموالهم وأنفسهم ، والقاعدين من أهل الضرر الحسنى . ويعني جلّ ثناؤه بالحسنى : الجنة¹ كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وكُلاّ وَعَدَ اللّهُ الحُسْنَى } وهي الجنة ، والله يؤتي كلّ ذي فضل فضله .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : قال : الحسنى : الجنة .
وأما قوله : { وَفَضّلَ اللّهُ المُجاهِدِينَ على القاعِدِينَ أجْرا عَظِيما } فإنه يعني : وفضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين من غير أولي الضرر أجرا عظيما . كما :
حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { وَفَضّلَ اللّهُ المُجاهِدِينَ على القاعِدِينَ أجْرا عَظِيما دَرَجاتٍ مِنْه وَمَغْفِرَةً } قال : على القاعدين من المؤمنين غير أولي الضرر .
{ لا يستوي القاعدون } عن الحرب . { من المؤمنين } في موضع الحال من القاعدين أو من الضمير الذي فيه . { غير أولي الضرر } بالرفع صفة للقاعدون لأنه لم يقصد بهم قوم بأعيانهم أو بدل منه . وقرأ نافع وابن عامر والكسائي بالنصب على الحال أو الاستثناء . وقرئ بالجر على أنه صفة للمؤمنين أو بدل منه . وعن زيد بن ثابت أنها نزلت ولم يكن فيها غير أولي الضرر فقال ابن أم مكتوم : وكيف وأنا أعمى فغشي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلسه الوحي ، فوقعت فخذه على فخذي حتى خشيت أن ترضها ثم سري عنه فقال اكتب { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر } { والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم } أي لا مساواة بينهم وبين من قعد عن الجهاد من غير علة . وفائدته تذكير ما بينهما من التفاوت ليرغب القاعد في الجهاد رفعا لرتبته وأنفة عن انحطاط منزلته . { فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة } جملة موضحة لما نفي الاستواء فيه والقاعدون على التقييد السابق ، ودرجة نصب بنزع الخافض أي بدرجة أو على المصدر لأنه تضمن معنى التفضيل ووقع موقع المرة منه ، أو الحال بمعنى ذوي درجة . { وكلا } من القاعدين والمجاهدين وعد الله الحسنى المثوبة الحسنى وهي الجنة لحسن عقيدتهم وخلوص نبتهم وإنما التفاوت في زيادة العمل المقتضي لمزيد الثواب وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما نصب على المصدر لأن فضل بمعنى أجر أو المفعول الثاني له لتضمنه معنى الإعطاء كأنه قيل وأعطاهم زيادة على القاعدين أجرا عظيما .
في قوله : { لا يستوي } إبهام على السامع هو أبلغ من تحديد المنزلة التي بين المجاهد والقاعد ، فالمتأمل يمشي مع فكرته ولا يزال يتخيل الدرجات بينهما ، و { القاعدون } عبارة عن المتخلفين ، إذ القعود هيئة من لا يتحرك إلى الأمر المقعود عنه في الأغلب ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة ، «غيرُ أولي الضرر » برفع الراء من غير ، وقرأ الأعمش وأبو حيوة «غيرِ » بكسر الراء فمن رفع جعل غير صفة للقاعدين عند سيبويه ، كما هي عنده صفة في قوله تعالى : { غير المغضوب } [ الفاتحة : 7 ] بجر غير صفة ، ومثله قول لبيد : [ الرمل ]
وَإذَا جُوزِيتَ قِرْضاً فاجْزِهِ *** إنَّما يُجْزَى الْفَتى غَيْرَ الْجَمَلْ{[4219]}
قال المؤلف : كذا ذكره أبو علي ، ويروى ليس الجمل ، ومن قرأ بنصب الراء جعله استثناء من القاعدين ، قال أبو الحسن : ويقوي ذلك أنها نزلت بعدها على طريق الاستثناء والاستدراك .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وقد يتحصل الاستدراك بتخصيص القاعدين بالصفة ، قال الزجّاج : يجوز أيضاً في قراءة الرفع أن يكون على جهة الاستثناء ، كأنه قال : «لا يستوي القاعدون والمجاهدون إلا أولو الضرر » فإنهم يساوون المجاهدين .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذا مردود ، لأن { أولي الضرر } لا يساوون المجاهدين ، وغايتهم أن خرجوا من التوبيخ والمذمة التي لزمت القاعدين من غير عذر ، قال : ويجوز في قراءة نصب الراء أن يكون على الحال ، وأما كسر الراء فعلى الصفة للمؤمنين ، وروي من غير طريق أن الآية نزلت { لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون } فجاء ابن أم مكتوم حين سمعها ، فقال : يا رسول الله هل من رخصة ؟ فإني ضرير البصر فنزلت عند ذلك { غير أولي الضرر } قال الفلقان بن عاصم{[4220]} كنا قعوداً عند النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل عليه ، وكان إذا أوحي إليه دام بصره مفتوحة عيناه وفرغ سمعه وبصره لما يأتيه من الله ، وكنا نعرف ذلك في وجهه ، فلما فرغ قال للكاتب : اكتب { لا يستوي القاعدونَ من المؤمنين والمجاهدون } إلى آخر الآية . قال : فقام الأعمى ، فقال : يا رسول الله ما ذنبنا ؟ قال : فأنزل الله على رسوله ، فقلنا للأعمى : إنه ينزل عليه ، قال : فخاف أن ينزل فيه شيء فبقي قائماً مكانه يقول : أتوب الى رسول الله حتى فرغ رسول الله ، فقال الكاتب : اكتب { غير أولي الضرر } وأولو الضرر هم أهل الأعذار إذ قد أضرت بهم حتى منعتهم الجهاد . قاله ابن عباس وغيره . وقوله تعالى { بأموالهم وأنفسهم } هي الغاية في كمال الجهاد . ولما كان أهل الديوان متملكين بذلك العطاء يصرفون في الشدائد وتروعهم البعوث والأوامر . قال بعض العلماء : هم أعظم أجراً من المتطوع لسكون جأشه ونعمة باله في الصوائف الكبار ونحوها{[4221]} .
واحتج بهذه الآية المظهرة لفضل المال من قال : إن الغنى أفضل من الفقر ، وإن متعلقه بها لبين . وفسر الناس الآية على أن تكملة التفضيل فيها ب «الدرجة » ثم بالدرجات إنما هو مبالغة وتأكيد وبيان ، وقال ابن جريج الفضل بدرجة هو على القاعدين من أهل العذر .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : لأنهم مع المؤمنين بنياتهم كما قال النبي عليه السلام في غزوة تبوك «إن بالمدينة رجالاً ما قطعنا وادياً ولا سلكنا جبلاً ولا طريقاً إلا وهم معنا حبسهم العذر »{[4222]} قال ابن جريج . والتفضيل «بالأجر العظيم والدرجات » هو على القاعدين من غير أهل العذر ، و { الحسنى } الجنة ، وهي التي وُعدها المؤمنون ، وكذلك قال السدي وغيره .