{ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا }
توبة الله على عباده نوعان : توفيق منه للتوبة ، وقبول لها بعد وجودها من العبد ، فأخبر هنا -أن التوبة المستحقة على الله حق أحقه على نفسه ، كرما منه وجودا ، لمن عمل السوء أي : المعاصي { بِجَهَالَةٍ } أي : جهالة منه بعاقبتها وإيجابها لسخط الله وعقابه ، وجهل منه بنظر الله ومراقبته له ، وجهل منه بما تئول إليه من نقص الإيمان أو إعدامه ، فكل عاص لله ، فهو جاهل بهذا الاعتبار وإن كان عالما بالتحريم . بل العلم بالتحريم شرط لكونها معصية معاقبا عليها { ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } يحتمل أن يكون المعنى : ثم يتوبون قبل معاينة الموت ، فإن الله يقبل توبة العبد إذا تاب قبل معاينة الموت والعذاب قطعا . وأما بعد حضور الموت فلا يُقبل من العاصين توبة ولا من الكفار رجوع ، كما قال تعالى عن فرعون : { حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ } الآية . وقال تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ }
يقول تعالى : إنما يتقبل الله التوبة ممن عمل السوء بجهالة ، ثم يتوب ولو قبل معاينة المَلَك [ لقبض ]{[6792]} روحه قَبْلَ الغَرْغَرَة .
قال مجاهد وغير واحد : كل من عصى الله خطأ أو عَمدًا فهو جاهل حتى ينزع عن الذنب .
وقال قتادة عن أبي العالية : أنه كان يحدث : أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون : كل ذنب أصابه عبد فهو بجهالة . رواه ابن جرير .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن قتادة قال : اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأوا أن كل شيء عُصي به فهو جهالة ، عمدًا كان أو غيره{[6793]} .
وقال ابن جُرَيْج : أخبرني عبد الله بن كثير ، عن مجاهد قال : كل عامل بمعصية الله{[6794]} فهو جاهل حين عملها . قال ابن جريج : وقال لي عطاء بن أبي رباح نحوَه .
وقال أبو صالح عن ابن عباس : مِنْ جَهالته عمل السوء .
وقال علي بن أبي طَلْحَة ، عن ابن عباس { ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } قال : ما بينه وبين أن ينظر إلى مَلَك الموت ، وقال الضحاك : ما كان دون الموت فهو قريب . وقال قتادة والسدي : ما دام في صحته . وهو مروى عن ابن عباس . وقال الحسن البصري : { ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } ما لم يُغَرْغر . وقال عكرمة : الدنيا كلها قريب .
قال الإمام أحمد : حدثنا علي بن عَيَّاش{[6795]} وعصام بن خالد ، قالا حدثنا ابن ثَوْبان ، عن أبيه ، عن مكحول ، عن جُبَير بن نُفَيْر{[6796]} عن ابن عُمَرَ ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ الله يَقْبلُ تَوْبَةَ العبدِ ما لم يُغَرغِر " .
[ و ]{[6797]} رواه الترمذي وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان ، به{[6798]} وقال الترمذي : حسن غريب . ووقع في سنن ابن ماجه : عن عبد الله بن عَمْرو . وهو وَهْم ، إنما هو عبد الله بن عُمَر بن الخطاب .
حديث آخر{[6799]} عن ابن عُمَر : قال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن معمر{[6800]} حدثنا عبد الله بن الحسن الخراساني ، حدثنا يحيى بن عبد الله البابلتي{[6801]} حدثنا أيوب بن نَهِيك الحلبي قال : سمعت عطاء بن أبي رباح قال : سمعت عبد الله بن عُمَر ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِن يَتُوبُ قَبْلَ الموتِ بشهر إلا قَبِلَ الله منه ، وأدْنَى من ذلك ، وقَبْل موته بيوم وساعة ، يعلم الله منه التوبة والإخلاصَ إليه إلا قَبِل منه " {[6802]} .
حديث آخر : قال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة ، أخبرنا إبراهيم بن ميمون ، أخبرني رجل من مِلْحَان{[6803]} يقال له : أيوب - قال : سمعت عبد الله بن عمر يقول : من تاب قبل موته بعام تيب عليه ، ومن تاب قبل موته بشهر تِيب عليه ، ومن تاب قَبْلَ موته بجمعة تيب عليه ، ومن تاب قبل موته بيوم تيب عليه ، ومن تاب قبل موته بساعة تيب عليه . فقلت له : إنما قال الله : { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } فقال : إنما أُحدِّثك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم . {[6804]}
وهكذا رواه أبو داود{[6805]} الطيالسي ، وأبو عمر الحَوْضي ، وأبو عامر العَقدي ، عن شعبة .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا حُسين بن محمد ، حدثنا محمد بن مطَرَّف ، عن زيد بن أسلم ، عن عبد الرحمن بن البَيْلماني{[6806]} قال : اجتمع أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال أحدهم : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله يَقْبَلُ تَوْبَة العبدِ قبل أن يموتَ بيومٍ " . فقال الآخر : أنتَ سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم . قال : وأنا سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله يقبل توبة العبد قبل أن يموت بِنِصْفِ يوم " فقال الثالث : أنتَ سمعتَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم . قال : وأنا سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله يقبل توبة العبد قبل أن يموت بضَحْو " . قال{[6807]} الرابع : أنتَ سمعتَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم . قال وأنا سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله [ تعالى ]{[6808]} يقبل توبة العبد ما لم{[6809]} يُغَرغر بنفسه " . وقد رواه سعيد بن منصور عن الدَرَاوَرْدي ، عن زيد بن أسلم ، عن عبد الرحمن بن البيلماني{[6810]} فذكر قريبًا منه{[6811]} .
حديث آخر : قال أبو بكر بن مردويه : حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد ، حدثنا عمران بن عبد الرحيم ، حدثنا عثمان بن الهيثم ، حدثنا عَوْف ، عن محمد بن سِيرِين ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله يَقبل تَوْبَة عَبْدِهِ ما لم يُغَرْغِرْ " {[6812]} .
قال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا ابن أبي عَدِيٍّ ، عن عَوْف ، عن الحسن قال :
بلغني أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ الله يَقْبلُ توبة العبد ما لم يُغَرْغرْ " هذا مرسل حسن{[6813]} . عن الحسن البصري ، رحمه الله .
آخر : قال ابن جرير أيضًا ، رحمه الله : حدثنا ابن بشار ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثني أبي ، عن قتادة ، عن العلاء بن زياد ، عن أبي أيوب بشير بن كعب ؛ أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله يقبل توبة العبد ما لم يُغَرْغرْ " {[6814]} .
وحدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الأعلى ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ، فذكر مثله{[6815]} .
أثر آخر : قال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا أبو داود ، حدثنا عمران ، عن قتادة قال : كنا عند أنس بن مالك وثم أبو قِلابة ، فحدث أبو قِلابة فقال : إن الله تعالى لما لَعَنَ إبليس سأله النَّظرة فقال : وعِزَّتِك وجلالك لا أَخْرُجُ من قَلْبِ ابن آدمَ ما دام فيه الروح . فقال الله : وعزتي{[6816]} لا أمنعه التوبة ما دام فيه الروح .
وقد ورد هذا في حديث مرفوع ، رواه الإمام أحمد في مسنده من طريق عمرو بن أبي عمرو وأبي الهيثم العُتْوارِي كلاهما عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قال إبليس : وعِزَّتِك لا أزَالُ أُغْوِيهم ما دامت أرْوَاحهُمْ في أجسادهم . فقال الله عز وجل : وعزتي وجلالي ، لا أزال{[6817]} أغْفِرُ لهم ما اسْتَغْفَرُوني " {[6818]} .
فقد دلت هذه الأحاديث على أن من تاب إلى الله عز وجل وهو يرجو الحياة ، فإن توبته مقبولة [ منه ]{[6819]} ؛ ولهذا قال تعالى : { فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } فأما متى وقع الإياس من الحياة ، وعاين الملك ، وحَشْرَجَتِ الروح في الحلق ، وضاق بها الصدر ، وبلغت الحلقوم ، وَغَرْغَرَتِ النفس صاعدة في الغَلاصِم - فلا توبة متقبلة حينئذ ، ولات حين مناص ؛
ولهذا قال [ تعالى ]{[6820]} { وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ }
{ إِنّمَا التّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلََئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً } .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { إنّمَا التّوْبَةُ على اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ } : ما التوبة على الله لأحد من خلقه ، إلا للذين يعملون السوء من المؤمنين بجهالة . { ثُمّ يَتُوبُون مِنْ قَرِيبٍ } يقول : ما الله براجع لأحد من خلقه إلى ما يحبه من العفو عنه والصفح عن ذنوبه التي سلفت منه ، إلا للذين يأتون ما يأتونه من ذنوبهم جهالة منهم وهم بربهم مؤمنون ، ثم يراجعون طاعة الله ويتوبون منه إلى ما أمرهم الله به من الندم عليه والاستغفار وترك العود إلى مثله من قبل نزول الموت بهم . وذلك هو القريب الذي ذكره الله تعالى ذكره ، فقال : { ثُمّ يَتُوبُون مِنْ قَرِيبٍ } .
وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك ، قال أهل التأويل غير أنهم اختلفوا في معنى قوله : { بِجَهالَةٍ } فقال بعضهم في ذلك بنحو ما قلنا فيه ، وذهب إلى أن عمله السوء هو الجهالة التي عناها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أبي العالية : أنه كان يحدّث أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كانوا يقولون : كل ذنب أصابه عبد فهو بجهالة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قوله : { للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ } قال : اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرأوا أن كل شيء عصي به فهو جهالة ، عمدا كان أو غيره .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ } قال : كل من عصى ربه فهو جاهل ، حتى ينزع عن معصيته .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : { إنّمَا التّوْبَةُ على اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ } قال : كل من عمل بمعصية الله فذاك منه بجهل حتى يرجع عنه .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { إنّمَا التّوْبَةُ على اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ } ما دام يعصي الله فهو جاهل .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان ، عن أبي النضر ، عن أبي صالح عن ابن عباس : { إنّمَا التّوْبَةُ على اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ } قال : من عمل السوء فهو جاهل ، من جهالته عمل السوء .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثظني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : من عصى الله فهو جاهل ، حتى ينزع عن معصيته . قال ابن جريج : وأخبرني عبد الله بن كثير ، عن مجاهد ، قال : كل عامل بمعصية فهو جاهل حين عمل بها . قال ابن جريج : وقال لي عطاء بن أبي رباح نحوه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قول الله : { إنّمَا التّوْبَةُ على اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ ثُمّ يَتُوبُون مِنْ قَرِيبٍ } قال : الجهالة : كل امرىء عمل شيئا من معاصي الله فهو جاهل أبدا حتى ينزع عنها . وقرأ : { هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعْلْتُمْ بِيُوسُف وأخِيهِ إذْ أنْتُمْ جاهِلُون } وقرأ : { وإلاّ تَصْرِفْ عنّي كَيْدهُنّ أصْبُ إلَيْهِنّ وأكُنْ مِنَ الجاهِلِينَ } قال : من عصى الله فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته .
وقال آخرون : معنى قوله : { للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ } : يعملون ذلك على عمد منهم له . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن مجاهد : { يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ } قال : الجهالة : العمد .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : { إنّمَا التّوْبَةُ على اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ } قال : الجهالة : العمد .
وقال آخرون : معنى ذلك : إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء في الدنيا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا معتمر بن سليمان ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، قوله : { إنّمَا التّوْبَةُ على اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ } قال : الدنيا كلها جهالة .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل الاَية قول من قال : تأويلها : إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء ، وعملهم السوء هو الجهالة التي جهلوها عامدين كانوا للإثم ، أو جاهلين بما أعدّ الله لأهلها . وذلك أنه غير موجود في كلام العرب ، تسمية العامد للشيء الجاهل به ، إلا أن يكون معنيا به أنه جاهل بقدر منفعته ومضرّته ، فيقال : هو به جاهل ، على معنى جهله بمعنى : نفعه وضرّه¹ فأما إذا كان عالما بقدر مبلغ نفعه وضرّه قاصدا إليه ، فغير جائز من غير قصده إليه أن يقال هو به جاهل¹ لأن الجاهل بالشيء هو الذي لا يعلمه ولا يعرفه عند التقدم عليه ، أو يعلمه فيشبه فاعله ، إذ كان خطأ ما فعله بالجاهل الذي يأتي الأمر وهو به جاهل فيخطىء موضع الإصابة منه ، فيقال : إنه لجاهل به ، وإن كان به عالما لإتيانه الأمر الذي لا يأتي مثله إلا أهل الجهل به . وكذلك معنى قوله : { يَعْمَلُونَ السّوءَ بِجَهالَةٍ } قيل فيهم : يعملون السوء بجهالة وإن أتوه على علم منهم بمبلغ عقاب الله أهله ، عامدين إتيانه ، مع معرفتهم بأنه عليهم حرام ، لأن فعلهم ذلك كان من الأفعال التي لا يأتي مثله إلا من جهل عظيم عقاب الله عليه أهله في عاجل الدنيا وآجل الاَخرة ، فقيل لمن أتاه وهو به عالم : أتاه بجهالة ، بمعنى : أنه فعل فعل الجهال به ، لا أنه كان جاهلاً .
وقد زعم بعض أهل العربية أن معناه : أنهم جهلوا كنه ما فيه من العقاب ، فلم يعلموه كعلم العالم ، وإن علموه ذنبا ، فلذلك قيل : { يَعْمَلُونَ السّوءَ بِجَهالَةٍ } . ولو كان الأمر على ما قال صاحب هذا القول لوجب أن لا تكون توبة لمن علم كنه ما فيه . وذلك أنه جلّ ثناؤه قال : { إنّمَا التّوْبَةُ على اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } دون غيرهم . فالواجب على صاحب هذا القول أن لا يكون للعالم الذي عمل سوءا على علم منه بكنه ما فيه ثم تاب من قريب¹ توبة ، وذلك خلاف الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن كل تائب عسى الله أن يتوب عليه ، وقوله : «بابُ الّتْوبَةِ مَفْتُوحٌ ما لَمْ تَطْلُعِ الشّمْسُ مِنْ مَغْرِبِها » ، وخلاف قول الله عزّ وجلّ : { إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ وَعمِلَ عَمَلاً صَالِحا } .
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } .
أختلف أهل التأويل في معنى القريب في هذا الموضع ، فقال بعضهم : معنى ذلك : ثم يتوبون في صحتهم قبل مرضهم وقبل موتهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } والقريب قبل الموت ما دام في صحته .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا محمد بن فضيل ، عن أبي النضر ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس : { ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } قال : في الحياة والصحة .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ثم يتوبون من قبل معاينة ملك الموت . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } والقريب فيما بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت عمران بن حدير ، قال : قال أبو مجلز : لا يزال الرجل في توبة حتى يعاين الملائكة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي معشر ، عن محمد بن قيس ، قال : القريب : ما لم تنزل به آية من آيات الله تعالى وينزل به الموت .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : { إنّمَا التّوْبَةُ على اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } له التوبة ما بينه وبين أن يعاين ملك الموت ، فإذا تاب حين ينظر إلى ملك الموت فليس له ذاك .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ثم يتوبون من قبل الموت . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن رجل ، عن الضحاك : { ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } قال : كل شيء قبل الموت فهو قريب .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا معتمر بن سليمان ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة : { ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } قال : الدنيا كلها قريب .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } قبل الموت .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : ثني أبي ، عن قتادة ، عن أبي قلابة ، قال : ذكر لنا أن إبليس لما لعن وأُنْظِرَ ، قال : وعزّتك لا أخرج من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح ! فقال تبارك وتعالى : وعزتي لا أمنعه التوبة ما دام فيه الروح .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا عمران ، عن قتادة ، قال : كنا عند أنس بن مالك وثَمّ أبو قلابة ، فحدّث أبو قلابة قال : إن الله تبارك وتعالى لما لعن إبليس سأله النّظِرَة ، فقال : وعزّتك لا أخرج من قلب ابن آدم ! فقال الله تبارك وتعالى : وعزتي لا أمنعه التوبة ما دام فيه الروح .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا أيوب ، عن أبي قلابة ، قال : إن الله تبارك وتعالى لما لعن إبليس سأله النّظِرَة ، فأنظره إلى يوم الدين ، فقال : وعزتك لا أَخرج من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح ! قال : وعزتي لا أَحجب عنه التوبة ما دام فيه الروح .
حدثني ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن ، قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «إنّ إبْلِيسَ لَمّا رأى آدَمَ أجْوَفَ ، قالَ : وعِزّتِكَ لا أخْرُجُ مِنْ جَوْفِهِ ما دَام فِيهِ الرّوحُ ! فَقالَ اللّهُ تَبارَكَ وتَعالى : وعِزّتِي لا أحُولُ بَيْنَهُ وبْينَ التّوْبَةِ ما دَامَ فِيهِ الرّوحُ » .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : ثني أبي ، قتادة ، عن العلاء بن زياد ، عن أبي أيوب بُشَيْر بن كعب ، أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «إنّ الله يَقْبَلُ تَوْبَة العَبْدِ ما لمْ يُغَرْغِرْ » .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن عبادة بن الصامت ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال¹ فذكر مثله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن عوف ، عن الحسن ، قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «إنّ الله تَبارك وتَعالى يَقْبَلْ تَوْبَة العَبْدِ ما لمْ يُغَرْغِرْ » .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : تأويله : ثم يتوبون قبل مماتهم في الحال التي يفهمون فيها أمر الله تبارك وتعالى ونهيه ، وقبل أن يغلبوا على أنفسهم وعقولهم ، وقبل حال اشتغالهم بكرب الحشرجة وغمّ الغرغرة ، فلا يعرفوا أمر الله ونهيه ، ولا يعقلوا التوبة ، لأن التوبة لا تكون توبة إلا ممن ندم على ما سلف منه ، وعزم فيه على ترك المعاودة ، وهو يعقل الندم ، ويختار ترك المعاودة ، فأما إذا كان بكرب الموت مشغولاً ، وبغمّ الحشرجة مغمورا ، فلا إخاله إلا عن الندم على ذنوبه مغلوبا ، ولذلك قال من قال : إن التوبة مقبولة ما لم يغرغر العبد بنفسه ، فإن كان المرء في تلك الحال يعقل عقل الصحيح ، ويفهم فهم العاقل الأريب ، فأحدث إنابة من ذنوبه ، ورجعة من شروده عن ربه إلى طاعته كان إن شاء الله ممن دخل في وعد الله الذي وعد التائبين إليه من إجرامهم من قريب بقوله : { إنّمَا التّوْبَةُ على اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهمْ وكانَ اللّهُ عَلِيما حَكِيما } .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { فَأُولَئِكَ } فهؤلاء الذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب { يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ } دون من لم يتب ، حتى غلب على عقله وغمرته حشرجة ميتته ، فقال : وهو لا يفقه ما يقول : { إنّي تبْتُ الاَنَ } خداعا لربه ونفاقا في دينه ، ومعنى قوله : { يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ } : يرزقهم إنابة إلى طاعته ، ويتقبل منهم أوبتهم إليه ، وتوبتهم التي أحدثوها من ذنوبهم .
وأما قوله : { وكانَ اللّهُ عَلِيما حَكِيما } فإنه يعني : ولم يزل الله جلّ ثناؤه عليما بالناس من عباده المنيبين إليه بالطاعة بعد إدبارهم عنه ، المقبلين إليه بعد التولية ، وبغير ذلك من أمور خلقه ، حكيم في توبته على من تاب منهم من معصيته ، وفي غير ذلك من تدبيره وتقديره ، ولا يدخل أفعاله خلل ، ولا يخلطه خطأ ولا زلل .
{ إنما التوبة على الله } أي إن قبول التوبة كالمحتوم على الله بمقتضى وعده من تاب عليه إذا قبل توبته . { للذين يعملون السوء بجهالة } متلبسين بها سفها فإن ارتكاب الذنب سفها وتجاهل ، ولذلك قيل من عصى الله فهو جاهل حتى ينزع عن جهالته . { ثم يتوبون من قريب } من زمان قريب ، أي قبل حضور الموت لقوله تعالى : { حتى إذا حضر أحدهم الموت } وقوله عليه الصلاة والسلام : " إن الله يقبل توبة عبده ما لم يغرغر " وسماه قريبا لأن أمد الحياة قريب لقوله تعالى : { قل متاع الدنيا قليل } . أو قبل أن يشرب في قلوبهم حبة فيطبع عليها فيتعذر عليهم الرجوع ، و{ من } للتبعيض أي يتوبون في أي جزء من الزمان القريب الذي هو ما قبل أن ينزل بهم سلطان الموت ، أو يزين السوء . { فأولئك يتوب الله عليهم } وعد بالوفاء بما وعد به وكتب على نفسه بقوله { إنما التوبة على الله } { وكان الله عليما } فهو يعلم بإخلاصهم في التوبة { حكيما } والحكيم لا يعاقب التائب .