المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيۡرِ حَقٍّ إِلَّآ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُۗ وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّهُدِّمَتۡ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٞ وَصَلَوَٰتٞ وَمَسَٰجِدُ يُذۡكَرُ فِيهَا ٱسۡمُ ٱللَّهِ كَثِيرٗاۗ وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (40)

40- الذين ظلمهم الكفار وأرغموهم على ترك وطنهم مكة والهجرة منها وما كان لهم من ذنب عندهم إلا أنهم عرفوا الله فعبدوه - وحده - ولولا أن الله سخر للحق أعواناً ينصرونه ويدفعون عنه طغيان الظالمين لساد الباطل ، وتمادى الطغاة في طغيانهم ، وأخمدوا صوت الحق ، ولم يتركوا للنصارى كنائس ، ولا لرهبانهم صوامع ، ولا لليهود معابد ، ولا للمسلمين مساجد يذكر فيها اسم الله ذكراً كثيراً ، وقد أخذ الله العهد الأكيد على نفسه أن ينصر كل من نصر دينه ، وأن يعز كل من أعز كلمة الحق في الأرض . ووعد الله لا يتخلف ، لأنه قوى على تنفيذ ما يريد عزيز لا يغلبه غالب .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيۡرِ حَقٍّ إِلَّآ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُۗ وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّهُدِّمَتۡ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٞ وَصَلَوَٰتٞ وَمَسَٰجِدُ يُذۡكَرُ فِيهَا ٱسۡمُ ٱللَّهِ كَثِيرٗاۗ وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (40)

ثم ذكر صفة ظلمهم فقال : { الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ } أي : ألجئوا إلى الخروج بالأذية والفتنة { بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا } أن ذنبهم الذي نقم منهم أعداؤهم { أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ } أي : إلا أنهم وحدوا الله ، وعبدوه مخلصين له الدين ، فإن كان هذا ذنبا ، فهو ذنبهم كقوله تعالى : { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } وهذا يدل على حكمة الجهاد ، وأن المقصود منه إقامة دين الله ، وذب الكفار المؤذين للمؤمنين ، البادئين لهم بالاعتداء ، عن ظلمهم واعتدائهم ، والتمكن من عبادة الله ، وإقامة الشرائع الظاهرة ، ولهذا قال : { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } فيدفع الله بالمجاهدين في سبيله ضرر الكافرين ، { لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ } أي : لهدمت هذه المعابد الكبار ، لطوائف أهل الكتاب ، معابد اليهود والنصارى ، والمساجد للمسلمين ، { يُذْكَرَ فِيهَا } أي : في هذه المعابد { اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا } تقام فيها الصلوات ، وتتلى فيها كتب الله ، ويذكر فيها اسم الله بأنواع الذكر ، فلولا دفع الله الناس بعضهم ببعض ، لاستولى الكفار على المسلمين ، فخربوا معابدهم ، وفتنوهم عن دينهم ، فدل هذا ، أن الجهاد مشروع ، لأجل دفع الصائل والمؤذي ، ومقصود لغيره ، ودل ذلك على أن البلدان التي حصلت فيها الطمأنينة بعبادة الله ، وعمرت مساجدها ، وأقيمت فيها شعائر الدين كلها ، من فضائل المجاهدين وببركتهم ، دفع الله عنها الكافرين ، قال الله تعالى : { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ }

فإن قلت : نرى الآن مساجد المسلمين عامرة لم تخرب ، مع أنها كثير منها إمارة صغيرة ، وحكومة غير منظمة ، مع أنهم لا يدان لهم بقتال من جاورهم من الإفرنج ، بل نرى المساجد التي تحت ولايتهم وسيطرتهم عامرة ، وأهلها آمنون مطمئنون ، مع قدرة ولاتهم من الكفار على هدمها ، والله أخبر أنه لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض ، لهدمت هذه المعابد ، ونحن لا نشاهد دفعا .

أجيب بأن هذا السؤال والاستشكال ، داخل في عموم هذه الآية وفرد من أفرادها ، فإن من عرف أحوال الدول الآن ونظامها ، وأنها تعتبر كل أمة وجنس تحت ولايتها ، وداخل في حكمها ، تعتبره عضوا من أعضاء المملكة ، وجزء من أجزاء الحكومة ، سواء كانت تلك الأمة مقتدرة بعددها أو عددها ، أو مالها ، أو عملها ، أو خدمتها ، فتراعي الحكومات مصالح ذلك الشعب ، الدينية والدنيوية ، وتخشى إن لم تفعل ذلك أن يختل نظامها ، وتفقد بعض أركانها ، فيقوم من أمر الدين بهذا السبب ما يقوم ، خصوصا المساجد ، فإنها -ولله الحمد- في غاية الانتظام ، حتى في عواصم الدول الكبار .

وتراعي تلك الدول الحكومات المستقلة ، نظرا لخواطر رعاياهم المسلمين ، مع وجود التحاسد والتباغض بين دول النصارى ، الذي أخبر الله أنه لا يزال إلى يوم القيامة ، فتبقى الحكومة المسلمة ، التي لا تقدر تدافع عن نفسها ، سالمة من [ كثير ]{[538]} ضررهم ، لقيام الحسد عندهم ، فلا يقدر أحدهم أن يمد يده عليها ، خوفا من احتمائها بالآخر ، مع أن الله تعالى لا بد أن يري عباده من نصر الإسلام والمسلمين ، ما قد وعد به في كتابه .

وقد ظهرت -ولله الحمد- أسبابه [ بشعور المسلمين بضرورة رجوعهم إلى دينهم والشعور مبدأ العمل ]{[539]} فنحمده ونسأله أن يتم نعمته ، ولهذا قال في وعده الصادق المطابق للواقع : { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ } أي : يقوم بنصر دينه ، مخلصا له في ذلك ، يقاتل في سبيله ، لتكون كلمة الله هي العليا .

{ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } أي : كامل القوة ، عزيز لا يرام ، قد قهر الخلائق ، وأخذ بنواصيهم ، فأبشروا ، يا معشر المسلمين ، فإنكم وإن ضعف عددكم وعددكم ، وقوي عدد عدوكم وعدتهم{[540]} فإن ركنكم القوي العزيز ، ومعتمدكم على من خلقكم وخلق ما تعملون ، فاعملوا بالأسباب المأمور بها ، ثم اطلبوا منه نصركم ، فلا بد أن ينصركم .


[538]:- زيادة من هامش ب.
[539]:- زيادة من هامش ب.
[540]:- في أ: وعدتكم، وهو سبق قلم -والله أعلم- .
 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيۡرِ حَقٍّ إِلَّآ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُۗ وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّهُدِّمَتۡ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٞ وَصَلَوَٰتٞ وَمَسَٰجِدُ يُذۡكَرُ فِيهَا ٱسۡمُ ٱللَّهِ كَثِيرٗاۗ وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (40)

{ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقّ }

قال العَوْفي ، عن ابن عباس : أخرجوا من مكة إلى المدينة بغير حق ، يعني : محمدًا وأصحابه .

{ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ } أي : ما كان لهم إلى قومهم إساءة ، ولا كان لهم ذنب إلا أنهم عبدوا الله{[20311]} وحده لا شريك له . وهذا استثناء منقطع بالنسبة إلى ما في نفس الأمر ، وأما عند المشركين فهو أكبر الذنوب ، كما قال تعالى : { يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ } [ الممتحنة : 1 ] ، وقال تعالى في قصة أصحاب الأخدود : { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [ البروج : 8 ] . ولهذا لما كان المسلمون يرتجزون في بناء الخندق ، ويقولون :

لا هُمّ{[20312]} لَولا أنتَ ما اهتَدَينا *** وَلا تَصَدّقَْنا وَلا صَلَّينَا

فَأنزلَنْ سَكينَةً عَلَينَا *** وَثَبّت الأقْدَامَ إنْ لاقَينَا

إنّ الألَى قد بَغَوا عَلَينَا *** إذَا أرَادوا فتْنَةً أبَيْنَا{[20313]}

فيوافقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقول معهم آخر كل قافية ، فإذا قالوا : " إذا أرادوا فتنة أبينا " ، يقول : " أبينا " ، يمد بها صوته .

ثم قال تعالى : { وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } أي : لولا أنه يدفع عن قوم بقوم ، ويكشفُ شَرّ أناس عن غيرهم ، بما يخلقه ويقدره من الأسباب ، لفسدت الأرض ، وأهلك القوي الضعيف .

{ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ } وهي المعابد الصغار للرهبان ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وأبو العالية ، وعكرمة ، والضحاك ، وغيرهم .

وقال قتادة : هي معابد الصابئين . وفي رواية عنه : صوامع المجوس .

وقال مقاتل بن حَيَّان : هي البيوت التي على الطرق .

{ وَبِيَعٌ } : وهي أوسع منها ، وأكثر عابدين فيها . وهي للنصارى أيضًا . قاله أبو العالية ، وقتادة ، والضحاك ، وابن{[20314]} صخر ، ومقاتل بن حيان ، وخُصَيف ، وغيرهم .

وحكى ابن جبير عن مجاهد وغيره : أنها كنائس اليهود . وحكى السدي ، عمن حَدّثه ، عن ابن عباس : أنها كنائس اليهود ، ومجاهد إنما قال : هي الكنائس ، والله أعلم .

وقوله : { وَصَلَوَاتٌ } : قال العوفي ، عن ابن عباس : الصلوات : الكنائس . وكذا قال عكرمة ، والضحاك ، وقتادة : إنها كنائس اليهود . وهم يسمونها صَلُوتا .

وحكى السدي ، عمن حدثه ، عن ابن عباس : أنها كنائس النصارى .

وقال أبو العالية ، وغيره : الصلوات : معابد الصابئين .

وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : الصلوات : مساجد لأهل الكتاب ولأهل الإسلام بالطرق . وأما المساجد فهي للمسلمين .

وقوله : { يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا } فقد قيل : الضمير في قوله : { يُذْكَرَ فِيهَا } عائد إلى المساجد ؛ لأنها أقرب المذكورات .

وقال الضحاك : الجميع يذكر فيها اسم الله كثيرا .

وقال ابن جرير : الصوابُ : لهدمت صوامع الرهبان وبِيعُ النصارى وصلوات اليهود ، وهي كنائسهم ، ومساجد المسلمين التي يذكر فيها اسم الله كثيرا ؛ لأن هذا هو المستعمل المعروف في كلام العرب .

وقال بعض العلماء : هذا تَرَقٍّ من الأقل إلى الأكثر إلى أن ينتهي إلى المساجد ، وهي أكثر عُمَّارا وأكثر عبادا ، وهم ذوو القصد الصحيح .

وقوله : { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ } كقوله{[20315]} تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ . وَالذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } [ محمد : 7 ، 8 ] .

وقوله : { إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } وَصَف نفسه بالقوة والعزة ، فبقوته خلق كل شيء فقدره تقديرا ، وبعزته لا يقهره قاهر ، ولا يغلبه غالب ، بل كل شيء ذليل لديه ، فقير إليه . ومن كان القويّ العزيز ناصرَه فهو المنصور ، وعدوه هو المقهور ، قال الله تعالى : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ . إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ . وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } [ الصافات : 171 - 173 ] وقال [ الله ]{[20316]} تعالى : { كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ المجادلة : 21 ] .


[20311]:- في ف ، أ : "وحد الله".
[20312]:- في أ : "والله".
[20313]:- الأبيات لعامر بن الأكوع كما في صحيح مسلم برقم (1803).
[20314]:- في أ : "أبو".
[20315]:- في ت : "لقوله".
[20316]:- زيادة من ت.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيۡرِ حَقٍّ إِلَّآ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُۗ وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّهُدِّمَتۡ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٞ وَصَلَوَٰتٞ وَمَسَٰجِدُ يُذۡكَرُ فِيهَا ٱسۡمُ ٱللَّهِ كَثِيرٗاۗ وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (40)

القول في تأويل قوله تعالى : { الّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقّ إِلاّ أَن يَقُولُواْ رَبّنَا اللّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لّهُدّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنّ اللّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنّ اللّهَ لَقَوِيّ عَزِيزٌ } .

يقول تعالى ذكره : أذن للذين يقاتلون الّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقّ ف «الذين » الثانية ردّ على «الذين » الأولى . وعنى بالمخرجين من دورهم : المؤمنين الذين أخرجهم كفار قريش من مكة . وكان إخراجهم إياهم من دورهم وتعذيبهم بعضهم على الإيمان بالله ورسوله ، وسبّهم بعضهم بألسنتهم ووعيدهم إياهم ، حتى اضطرّوهم إلى الخروج عنهم . وكان فعلهم ذلك بهم بغير حقّ لأنهم كانوا على باطل والمؤمنون على الحقّ ، فلذلك قال جلّ ثناؤه : الّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بغَيْرِ حَقّ . وقوله : إلا أنْ يَقُولُوا رَبّنا اللّهُ يقول تعالى ذكره : لم يخرجوا من ديارهم إلا بقولهم : ربنا الله وحده لا شريك له ف «أنْ » في موضع خفض ردّا على الباء في قوله : بِغَيْرِ حَقّ ، وقد يجوز أن تكون في موضع نصب على وجه الاستثناء .

وقوله : ولَوْلا دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : ولولا دفع الله المشركين بالمسلمين . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله : وَلَوْلا دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ دفع المشركين بالمسلمين .

وقال آخرون : معنى ذلك : ولولا القتال والجهاد في سبيل الله . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلَوْلا دَفْعُ اللّهَ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ قال : لولا القتال والجهاد .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : ولولا دفع الله بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن بعدهم من التابعين . ذكر من قال ذلك :

حدثنا إبراهيم بن سعيد ، قال : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، عن سيف بن عمرو ، عن أبي روق ، عن ثابت بن عوسجة الحضْرميّ ، قال : حدثني سبعة وعشرون من أصحاب عليّ وعبد الله منهم لاحق بن الأقمر ، والعيزار بن جرول ، وعطية القرظيّ ، أن عليّا رضي الله عنه قال : إنما أنزلت هذه الاَية في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : وَلَوْلا دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لولا دفاع الله بأصحاب محمد عن التابعين لَهُدّمَتْ صَوَامِعُ وَبيَعٌ .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : لولا أن الله يدفع بمن أوجب قبول شهادته في الحقوق تكون لبعض الناس على بعض عمن لا يجوز قبول شهادته وغيره ، فأحيا بذلك مال هذا ويوقي بسبب هذا إراقة دم هذا ، وتركوا المظالم من أجله ، لتظالَمَ النّاسُ فُهدمت صوامع . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَلَوْلا دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ يقول : دفع بعضهم بعضا في الشهادة ، وفي الحقّ ، وفيما يكون من قبل هذا . يقول : لولاهم لأهلكت هذه الصوامع وما ذكر معها .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر أنه لولا دفاعه الناس بعضهم ببعض ، لهُدم ما ذكر ، من دفعه تعالى ذكره بعضَهم ببعض ، وكفّه المشركين بالمسلمين عن ذلك ومنه كفه ببعضهم التظالم ، كالسلطان الذي كفّ به رعيته عن التظالم بينهم ومنه كفّه لمن أجاز شهادته بينهم ببعضهم عن الذهاب بحقّ من له قِبله حق ، ونحو ذلك . وكلّ ذلك دفع منه الناس بعضهم عن بعض ، لولا ذلك لتظالموا ، فهدم القاهرون صوامع المقهورين وبيَعهم وما سمّى جلّ ثناؤه . ولم يضع الله تعالى دلالة في عقل على أنه عني من ذلك بعضا دون بعض ، ولا جاء بأن ذلك كذلك خبر يجب التسليم له ، فذلك على الظاهر والعموم على ما قد بيّنته قبل لعموم ظاهر ذلك جميع ما ذكرنا .

وقوله : لَهُدّمَتْ صَوَامِعُ اختلف أهل التأويل في المعنيّ بالصوامع ، فقال بعضهم : عُني بها صوامع الرهبان . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، عن رُفيع في هذه الاَية : لَهُدّمَتْ صَوَامِعُ قال : صوامع الرهبان .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : لَهُدّمَتْ صَوَامِعُ قال : صوامع الرهبان .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : لَهُدّمَتْ صَوَامِعُ قال : صوامع الرهبان .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : لَهُدّمَتْ صَوَامِعُ قال : صوامع الرهبان .

حُدثت عن الحسين ، قال : حدثنا سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول : في قوله : لَهُدّمَتْ صَوَامِعُ وهي صوامع الصغار يبنونها .

وقال آخرون : بل هي صوامع الصابئين . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : صَوَامِعُ قال : هي للصابئين .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، مثله .

واختلفت القرّاء في قراءة قوله : لَهُدّمَتْ . فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة : «لَهُدِمَتْ » خفيفة . وقرأته عامة قرّاء أهل الكوفة والبصرة : لَهُدّمَتْ بالتشديد بمعنى تكرير الهدم فيها مرّة بعد مرّة . والتشديد في ذلك أعجب القراءتين إليّ . لأن ذلك من أفعال أهل الكفر بذلك .

وأما قوله وَبِيَعٌ فإنه يعني بها : بيع النصارى .

وقد اختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم مثل الذي قلنا في ذلك . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن رُفيع : وَبِيَعٌ قال : بيع النصارى .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : وَبِيَعٌ للنصارى .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول : البِيَعُ : بيع النصارى .

وقال آخرون : عُني بالبيع في هذا الموضع : كنائس اليهود . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : وَبِيَعٌ قال : وكنائس .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .

وحدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَبِيَعٌ قال : البِيَعُ الكنائس .

قوله : وَصَلَوَاتٌ اختلف أهل التأويل في معناه ، فقال بعضهم : عني بالصلوات الكنائس . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : وَصَلَوَاتٌ قال : يعني بالصلوات الكنائس .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَصَلَوَاتٌ : كنائس اليهود ، ويسمون الكنيسة صَلُوتَا .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : وَصَلَوَاتٌ كنائس اليهود .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، مثله .

وقال آخرون : عني بالصلوات مساجد الصابئين . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، قال : سألت أبا العالية عن الصلوات ، قال : هي مساجد الصابئين .

قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، عن رُفيع ، نحوه .

وقال آخرون : هي مساجد للمسلمين ولأهل الكتاب بالطرق . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَصَلَوَاتٌ قال : مساجد لأهل الكتاب ولأهل الإسلام بالطرق .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، نحوه .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَصَلَوَاتٌ قال : الصلوات صلوات أهل الإسلام ، تنقطع إذا دخل العدوّ عليهم ، انقطعت العبادة ، والمساجد تهدم ، كما صنع بختنصر .

وقوله : وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيها اسْمُ اللّهِ كَثِيرا اختلف في المساجد التي أريدت بهذا القول ، فقال بعضهم : أريد بذلك مساجد المسلمين . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، عن رُفيع ، قوله : وَمَساجِدُ قال : مساجد المسلمين .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، قال : حدثنا معمر ، عن قَتادة : وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيها اسْمُ اللّهِ كَثِيرا قال : المساجد : مساجد المسلمين يذكر فيها اسم الله كثيرا .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قَتادة ، نحوه .

وقال آخرون : عني بقوله : وَمَساجِدُ : الصوامع والبيع والصلوات . ذكر من قال ذلك :

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : وَمَساجِدُ يقول في كلّ هذا يذكر اسم الله كثيرا ، ولم يخصّ المساجد .

وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول : الصلوات لا تهدم ، ولكن حمله على فعل آخر ، كأنه قال : وتركت صلوات . وقال بعضهم : إنما يعني : مواضع الصلوات . وقال بعضهم : إنما هي صلوات ، وهي كنائس اليهود ، تُدعى بالعبرانية : صَلُوتَا .

وأولى هذه الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : معنى ذلك : لهدمت صوامع الرهبان وبِيعَ النصارى ، وصلوات اليهود ، وهي كنائسهم ، ومساجد المسلمين التي يذكر فيها اسم الله كثيرا .

وإنما قلنا هذا القول أولى بتأويل ذلك لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب المستفيض فيهم ، وما خالفه من القول وإن كان له وجه فغير مستعمل فيما وجهه إليه مَنْ وجهه إليه .

وقوله : وَلَيَنْصُرَنّ اللّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ يقول تعالى ذكره : وليعيننّ الله من يقاتل في سبيله ، لتكون كلمته العليا على عدوّه فَنْصُر الله عبده : معونته إياه ، ونَصْرُ العبد ربه : جهاده في سبيله ، لتكون كلمته العليا .

وقوله : إنّ اللّهَ لَقَوِيّ عَزِيزٌ يقول تعالى ذكره : إن الله لقويّ على نصر من جاهد في سبيله من أهل ولايته وطاعته ، عزيز في مُلكه ، يقول : منيع في سلطانه ، لا يقهره قاهر ، ولا يغلبه غالب .