{ وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
المقصود من اليمين ، والقسم تعظيم المقسم به ، وتأكيد المقسم عليه ، وكان الله تعالى قد أمر بحفظ الأيمان ، وكان مقتضى ذلك حفظها في كل شيء ، ولكن الله تعالى استثنى من ذلك إذا كان البر باليمين ، يتضمن ترك ما هو أحب إليه ، فنهى عباده أن يجعلوا أيمانهم عرضة ، أي : مانعة وحائلة عن أن يبروا : أن{[140]} يفعلوا خيرا ، أو يتقوا شرا ، أو يصلحوا بين الناس ، فمن حلف على ترك واجب وجب حنثه ، وحرم إقامته على يمينه ، ومن حلف على ترك مستحب ، استحب له الحنث ، ومن حلف على فعل محرم ، وجب الحنث ، أو على فعل مكروه استحب الحنث ، وأما المباح فينبغي فيه حفظ اليمين عن الحنث .
ويستدل بهذه الآية على القاعدة المشهورة ، أنه " إذا تزاحمت المصالح ، قدم أهمها " فهنا تتميم اليمين مصلحة ، وامتثال أوامر الله في هذه الأشياء ، مصلحة أكبر من ذلك ، فقدمت لذلك .
ثم ختم الآية بهذين الاسمين الكريمين فقال : { وَاللَّهُ سَمِيعٌ } أي : لجميع الأصوات { عَلِيمٌ } بالمقاصد والنيات ، ومنه سماعه لأقوال الحالفين ، وعلمه بمقاصدهم هل هي خير أم شر ، وفي ضمن ذلك التحذير من مجازاته ، وأن أعمالكم ونياتكم ، قد استقر علمها عنده .
ثم ينتقل السياق من الحديث عن حكم المباشرة في فترة الحيض ، إلى الحديث عن حكم الإيلاء . . أي الحلف بالهجران والامتناع عن المباشرة . . وبهذه المناسبة يلم بالحلف ذاته فيجعل الحديث عنه مقدمة للحديث عن الإيلاء .
( ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس ، والله سميع عليم ، لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ، ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ، والله غفور حليم . للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر . فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم ، وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم ) . .
التفسير المروي في قوله تعالى : ( ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم . . )عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : لا تجعلن عرضة يمينك ألا تصنع الخير ، ولكن كفر عن يمينك واصنع الخير . وكذا قال مسروق والشعبي وإبراهيم النخعي ومجاهد وطاووس وسعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومكحول والزهري والحسن وقتادة ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس والضحاك وعطاء الخراساني والسدي - رحمهم الله - كما نقل ابن كثير .
ومما يستشهد به لهذا التفسير ما رواه مسلم - بإسناده - عن أبي هريرة أن رسول الله [ ص ] قال : " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه ، وليفعل الذي هو خير " . . وما رواه البخاري - بإسناده - عن أبي هريرة قال : قال رسول الله [ ص ] : " والله لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه " . .
وعلى هذا يكون معناها : لا تجعلوا الحلف بالله مانعا لكم من عمل البر والتقوى والإصلاح بين الناس . فإذا حلفتم ألا تفعلوا ، فكفروا عن إيمانكم وأتوا الخير . فتحقيق البر والتقوى والإصلاح أولى من المحافظة على اليمين .
وذلك كالذي وقع من أبي بكر - رضي الله عنه - حين أقسم لا يبر مسطحا قريبه الذي شارك في حادثة الإفك - فأنزل الله الآية التي في سورة النور : ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله ، وليعفوا وليصفحوا . ألا تحبون أن يغفر الله لكم ؟ . . فرجع أبو بكر عن يمينه وكفر عنها .
وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 224 )
وقوله تعالى : { ولا تجعلوا لله عرضة لأيمانكم } الآية ، { عرضة } فعلة بناء للمفعول( {[2129]} ) ، أي كثيراً ما يتعرض بما ذكر ، تقول «جمل عرضة للركوب » و «فرس عرضة للجري » ، ومنه قول كعب بن زهير : [ البسيط ] .
من كل نضاخة الذفرى إذا عرقت . . . عرضتها طامس الاعلام مجهول( {[2130]} )
ومقصد الآية : ولا تعرضوا اسم الله تعالى للأيمان به ، ولا تكثروا من الأيمان فإن الحنث مع الإكثار ، وفيه قلة رعي لحق الله تعالى ، ثم اختلف المتأولون : فقال ابن عباس وإبراهيم النخعي ومجاهد والربيع وغيرهم : المعنى فيما تريدون الشدة فيه من ترك صلة الرحم والبر والإصلاح . قال الطبري : «التقدير لأن لا ( {[2131]} )تبروا ولا تتقوا ولا تصلحوا » ، وقدره المهدوي : كراهة أن تبروا ، وقال بعض المتأولين : المعنى ولا تحلفوا بالله كاذبين إذا أردتم البر والتقوى والإصلاح ، فلا يحتاج إلى تقدير «لا » بعد «أن » ، ويحتمل أن يكون هذا التأويل( {[2132]} ) في الذي يريد الإصلاح بين الناس ، فيحلف حانثاً ليكمل غرضه ، ويحتمل أن يكون على ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : «نزلت في تكثير اليمين بالله نهياً أن يحلف الرجل به براً فكيف فاجراً »( {[2133]} ) ، فالمعنى : إذا أردتم لأنفسكم البر وقال الزجاج وغيره : معنى الآية أن يكون الرجل إذا طلب منه فعل خير ونحوه اعتل بالله تعالى ، فقال عليّ يمين ، وهو لم يحلف( {[2134]} ) ، و { أن تبروا } مفعول من أجله ، والبر جميع وجوه الخير . «بر الرجل » إذا تعلق به حكمها ونسبها كالحاج والمجاهد والعالم وغير ذلك . وهو مضاد للإثم ، إذ هو الحكم اللاحق عن المعاصي . و { سميع } أي لأقوال العباد { عليم } بنياتهم ، وهو مجاز على الجميع .
وأما سبب الآية فقال ابن جريج : «نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه إذ حلف أن يقطع إنفاقه عن مسطح بن أثاثة حين تكلم مسطح في حديث الإفك » ، وقيل : نزلت في أبي بكر الصديق مع ابنه عبد الرحمن في حديث الضيافة حين حلف أبو بكر أن لا يأكل الطعام( {[2135]} ) ، وقيل : نزلت في عبد الله بن رواحة مع بشير بن سعد حين حلف أن لا يكلمه( {[2136]} ) ، واليمين الحلف ، وأصله أن العرب كانت إذا تحالفت أو تعاهدت أخذ الرجل يمين صاحبه بيمينه ، ثم كثر ذلك حتى سمي الحلف والعهد نفسه يميناً .