ف { قَالَ } الله له : { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } الذين وعدتك بإنجائهم { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } أي : هذا الدعاء الذي دعوت{[430]} به ، لنجاة كافر ، لا يؤمن بالله ولا رسوله .
{ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } أي : ما لا تعلم عاقبته ، ومآله ، وهل يكون خيرا ، أو غير خير .
{ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } أي : أني أعظك وعظا تكون به من الكاملين ، وتنجو به من صفات الجاهلين .
وجاءه الرد بالحقيقة التي غفل عنها . فالأهل - عند الله وفي دينه وميزانه - ليسوا قرابة الدم ، إنما هم قرابة العقيدة . وهذا الولد لم يكن مؤمنا ، فليس إذن من أهله وهو النبي المؤمن . . جاءه الرد هكذا في قوة وتقرير وتوكيد ؛ وفيما يشبه التقريع والتأنيب والتهديد :
( قال : يا نوح إنه ليس من أهلك ، إنه عمل غير صالح ، فلا تسألن ما ليس لك به علم . إني أعظك أن تكون من الجاهلين ) . .
إنها الحقيقة الكبيرة في هذا الدين . حقيقة العروة التي ترجع إليها الخيوط جميعا . عروة العقيدة التي تربط بين الفرد والفرد مالا يربطه النسب والقرابة :
( إنه ليس من أهلك . إنه عمل غير صالح ) . .
فهو منبت منك وأنت منبت منه ، ولو كان ابنك من صلبك ، فالعروة الأولى مقطوعة ، فلا رابطة بعد ذلك ولا وشيجة .
ولأن نوحا دعا دعاء من يستنجز وعدا لا يراه قد تحقق . . كان الرد عليه يحمل رائحة التأنيب والتهديد :
( فلا تسألن ما ليس لك به علم . إني أعظك أن تكون من الجاهلين ) . .
إني أعظك خشية أن تكون من الجاهلين بحقيقة الوشائج والروابط ، أو حقيقة وعد الله وتأويله ، فوعد الله قد أول وتحقق ، ونجا أهلك الذين هم أهلك على التحقيق .
وقوله تعالى : { قال يا نوح } الآية ، المعنى قال الله تعالى : يا نوح ، وقالت فرقة : المراد أنه ليس بولد لك ، وزعمت أنه كان لغية{[6373]} ، وأن امرأته الكافرة خانته فيه ، هذا قول الحسن وابن سيرين وعبيد بن عمير : وقال بزي إنما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالولد للفراش من أجل ابن نوح{[6374]} ، وحلف الحسن أنه ليس بابنه ، وحلف عكرمة والضحاك أنه ابنه .
قال القاضي أبو محمد : عول الحسن على قوله تعالى : { إنه ليس من أهلك } ، وعول الضحاك وعكرمة على قوله تعالى : { ونادى نوح ابنه } [ هود : 42 ] .
وقرأ الحسن ومن تأول تأويله : { إنه عمل غير صالح } على هذا المعنى ، وهي قراءة السبعة سوى الكسائي : وقراءة جمهور الناس ، وقال من خالف الحسن بن أبي الحسن : المعنى : ليس من أهلك الذين عمهم الوعد لأنه ليس على دينك وإن كان ابنك بالولاء{[6375]} . فمن قرأ من هذه الفرقة { إنه عمل غير صالح } جعله وصفاً له بالمصدر على جهة المبالغة ، فوصفه بذلك كما قالت الخنساء تصف ناقة ذهب عنها ولدها : [ البسيط ]
ترتع ما غفلت حتى إذا ادكرت*** فإنما هي إقبال وإدبار{[6376]}
أي ذات إقبال وإدبار . وقرأ بعض هذه الفرقة «إنه عمل غير صالح » وهي قراءة الكسائي ، وروت هذه القراءة أم سلمة وعائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ذكره أبو حاتم ، وضعف الطبري هذه القراءة وطعن في الحديث بأنه من طريق شهر بن حوشب ، وهي قراءة علي وابن عباس وعائشة وأنس بن مالك ، ورجحها أبو حاتم وقرأ بعضها : «إنه عمل عملاً غير صالح » . وقالت فرقة : الضمير في قوله : «إنه عمل غير صالح » على قراءة جمهور السبعة على سؤال الذي يتضمنه الكلام وقد فسره آخر الآية ؛ ويقوي هذا التأويل أن في مصحف ابن مسعود «إنه عمل غير صالح أن تسألني ما ليس لك به علم » . وقالت فرقة : الضمير عائد على ركوب ولد نوح معهم الذي يتضمنه سؤال نوح ، المعنى : أن ركوب الكافر مع المؤمنين عمل غير صالح ، وقال أبو علي : ويحتمل أن يكون التقدير أن كونك مع الكافرين وتركك الركوب معنا عمل غير صالح .
قال القاضي أبو محمد : وهذا تأويل لا يتجه من جهة المعنى ، وكل هذه الفرق قال : إن القول بأن الولد كان لغية وولد فراش خطأ محض وقالوا : إنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه ما زنت امرأة نبي قط » .
قال القاضي أبو محمد : وهذا الحديث ليس بالمعروف ، وإنما هو من كلام ابن عباس رضي الله عنه ويعضده شرف النبوة . وقالوا في قوله عز وجل : { فخانتاهما }{[6377]} إن الواحدة كانت تقول للناس : هو مجنون ؛ والأخرى كانت تنبه على الأضياف ، وأما غير هذا فلا{[6378]} ، وهذه منازع ابن عباس وحججه ؛ وهو قوله وقول الجمهور من الناس{[6379]} .
وقرأ ابن أبي مليكة : «فلا تسلْني » بتخفيف النون وإثبات الياء وسكون اللام دون همز . وقرأت فرقة بتخفيف النون وإسقاط الياء وبالهمز «فلا تسألن » ، وقرأ أبو جعفر وشيبة بكسر النون وشدها والهمز وإثبات الياء «فلا تسألنِّي » ، وقرأ نافع ذلك دون ياء «فلا تسألن » وقرأ ابن كثير وابن عامر «فلا تسألنَّ » بفتح النون المشددة ، وهي قراءة ابن عباس ، وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي «فلا تسلْن » خفيفة النون ساكنة اللام ، وكان أبو عمرو يثبت الياء في الوصل ، وحذفها عاصم وحمزة في الوصل والوقف . ومعنى قوله : { فلا تسألني ما ليس لك به علم } أي إذ وعدتك فاعلم يقيناً أنه لا خلف في الوعد فإذ رأيت ولدك لم يحمل فكان الواجب عليك أن تقف وتعلم أن ذلك واجب بحق عند الله .
قال القاضي أبو محمد : ولكن نوحاً عليه السلام حملته شفقة النبوة وسجية البشر على التعرض لنفحات الرحمة والتذكير ، وعلى هذا القدر وقع عتابه ، ولذلك جاء بتلطف وترفيع في قوله : { إني أعظك أن تكون من الجاهلين } ، وقد قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم : { فلا تكونن }{[6380]} ، وذلك هنا بحسب الأمر الذي عوتب فيه وعظمته ، فإنه لضيق صدره بتكاليف النبوة ، وإلا فمتقرر أن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل البشر وأولاهم بلين المخاطبة ؛ ولكن هذا بحسب الأمرين لا بحسب النبيين . وقال قوم : إنما وقر نوح لسنة . وقال قوم : إنما حمل اللفظ على محمد صلى الله عليه وسلم كما يحمل الإنسان على المختص به الحبيب إليه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كله ضعيف ، ويحتمل قوله : { فلا تسألني ما ليس لك به علم } ، أي لا تطلب مني أمراً لا تعلم المصلحة فيه علم يقين ، ونحا إلى هذا أبو علي الفارسي ، وقال : إن { به } يجوز أن يتعلق بلفظة { علم } كما قال الشاعر : [ الرجز ] .
كان جزائي بالعصا أن أجلدا{[6381]}
ويجوز أن يكون { به } بمنزلة فيه ، فتتعلق الباء بالمستقر .
قال القاضي أبو محمد : واختلاف هذين الوجهين إنما هو لفظي ، والمعنى في الآية واحد ، وروي أن هذا الابن إنما كان ربيبه وهذا ضعيف ؛ وحكى الطبري عن ابن زيد أن معنى قوله : { إني أعظك أن تكون من الجاهلين } في أن تعتقد أني لا أفي لك بوعد وعدتك به .
قال القاضي أبو محمد : وهذا تأويل بشع ، وليس في الألفاظ ما يقتضي أن نوحاً اعتقد هذا وعياذاً بالله{[6382]} ، وغاية ما وقع لنوح عليه السلام أن رأى ترك ابنه معارضاً للوعد فذكر به ، ودعا بحسب الشفقة ليكشف له الوجه الذي استوجب به ابنه الترك في الغرقى .
معنى قوله تعالى : { إنّه ليس من أهلك } نفي أن يكون من أهل دينه واعتقاده ، فليس ذلك إبطالاً لقول نوح عليه السّلام : { إن ابني من أهلي } ولكنّه إعلام بأنّ قرابة الدين بالنسبة لأهل الإيمان هي القرابة ، وهذا المعنى شائع في الاستعمال .
قال النابغة يخاطب عيينة بن حصن :
إذا حاولت في أسد فجوراً *** فإني لست منك ولست منّي
وقال تعالى : { ويحلفون بالله إنّهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قومٌ يفرقون } [ التوبة : 56 ] .
وتأكيد الخبر لتحقيقه لِغرابته .
وجملة { إنّه عَمل غير صالح } تعليل لمضمون جملة { إنه ليس من أهلك } ف ( إنّ ) فيه لمجرد الاهتمام .
و{ عَمَلٌ } في قراءة الجمهور بفتح الميم وتنوين اللام مصدر أخبر به للمبالغة وبرفع { غيرُ } على أنه صفة ( عمل ) . وقرأه الكسائي ، ويعقوب { عَمِلَ } بكسر الميم بصيغة الماضي وبنصب { غيرَ } على المفعولية لفعل ( عمل ) . ومعنى العمل غير الصالح الكفر ، وأطلق على الكفر ( عمل ) لأنه عمل القلب ، ولأنّه يظهر أثره في عمل صاحبه كامتناع ابن نوح من الركوب الدال على تكذيبه بوعيد الطوفان .
وتفرع على ذلك نهيه أن يَسأل ما ليس له به علم نهيَ عتاب ، لأنّه لما قيل له { إنّه ليس من أهلك } بسبب تعليله بأنه عمل غير صالح ، سقط ما مهد به لإجابة سؤاله ، فكان حقيقاً بأن لا يسأله وأن يتدبّر ما أرَاد أن يسأله من الله .
وقرأه نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر « فلا تسألنّي » بتشديد النون وهي نون التوكيد الخفيفة ونون الوقاية أدغمتا . وأثبتَ ياء المتكلم من عدا ابنَ كثير من هؤلاء . أما ابن كثير فقرأ « فلا تسألنّ » بنون مشددة مفتوحة . وقرأه أبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، ويعقوب ، وخلف « فلا تسألْنِ » بسكون اللام وكسر النون مخففة على أنّه غير مؤكد بنون التوكيد ومعدى إلى ياء المتكلم .
وأكثرهم حذف الياء في حالة الوصل ، وأثبتها في الوصل ورش عن نافع وأبو عمرو .
ثم إن كان نوح عليه السّلام لم يسبق له وحي من الله بأن الله لا يغفر للمشركين في الآخرة كان نهيه عن أن يسأل ما ليس له به علم ، نهيَ تنزيه لأمثاله لأن درجة النبوءة تقتضي أن لا يقدم على سؤال ربه سؤْلاً لا يعلم إجابته . وهذا كقوله تعالى : { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } [ سبأ : 23 ] وقوله : { لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً } [ النبإ : 38 ] ، وإن كان قد أوحي إليه بذلك من قبل ، كما دل عليه قوله : { وإنّ وعدكَ الحقُ } ، وكان سؤاله المغفرة لابنه طلباً تخصيصَه من العموم . وكان نهيه نهيَ لَوم وعتاب حيث لم يتبيّن من ربه جواز ذلك .
وكان قوله : { ما ليس لك به علم } محتملاً لظاهره ، ومحتملاً لأن يكون كناية عن العلم بضده ، أي فلا تسألني ما علمت أنه لا يقع .
ثم إن كان قول نوح عليه السّلام { إنّ ابني من أهلي } إلى آخره تعريضاً بالمسؤول كان النّهي في قوله : { فلا تسألنّي ما ليس لك به علم } نهياً عن الإلحاح أو العود إلى سؤاله ؛ وإن كان قول نوح عليه السّلام مجرد تمهيد للسؤال لاختبار حال إقبال الله على سؤاله كان قوله تعالى : { فلا تسألنّي } نهياً عن الإفضاء بالسؤال الذي مَهّد له بكلامه . والمقصود من النهي تنزيهه عن تَعريض سؤاله للردّ .
وعلى كل الوجوه فقوله : { إني أعظك أن تكون من الجاهلية } موعظة على ترك التثبّت قبل الإقدام .
والجهل فيه ضد العلم ، وهو المناسب لمقابلته بقوله : { ما ليس لك به علم } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قال} الله تعالى: {يا نوح إنه ليس من أهلك} الذين وعدتك أن أنجيهم، {إنه عمل غير صالح} يعني عمل شركا، {فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك} يعني أؤدبك {أن تكون من الجاهلين} لسؤالك إياي...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول الله تعالى ذكره: قال الله يا نوح إن الذي غرّقته فأهلكته الذي تذكر أنه من أهلك ليس من أهلك. واختلف أهل التأويل في معنى قوله:"لَيْسَ مِنْ أهْلِكَ"؛
فقال بعضهم: معناه: ليس من ولدك هو من غيرك، وقالوا: كان ذلك من حِنْث...
وقال آخرون: معنى ذلك: "لَيْسَ مِنْ أهْلِكَ الذين وعدتك أن أُنجيهم"...
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: تأويل ذلك: إنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجَيهم، لأنه كان لدينك مخالفا وبي كافرا، وكان ابنه لأن الله تعالى ذكره قد أخبر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أنه ابنه، فقال: "وَنادَى نُوحٌ ابْنَهُ "وغير جائز أن يخبر أنه ابنه فيكون بخلاف ما أخبر. وليس في قوله: "إنّهُ لَيْسَ مِنْ أهْلِكَ "دلالة على أنه ليس بابنه، إذ كان قوله: "لَيْسَ مِنْ أهْلِكَ" محتملاً من المعنى ما ذكرنا، ومحتملاً أنه ليس من أهل دينك، ثم يحذف «الدين» فيقال: إنه ليس من أهلك، كما قيل: "وَاسأَلِ القَرْيَةَ التي كُنّا فِيها"...
وأما قوله: "إنّهُ عَمَلٌ غيرُ صَالِحٍ" فإن القرّاء اختلفت في قراءته؛ فقرأته عامة قرّاء الأمصار: "إنّهُ عَمَلٌ غيرُ صَالِحٍ" بتنوين عمل ورفع غير. واختلف الذين قرأوا ذلك كذلك في تأويله؛
فقال بعضهم: معناه: إن مسألتك إياي هذه عملٌ غيرُ صالح...
وقال آخرون: بل معناه: إن الذي ذكرت أنه ابنك فسألتني أن أنجيَه عمل غير صالح، أي أنه لغير رِشْدة...
ورُوي عن جماعة من السلف أنهم قرأوا ذلك: «إنّهُ عَمِلَ غيرَ صَالِحٍ» على وجه الخبر عن الفعل الماضي، وغير منصوبة. وممن رُوي عنه أنه قرأ ذلك كذلك ابن عباس...
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار، وذلك رفع «عمل» بالتنوين، ورفع «غير»، يعني: إن سؤالك إياي ما تسألنيه في ابنك المخالف دينك الموالي أهل الشرك بي من النجاة من الهلاك، وقد مضت إجابتي إياك في دعائك: "لا تَذَرْ على الأرْضِ مِنَ الكافِرِينَ دَيّارا" ما قد مضى من غير استثناء أحد منهم عملٌ غير صالح، لأنه مسألة منك إليّ أن لا أفعل ما قد تقدم مني القول بأني أفعله في إجابتي مسألتك إياي فعله، فذلك هو العمل غير الصالح...
"فَلا تَسأَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ" نهي من الله -تعالى ذكره- نبيه نوحا أن يسأله عن أسباب أفعاله التي قد طوى علمها عنه وعن غيره من البشر. يقول له تعالى ذكره: إني يا نوح قد أخبرتك عن سؤالك سبب إهلاكي ابنك الذي أهكلته، فلا تسألن بعدها عما قد طَوَيت علمه عنك من أسباب أفعالي، وليس لك به علم "إني أعظك أن تكون من الجاهلين" في مسألتك إياي عن ذلك...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(فلا تسألن ما ليس لك به علم) يحتمل هذا نهيا عن سؤال مما لم يؤذن له من بعد، لأن الأنبياء عليهم السلام كانوا لا يسألون شيئا إلا بعد الإذن لهم في السؤال، وإن كان يسع لهم السؤال، أو أن يكون عتابا لما سبق، والأنبياء عليهم السلام كانوا يعاتبون في أشياء تحل بهم. ذلك نحو قوله لرسول الله: (عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا) [التوبة: 43] وقد كان منه الأمر بالقعود والنهي عن الخروج بقوله: (فقل لن تخرجوا معي أبدا) [التوبة: 83] ونحوه...
(إني أعظك أن تكون من الجاهلين) هو كما نهى رسول الله (فلا تكونن من الجاهلين) [الأنعام: 35] وأمثاله، وإن كان معلوما أنه لا يكون من الجاهلين، وهو ما ذكرنا أن العصمة لا تمنع النهي عن الشيء، بل النهي يظهر العصمة...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" إني أعظك أن تكون من الجاهلين "فالوعظ: الزجر عن القبيح بما يدعو إلى الجهل على وجه الترغيب والترهيب...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{فلا تسألن ما ليس لك به علم} وذلك أن نوحا لم يعلم أن سؤاله ربه نجاة ولده محظور عليه مع إصراره على الكفر حتى أعلمه الله سبحانه ذلك، والمعنى: فلا تسألني ما ليس لك به علم بجواز مسألته {إني أعظك} أنهاك {أن تكون من الجاهلين} من الآثمين...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(إني أعظك أن تكون من الجاهلين) معناه: إني أحذرك أن تكون من الآثمين، وذنب المؤمن جهل، وذنب الكافر كفر. والقول الثاني: (إني أعظك أن تكون من الجاهلين) -يعني: أن تدعو بهلاك الكفار ثم تطلب نجاة كافر...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
إن نوحا شيخ المسلمين الذي احتمل في أمر دينه ما احتمل، لم يقل إلا كلمة واحدة على غير وجهها، إذ نودي: {فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين}...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح} تعليل لانتفاء كونه من أهله. وفيه إيذان بأن قرابة الدين غامرة لقرابة النسب، وأنّ نسيبك في دينك ومعتقدك من الأباعد في المنصب وإن كان حبشياً وكنت قرشياً لصيقك وخصيصك. ومن لم يكن على دينك -وإن كان أمس أقاربك رحماً- فهو أبعد بعيد منك، وجعلت ذاته عملاً غير صالح، مبالغة في ذمّه... فإن قلت: فهلا قيل: إنه عمل فاسد؟ قلت: لما نفاه عن أهله، نفى عنه صفتهم بكلمة النفي التي يستبقي معها لفظ المنفي، وآذن بذلك أنه إنما أنجى من أنجى من أهله لصلاحهم، لا لأنهم أهلك وأقاربك. وإنّ هذا لما انتفى عنه الصلاح لم تنفعه أبوّتك، كقوله: {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صالحين فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِينَا عَنْهُمَا مِنَ الله شَيْئاً} [التحريم: 10]... فإن قلت: لم سمي نداؤه سؤالاً ولا سؤال فيه؟ قلت: قد تضمن دعاؤه معنى السؤال وإن لم يصرح به، لأنه إذا ذكر الموعد بنجاة أهله في وقت مشارفة ولده الغرق فقد استنجز وجعل سؤال ما لا يعرف كنهه جهلاً...، ووعظه أن لا يعود إليه وإلى أمثاله من أفعال الجاهلين. فإن قلت: قد وعده أن ينجي أهله، وما كان عنده أن ابنه ليس منهم ديناً، فلما أشفى على الغرق تشابه عليه الأمر، لأن العدة قد سبقت له وقد عرف الله حكيماً لا يجوز عليه فعل القبيح وخلف الميعاد، فطلب إماطة الشبهة وطلبُ إماطة الشبهة واجب، فلم زجر وسمي سؤاله جهلاً؟ قلت: إن الله عز وعلا قدّم له الوعد بإنجاء أهله مع استثناء من سبق عليه القول منهم، فكان عليه أن يعتقد أن في جملة أهله من هو مستوجب للعذاب لكونه غير صالح، وأن كلهم ليسوا بناجين، وأن لا تخالجه شبهة حين شارف ولده الغرق في أنه من المستثنين لا من المستثنى منهم، فعوتب على أن اشتبه عليه ما يجب أن لا يشتبه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... ولكن نوحاً عليه السلام حملته شفقة النبوة وسجية البشر على التعرض لنفحات الرحمة والتذكير، وعلى هذا القدر وقع عتابه، ولذلك جاء بتلطف وترفيع في قوله: {إني أعظك أن تكون من الجاهلين}،... ويحتمل قوله: {فلا تسألني ما ليس لك به علم}، أي لا تطلب مني أمراً لا تعلم المصلحة فيه علم يقين،... ويجوز أن يكون {به} بمنزلة فيه، فتتعلق الباء بالمستقر...
واختلاف هذين الوجهين إنما هو لفظي، والمعنى في الآية واحد، وروي أن هذا الابن إنما كان ربيبه وهذا ضعيف؛ وحكى الطبري عن ابن زيد أن معنى قوله: {إني أعظك أن تكون من الجاهلين} في أن تعتقد أني لا أفي لك بوعد وعدتك به... وهذا تأويل بشع، وليس في الألفاظ ما يقتضي أن نوحاً اعتقد هذا وعياذاً بالله، وغاية ما وقع لنوح عليه السلام أن رأى ترك ابنه معارضاً للوعد فذكر به، ودعا بحسب الشفقة ليكشف له الوجه الذي استوجب به ابنه الترك في الغرقى...
احتج بهذه الآية من قدح في عصمة الأنبياء عليهم السلام من وجوه:
الوجه الأول: أن قراءة عمل بالرفع والتنوين قراءة متواترة فهي محكمة، وهذا يقتضي عود الضمير في قوله: {إنه عمل غير صالح} إما إلى ابن نوح وإما إلى ذلك السؤال، فالقول بأنه عائد إلى ابن نوح لا يتم إلا بإضمار وهو خلاف الظاهر. ولا يجوز المصير إليه إلا عند الضرورة ولا ضرورة ههنا، لأنا إذا حكمنا بعود الضمير إلى السؤال المتقدم فقد استغنينا عن هذا الضمير، فثبت أن هذا الضمير عائد إلى هذا السؤال، فكان التقدير أن هذا السؤال عمل غير صالح، أي قولك: إن ابني من أهلي لطلب نجاته عمل غير صالح، وذلك يدل على أن هذا السؤال كان ذنبا ومعصية.
الوجه الثاني: أن قوله: {فلا تسألني} نهي له عن السؤال، والمذكور السابق هو قوله {إن ابني من أهلي} فدل هذا على أنه تعالى نهاه عن ذلك السؤال فكان ذلك السؤال ذنبا ومعصية.
الوجه الثالث: أن قوله: {فلا تسألني ما ليس لك به علم} يدل على أن ذلك السؤال كان قد صدر لا عن العلم، والقول بغير العلم ذنب لقوله تعالى: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}.
الوجه الرابع: أن قوله تعالى: {إني أعظك أن تكون من الجاهلين} يدل على أن ذلك السؤال كان محض الجهل. وهذا يدل على غاية التقريع ونهاية الزجر، وأيضا جعل الجهل كناية عن الذنب مشهور في القرآن. قال تعالى: {يعملون السوء بجهالة} وقال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: {أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين}.
الوجه الخامس: أن نوحا عليه السلام اعترف بإقدامه على الذنب والمعصية في هذا المقام فإنه قال: {إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين} واعترافه بذلك يدل على أنه كان مذنبا.
الوجه السادس: في التمسك بهذه الآية أن هذه الآية تدل على أن نوحا نادى ربه لطلب تخليص ولده من الغرق، والآية المتقدمة وهي قوله: {ونادى نوح ابنه} وقال: {يا بني اركب معنا} تدل على أنه عليه السلام طلب من ابنه الموافقة. فنقول: إما أن يقال إن طلب هذا المعنى من الله كان سابقا على طلبه من الولد أو كان بالعكس، والأول باطل، لأن بتقدير أن يكون طلب هذا المعنى من الله تعالى سابقا على طلبه من الابن لكان قد سمع من الله أنه تعالى لا يخلص ذلك الابن من الغرق، وأنه تعالى نهاه عن ذلك الطلب، وبعد هذا كيف قال له: {يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين} وأما إن قلنا: إن هذا الطلب من الابن كان متقدما فكان قد سمع من الابن قوله: {ساوى إلى جبل يعصمني من الماء} وظهر بذلك كفره، فكيف طلب من الله تخليصه، وأيضا أنه تعالى أخبر أن نوحا لما طلب ذلك منه وامتنع هو صار من المغرقين فكيف يطلب من الله تخليصه من الغرق بعد أن صار من المغرقين، فهذه الآية من هذه الوجوه الستة تدل على صدور المعصية من نوح عليه السلام.
واعلم أنه لما دلت الدلائل الكثيرة على وجوب تنزيه الله تعالى الأنبياء عليهم السلام من المعاصي، وجب حمل هذه الوجوه المذكورة على ترك الأفضل والأكمل، وحسنات الأبرار سيئات المقربين، فلهذا السبب حصل هذا العتاب والأمر بالاستغفار، ولا يدل على سابقة الذنب كما قال: {إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره} ومعلوم أن مجيء نصر الله والفتح ودخول الناس في دين الله أفواجا ليست بذنب يوجب الاستغفار وقال تعالى: {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} وليس جميعهم مذنبين، فدل ذلك على أن الاستغفار قد يكون بسبب ترك لأفضل...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{قال يا نوح} وأكد في نفي ما تقدم منه إثباته فقال: {إنه ليس من أهلك} أي المحكوم بنجاتهم لإيمانهم وكفره، ولهذا علل بقوله: {إنه عمل} أي ذو عمل، ولكنه جعله نفس العمل في قراءة الجماعة مبالغة في ذمه، وذلك لأن الجواهر متساوية الأقدام في نفس الوجود لا تشرف إلا بآثارها، فبين أنه ليس فيه أثر صالح أصلاً، ويثبت قراءة يعقوب والكسائي بالفعل أن من باشر السوء مطلق مباشرة وجبت البراءة منه، ولا سيما للأمر فلا يواصل إلا بإذن، وعبر بالعمل دون الفعل لزعمه أن أعماله مبنية على العلم، وأكده لما لا يخص من سؤال نوح عليه السلام هذا {غير صالح} بعلمي، وقد حكمت في هذا الأمر أني لا أنجي منه إلا من اتصف بالصلاح وأنا عليم بذات الصدور، وأنت يخفى عليك كثير من الأمور فربما ظننت الإيمان بمن ليس بمؤمن لبنائك الأمر على ما نراه من ظاهره... ولما تسبب عن هذا الجواب أن ترك السؤال كان أولى، ذكر أمراً كلياً يندرج فيه فقال: {فلا تسألن} أي بنوع من أنواع السؤال {ما ليس لك به علم} فلا تعلم أصَوَاب السؤال فيه أم لا، لأن اللائق بأمثالك من أولي القرب بناء أمورهم على التحقيق وانتظار الإعلام منا، انظر إلى قول موسى عليه السلام في حديث الشفاعة في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"وإني قد قتلت نفساً لم أومر بقتلها" ومن المعلوم أن تلك النفس كانت كافرة من آل فرعون. {إني أعظك} بمواعظي كراهية {أن تكون} أي كوناً تتخلق به {من الجاهلين} أي في عداد الذين يعملون بالظن لأنهم لا سبيل لهم إلى الوقوف على حقائق الأمور من قبلنا فتسأل مثل ما يسألون...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{إِنّى أَعِظُكَ} الخ فالمراد النهي عن وقوع السؤال في المستقبل بعد أن أعلمه سبحانه باطن أمره وأنه إن وقع في المستقبل في السؤال كان من الجاهلين، والغرض من ذلك تقديم ما يبقيه عليه السلام على سمت العصمة، والموعظة لا تستدعي وقوع ذنب بل المقصد منها أن لا يقع الذنب في الاستقبال ولذلك امتثل عليه السلام ذلك واستعاذ بالله سبحانه أن يقع منه ما نهى عنه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{قال يا نوح إنه ليس من أهلك} الذين أمرتك أن تسلكهم في السفينة لإنجائهم، وفسر هذا النفي وعلله أو وجهه بقوله تعالى: {إنه عمل غير صالح} قرأ الجمهور "عمل "برفع اللام والتنوين على المبالغة في التشبيه كرجل عدل كأنه لفساده واجتنابه للصلاح والتزامه العمل غير الصالح نفس العمل... وقرأ الكسائي ويعقوب بصيغة الفعل الماضي بتقدير عمل عملا غير صالح، والأول أبلغ والمراد أنه كان كافرا يعمل عمل الكافرين، والكفر يقطع الولاية بين المؤمنين والكافرين من الأقربين، ويوجب براءة بعضهم من بعض، كما قال تعالى: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم} [الممتحنة: 4] كما أن الإيمان يوجب الولاية بين المؤمنين الأبعدين – بله الأقربين- كما قال عز وجل: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} [التوبة: 71].
وقيل إن معنى الجملة: إن سؤالك إياي يا نوح عنه وطلبك لنجاته عمل غير صالح لا أرضاه لك رواه ابن جرير عن ابن عباس وما أراه يصح عنه، وقيل إنه كان ولد زنا أو كان ولد غيره من امرأته وهو ظاهر البطلان لأن الله تعالى سماه ابنه.
فإن قيل: كيف وقع هذا من نوح عليه السلام وقد استثنى الله تعالى من أهله الذين وعده بنجاتهم فقال: {وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم} [المؤمنون: 27] ولا يعزب عن علمه أن الذين سبق عليهم القول هم الكافرون الذي قضى الله بهلاكهم بعد دعائه عليهم بقوله {رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا} [نوح: 26] وكانت امرأته وابنه هذا منهم، ولا يعقل أن يخفى عليه أمرهما؟ ولكن امرأته لم تذكر في قصته وإنما ذكرت في سورة التحريم مع امرأة لوط في خيانة زوجيهما ودخولهما النار، واستثنيت امرأة لوط من النجاة مع المؤمنين في قصته.
قلنا: يحتمل أن يكون حين رأى ابنه بمعزل عن الكفار، ظن أنه قد بدا له في كفره فكرهه وجنح للإيمان، ويحتمل أن يكون قد فهم أنه غير داخل في عموم قوله تعالى له: {إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} [هود: 36] لأنه تعالى جعل الناجين قسمين أهله إلا من استثنى، ومن آمن من قومه، فجاز في فهمه أن يؤمن من أهله من كان كافرا لأنهم قسيم لقومه لا قسم منهم، ووافق هذا الفهم وقواه رحمة الأبوة فسأل الله تعالى أن يحققه، ولما كان هذا اجتهادا ظنيا لا يليق بنبي رسول من أولي العزم أن يخاطب به ربه عاتبه تعالى وأدبه عليه بقوله:
{فلا تسألن ما ليس لك به علم} أي فلا تسألني في شيء ما من الأشياء ليس لك به علم صحيح أنه حق وصواب، سمى دعاءه سؤالا لأنه تضمن ذكر الوعد بنجاة أهله وما رتبه عليه من طلب نجاة ولده، وقرأ ابن كثير تسألن بفتح اللام وتشديد النون المفتوحة، وابن عامر بتشديدها مكسورة وكذا نافع مع إثبات الياء. وهذا النهي يدل على أنه يشترط في الدعاء أن يكون بما هو جائز في شرع الله وسننه في خلقه، فلا يجوز سؤال ما هو محرم وما هو مخالف لسنن الله القطعية بما يقتضي تبديلها ولا تحويلها وقلب نظام الكون لأجل الداعي، ولكن يجوز الدعاء بتسخير الأسباب، وتوفيق الأقدار للأقدار، والهداية إلى العلم بالمجهول من السنن والنظام، مع ما يؤدي إلى ذلك من الأعمال – كما فصلناه من قبل.
{إني أعظك أن تكون من الجاهلين} أي أنهاك أن تكون من زمرة الجاهلين الذين يسألون أن يبطل تعالى تشريعه أو حكمته وتقديره في خلقه إجابة لشهواتهم وأهوائهم في أنفسهم أو أهليهم ومحبيهم. وأجهل منهم وأضل سبيلا من يسألون بعض الصالحين عندهم ما نهى الله عنه نبيا من أولي العزم من رسله أن يسأله إياه كان هؤلاء الصالحون يعطونهم أو يتوسلون إلى الله أن يعطيهم ما لم يعط مثله لرسله، بل ما عد طلبه منه ذنبا من ذنوبهم أمرهم بالتوبة منه وعدم العودة إلى مثله كما يدل عليه الوعظ هنا بمعونة قوله تعالى: {يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين} [النور: 17] وتقدم معنى الوعظ في تفسيره [10: 57 ج11].
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(إنه ليس من أهلك. إنه عمل غير صالح).. فهو منبت منك وأنت منبت منه، ولو كان ابنك من صلبك، فالعروة الأولى مقطوعة، فلا رابطة بعد ذلك ولا وشيجة. ولأن نوحا دعا دعاء من يستنجز وعدا لا يراه قد تحقق.. كان الرد عليه يحمل رائحة التأنيب والتهديد: (فلا تسألن ما ليس لك به علم. إني أعظك أن تكون من الجاهلين).. إني أعظك خشية أن تكون من الجاهلين بحقيقة الوشائج والروابط، أو حقيقة وعد الله وتأويله، فوعد الله قد أول وتحقق، ونجا أهلك الذين هم أهلك على التحقيق...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
معنى العمل غير الصالح الكفر، وأطلق على الكفر (عمل) لأنه عمل القلب، ولأنّه يظهر أثره في عمل صاحبه كامتناع ابن نوح من الركوب الدال على تكذيبه بوعيد الطوفان. وتفرع على ذلك نهيه أن يَسأل ما ليس له به علم نهيَ عتاب، لأنّه لما قيل له {إنّه ليس من أهلك} بسبب تعليله بأنه عمل غير صالح، سقط ما مهد به لإجابة سؤاله، فكان حقيقاً بأن لا يسأله وأن يتدبّر ما أرَاد أن يسأله من الله...
ثم إن كان نوح عليه السّلام لم يسبق له وحي من الله بأن الله لا يغفر للمشركين في الآخرة كان نهيه عن أن يسأل ما ليس له به علم، نهيَ تنزيه لأمثاله لأن درجة النبوءة تقتضي أن لا يقدم على سؤال ربه سؤْلاً لا يعلم إجابته. وهذا كقوله تعالى: {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} [سبأ: 23] وقوله: {لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً} [النبإ: 38]، وإن كان قد أوحي إليه بذلك من قبل، كما دل عليه قوله: {وإنّ وعدكَ الحقُ}، وكان سؤاله المغفرة لابنه طلباً تخصيصَه من العموم. وكان نهيه نهيَ لَوم وعتاب حيث لم يتبيّن من ربه جواز ذلك. وكان قوله: {ما ليس لك به علم} محتملاً لظاهره، ومحتملاً لأن يكون كناية عن العلم بضده، أي فلا تسألني ما علمت أنه لا يقع. ثم إن كان قول نوح عليه السّلام {إنّ ابني من أهلي} إلى آخره تعريضاً بالمسؤول كان النّهي في قوله: {فلا تسألنّي ما ليس لك به علم} نهياً عن الإلحاح أو العود إلى سؤاله؛ وإن كان قول نوح عليه السّلام مجرد تمهيد للسؤال لاختبار حال إقبال الله على سؤاله كان قوله تعالى: {فلا تسألنّي} نهياً عن الإفضاء بالسؤال الذي مَهّد له بكلامه. والمقصود من النهي تنزيهه عن تَعريض سؤاله للردّ. وعلى كل الوجوه فقوله: {إني أعظك أن تكون من الجاهلية} موعظة على ترك التثبّت قبل الإقدام. والجهل فيه ضد العلم، وهو المناسب لمقابلته بقوله: {ما ليس لك به علم}...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
هذه الآية تنص صراحة على أن قرابة العقيدة والإيمان هي القرابة الحقيقية والوحيدة، التي لها الاعتبار الأول بين الأقرباء في تكافلهم وتعاونهم، وتحديد مصيرهم المشترك، فإذا انتفت هذه القرابة الروحية والدينية بينهم كانت قرابة الدم المادية في الدرجة الأخيرة من الاعتبار، أو لا اعتبار لها بالمرة، لأن طابع البنوة الصحيح هو أن يكون الابن وارثا سر أبيه، يرث منه خير خصاله، وأفضل خلاله، والروحية منها قبل المادية، فتتصل به سلسلة الصلاح ولا تنقطع، وتنتقل الأمانة عن طريقه من جيل إلى جيل. وهكذا يصبح ابنك الروحي في العقيدة أو أخوك الروحي في الإيمان هو ابنك الحقيقي وأخوك الحق الذي تعتمد عليه بعد الله تعالى كل الاعتماد، في إدراك المنى وبلوغ المراد. ولهذا طالب كتاب الله المسلمين بأن يكون الله ورسوله أحب إليهم مما سواهما، وحذر من موالاة العشيرة ومن التودد إلى الأقرباء متى كانوا غير إخوان في العقيدة والدين، فقال تعالى: {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم} [المجادلة: 22] فالبغض في الله والحب في الله من الإيمان كما جاء في الأثر...
يريد الحق سبحانه هنا أن يلفت نبيه نوحا إلى أن أهلية الأنبياء ليست أهلية الدم واللحم، ولكنها أهلية المنهج والاتباع، وإذا قاس نوح-عليه السلام- ابنه على هذا القانون، فلن يجده ابنا له... فالبنوة بالنسبة للأنبياء هي بنوة اتباع، لا بنوة نسب. وانظر إلى دقة الأداء في قول الله تعالى: {إنه ليس من أهلك}. ثم يأتي سبحانه بالعلة والحيثية لذلك بقوله: {إنه عمل غير صالح} فكأن البنوة هنا عمل، وليست ذاتا، فالذات منكورة هنا، والمذكور هو العمل، فعمل ابن نوح جعله غير صالح أن يكون ابنا لنوح. وهكذا نجد أن المحكوم عليه في البنوة للأنبياء ليس الدم، وليس الشحم، وليس اللحم، إنما هو الاتباع بدليل أن الحق سبحانه وصف ابن نوح بقوله تعالى: {إنه عمل غير صالح} ولو كان عملا صالحا لكان ابنه...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{قَالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} الذين أمرتك بحملهم معك، وتعهدت لك بإنقاذهم، {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} أما أهلك فهم الصالحون السائرون على طريقك، لأنهم هم الذين يرثون الأرض ليصلحوها، أمّا غير الصالحين فلا فرق بينهم وبين الآخرين من الكافرين، ولا يمكن أن تطلب مني أن أقرّبهم إليّ لقربهم منك، فلا فرق عندي بين عبادي جميعاً، لأنهم يتساوون أمامي في الخلق، فأقربهم إليّ أقربهم إلى خط الرسالات، وأبعدهم عني أبعدهم عنه. وهكذا تتحدد القرابة لا على أساس ما تربطه العاطفة النسبيّة بالرسول، بل الأساس هو العلاقة الرسالية. وكان الأمر في بدايته واضحاً عند المراجعة والتأمّل، فالوعد بحمل أهلك كان مختصاً بغير من سبق عليه القول بالهلاك، وقد كان ولدك منهم، فلا تستسلم للعاطفة في انفعالاتك، {فَلاَ تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}، ولعل المراد من هذا التعبير الكناية عن عدم كونه حقّاً لتعرف عنه ذلك باعتبار أن الباطل لا أساس له، ليتعلق به العلم، وربما كان المقصود به الكناية عن الفعل الإلهيّ الذي يخفى سرُّه عن الناس، أي: فلا تسأل ما لا تستطيع معرفته، وقد فسّره الكثيرون بأنه يتعلق بنجاة ابنه، وهو غير واضح من سياق اللفظ {إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} الذين لا ينطلقون في رغباتهم من الخط الصحيح الذي يتناسب مع خط الحق المرتبط بالإيمان، لأن ذلك يعبر عن جهل في شخصية الإنسان، بينما ينطلق العالمون بحقائق الأشياء وفق ارتباط رغباتهم بالحق، لأن الإيمان يمثل الانسجام بين الفكر والرغبة، كيلا يعيش المؤمن الازدواجيّة بين ما يفكر فيه، وبين ما يشتهيه ويطلبه...