اللامُ في قوله { لأَيْمَانِكُمْ } تحتملُ وجهين :
أحدهما : أن تكونَ مقويةً لتعديةِ " عُرْضَةً " ، تقديره : ولا تجعلوا اللهَ معدَّى ومَرْصَداً لحَلْفِكُمْ .
والثاني : أن تكونَ للتعيلِ ، فتتعلَّقَ بفعلِ النهيِ ، أي : لا تَجْعَلُوهُ عُرْضَةً لأجْلِ أَيْمَانِكُمْ .
قوله : { أَن تَبَرُّواْ } فيه ستةُ أوجهٍ :
أحدها : وهو قول الزجاج{[3521]} ، والتِّبريزي ، وغيرهما : أنها في محلِّ رفع بالابتداءِ ، والخبرُ محذوفٌ ، تقديرُه : أَنْ تَبَرُّوا وتتقُوا وتُصْلِحُوا خَيْرٌ لكُمْ مِنْ أَن تجعلُوه عُرْضَةً لأَيْمانكم ، أو بِرُّكُمْ أولى وأمثَلُ ، وهذا ضعيفٌ ؛ لأنه يؤدِّي إلى انقطاعِ هذه الجملةِ عمَّا قبلها ، والظاهرُ تعلُّقُها به .
الثاني : أنَّها في محلِّ نصبٍ على أنها مفعولٌ من أجله ، وهذا قولُ الجمهورِ ، ثم اختلفوا في تقديرِه : فقيل : إرادةَ أنْ تَبَرُّوا وقيلَ : كراهةَ أن تَبَرُّوا ، قاله المهدويُّ ، وقيل : لِتَرْكِ أَنْ تَبَرُّوا ، قاله المبرِّدُ ، وقيل : لئَلاَّ تَبَرُّوا ، قاله أبو عبيدة والطَّبريُّ ؛ وأنشدا : [ الطويل ]
. . . فَلاَ واللهِ تَهْبِطُ تَلْعَةً *** . . . {[3522]}
أي : لا تَهْبِطُ ، فحذف " لاَ " ومثلُه : { يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } [ النساء :176 ] ، أي : لئلا تضِلُّوا ، وتقديرُ الإِرادة هو الوجهُ ، وذلك أن التقاديرَ التي ذكرناها بعد تقدير الإِرادة لا يظهرُ معناها ؛ لمَا فيه من تعليل امتناعِ الحَلْفِ بانتفاء البِرِّ ، بل وقوع الحَلْفِ مُعَلَّلٌ بانتفاء البِرِّ ، ولا ينعقد منهما شرطٌ وجزاءٌ ، لو قلتَ في معنى هذا النهي وعلَّتِه ، " إِنْ حَلَفْتَ بالله ، بَرَرْتَ " لم يصحَّ ، بخلافِ تقديرِ الإِرادة ؛ فإنه يُعَلَّل امتناع الحَلْفِ بإرادة وجودِ البِرِّ ، وينعقدُ منهما شرطٌ وجزاءٌ تقول : إِنْ حَلَفْتَ ، لم تَبَرَّ ، وإنْ لم تَحْلِفْ ، بَرَرْتَ .
الثالث : أنَّها على إسقاط حرف الجرِّ ، أي : في أَنْ تَبَرُّوا ؛ وحينئذٍ : يَجِيء فيها القولان : قولُ سيبويه والفراء{[3523]} فتكون في محلِّ نصبٍ ، وقولُ الخليل والكسائيّ ، فتكونُ في محلِّ جرٍّ ، وقال الزمخشري : ويتعلَّقُ " أَنْ تَبَرُّوا " بالفعل أو بالعُرْضَةِ ، أي : " ولا تَجْعَلُوا اللهَ لأَجْلِ أَيْمَانِكُمْ عُرْضَةً لأنْ تَبَرُّوا " . قال أبو حيان : وهذا التقديرُ لا يصحُّ للفصل بين العامل ومعمولهِ بأجنبيٍّ ، وذلك أنَّ " لأَيْمَانِكُمْ " عنده متعلقٌ ب " تَجْعَلُوا " ، فوقع فاصلاً بين " عُرْضَةً " التي هي العاملُ وبين " أَنْ تَبَرُّوا " الذي هو معموله وهو أجنبيٌّ منهما ، ونظيرُ ما أجازه أن تقولَ : " امْرُرْ وَاضْرِبْ بِزَيْدَ هِنْداً " ، وهو غيرُ جائزٍ ، ونَصُّوا على أنه لا يجوزُ : " جَاءَني رَجُلٌ ذُو فَرَسٍ رَاكِبٌ أَبْلَقَ " أي رجلٌ ذُو فَرَسٍ أَبْلَقَ راكِبٌ لِما فيه من الفصلِ بالأجنبيِّ .
الرابع : أنها في محلِّ جَرٍّ ؛ عطفَ بيانٍ ل " أَيْمَانِكُمْ " ، أي : للأمورِ المَحْلُوفِ عليها التي هي البِرُّ والتقوَى والإِصلاح كما في الحديث . قال أبو حيان : " وهو ضعيفٌ لما فيه من جَعْلِ الأيمانِ بمعنى المَحْلُوفِ عليه " ، والظاهرُ أنها هي الأقسام التي يُقْسَمُ بها ، ولا حاجةَ إلى تأويلها بما ذُكِرَ من كَوْنها بمعنى المَحْلُوفِ عليه ؛ إذ لم تَدْعُ إليه ضرورةٌ ، وهذا بخلافِ الحديثِ ، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - إِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا " {[3524]} فإنه لا بد من تأويله فيه بالمحلوف عليه ، ولا ضرورة تدعو إلى ذلك في الآية الكريمة .
الخامسُ : أَنْ تكونَ في محلِّ جرٍّ على البدلِ من " لأَيْمَانِكُمْ " ؛ بالتأويل الذي ذكره الزمخشريُّ ، وهذا أَوْلَى من وجهِ عطفِ البيانِ ؛ فإنَّ عَطْفَ البيانِ أكثرُ ما يكونُ في الأعلام .
السادس وهو الظاهرُ - : أنَّها على إسقاطِ حرفِ الجر ، لا على ذلك الوجه المتقدِّم ، بل الحرفُ غيرُ الحرفِ ، والمتعلِّقُ غيرُ المتعلِّقِ ، والتقديرُ : " لإِقْسَامِكُمْ عَلَى أَنْ تَبَرُّوا " ف " عَلَى " متعلقٌ بإِقْسَامِكُمْ ، والمعنى : وَلاَ تَجْعَلوا الله مُعَرَّضاً ومُتَبَدَّلاً لإِقْسَامكُمْ على البِرِّ والتقْوَى والإِصْلاَح الَّتي هي أوصافٌ جميلةٌ ؛ خَوْفاً من الحِنْثِ ، فكيف بالإِقسامِ علَى ما ليس فيه بِرٌّ ولا تَقْوَى ! ! !
والعُرْضَةُ في اشتقاقها ثلاثةُ أقوال :
أحدها : أنها " فُعْلَة " بمعنى " مَفْعُول " ؛ من العَرضِ ؛ كالقُطْبَةِ والغُرْفَة ، ومعنى الآية على هذا : لاَ تَجْعَلُوهُ مُعَرَّضاً للحَلْفِ من قولهم : فُلاَنٌ عُرْضَةٌ لكَذَا ، أي : مُعَرَّضٌ ، قال كعبٌ{[3525]} : [ البسيط ]
مِنْ كُلِّ نَضَّاخَةِ الذِّفْرَى إِذَا عَرِقَتْ *** عُرْضَتُهَا طَامِسُ الأَعْلاَمِ مَجْهُولُ{[3526]}
مَتَى كَانَ سَمْعِي عُرْضَةً لِلَّوائِمِ *** وَكيْفَ صَفَتْ لِلْعَاذِلِينَ عَزَائِمِي{[3527]}
. . . *** هُمُ الأَنصَارُ عُرْضَتُهَا اللِّقَاءُ{[3528]}
وأَدْمَاءَ مِثْلَ الفَحْلِ يَوْماً عَرَضْتُهَا *** لِرَحْلِي وَفِيهَا هِزَّةٌ وَتَقَاذُفُ{[3529]}
فهذا كلُّه بمعنى مُعَرَّضٌ لكذا .
والثاني : أنها اسمُ ما تَعْرِضُه على الشيءِ ، فيكونُ من : عَرَضَ العُودَ على الإِناءِ ، فيعترضُ دونَه ، ويصيرُ حاجزاً ومانعاً ، ومعنى الآية علَى هذا النَّهيُ عن أَنْ يَحْلِفُوا باللهِ علَى أنَّهم لا يَبَرُّونَ ولاَ يَتَّقُونَ ، ويقُولُون : لا نَقْدِرُ أَنْ نَفْعَلَ ذلك لأَجْلِ حَلْفِنَا .
والثالث : أنَّها من العُرْضَة ، وهي القوة ، يقال : " جَمَلٌ عُرْضَةٌ للسَّفَرِ " ، أي : قويٌّ عليه ؛ وقال ابن الزَّبير : [ الطويل ]
فَهَذِي لأَيَّامِ الحُرُوبِ وَهَذِهِ *** لِلَهْوِي وَهَذِي عُرْضَةٌ لارْتحَالِنَا{[3530]}
أي قوةٌ وعُدَّةٌ . ثم قيل لكُلِّ ما صَلُح لِشَيء فهو عُرْضَة له ، حتى قالوا للمرأَةِ : هي عُرْضَةٌ للنِّكاح إذا صَلُحَتْ له ومعنى الآية على هذا : لا تَجْعَلُوا اليمينَ بالله تعالى قوةً لأنفسكم في الامتناعِ عن البرِّ .
والأَيْمَانُ : جمعُ يَمِينٍ : وأصلُها العُضْوُ ، واستُعْمِلَتْ في الحَلْفِ مجازاً لما جَرَتْ عادةُ المتعاقِدِينَ بتصافُح أَيْمانهم ، واشتقاقُها من اليُمْن ، واليمينُ أيضاً : اسمٌ للجهةِ التي تكونُ من ناحيةِ هذا العُضْو ، فينتصبُ على الظرف ، وكذلك اليسارُ ، تقول : زَيْدٌ يَمِينُ عَمْروٍ ، وبَكرٌ يَسَارهُ ، وتُجْمَعُ اليمينُ على " أَيْمُنٍ وأَيْمَانٍ " وهل المرادُ بالأَيْمان في الآية القَسَمُ نفسُه ، أو المُقْسَمُ عليه ؟ قولان ، الأولُ أَوْلَى . وقد تقدَّمَ تجويزُ الزمخشريِّ أن يكونَ المرادُ به المحلوفَ عليه واستدلالُه بالحديث والجوابُ عنه .
ذكر المُفسِّرون في هذه الآية أقوالاً كثيرة ، وأجودها وجهان :
أحدهما : ما ذكره أبو مسلم{[3531]} الأصفهاني ، وهو أنَّ قوله : { وَلاَ تَجْعَلُواْ اللهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ } نهي عن الجُرأَة على اللهِ بكثَرةِ الحَلْفِ به ؛ وذلك لأنه من أَكْثَرَ ذِكْر شيءٍ في معنًى من المعاني ، فقد جعلهُ عُرْضَة له ، فيقُول الرَّجُل : قد جَعَلْتَنِي عُرْضَة للَوْمك ؛ قال الشَّاعر : [ الطويل ]
. . . *** وَلاَ تَجْعَلُوني عُرْضَةَ للَّوَائِمِ{[3532]}
وقد ذَمَّ الله تعالى مِنْ أكثر من الحَلْفِ بقوله : { وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ } [ القلم :10 ] ، وقال تعالى : { وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ } [ المائدة :89 ] والعرب كانوا يَمْدَحُون الإنسان بالإقلال من الحلف ؛ كما قال كثير : [ الطويل ]
قَلِيلُ الأَلاَيَا حافِظٌ لِيَمِينِهِ *** وَإِنْ سَبَقَتْ مِنْهُ الأَلِيَّةُ بَرَّتِ{[3533]}
والحِكْمَة في الأَمْرِ بتقليل الأَيمانِ ؛ أن من حَلَف في كُلِّ قَلِيلٍ وكثِيرٍ باللهِ ، انْطَلق لِسَانهُ بذلك ، ولا يبقَى لليمِين في قَلْبِهِ وقْعٌ ، فلا يُؤْمَنُ إقْدَامه على الأَيْمَانِ الكَاذِبَةِ ، فيخْتَلُّ ما هو الغَرَضُ من اليمين ، وأيضاً كُلَّمَا كان الإنسان أَكْثَرَ تعظِيماً لله تعالى ، كان أكمل في العُبُوديَّة ، ومن كمال التَّعظيم أن يكُون ذِكْر الله - تعالى - أَجَلَّ وأَعْلَى عِنْدَه ، من أَنْ يَسْتشْهِد به في غرضٍ من الأَغراض الدُّنْيَويَّة .
فإن قيل : كيف يَلْزَم من تَرْك الحَلْفِ حُصُول البِرِّ والتٌّقْوى ، والإصْلاَح بين النَّاسِ ؟
فالجواب : أَنَّ من تَرَك الحَلْف ؛ لاعْتِقَادِه أَنّ الله أَعْظَم وأَجَلَّ من أَنْ يُسْتَشْهَد باسمِه المُعَظَّم في طَلَب الدُّنْيَا ، وخَسَائِس مطالب الحَلْفِ ، ولا شك أن هذا من أَعْظَمِ أَبْوَابِ البِرّ .
نزلت هذه الآيةُ في عبد الله بن رواحة ؛ كان بينه وبَيْنَ خَتَنِهِ على أَخِيه بشير بن النُّعْمان شيء ، فحلف عبد الله ألاّ يَدْخُلَ عليه ، ولا يُكَلِّمَهُ ، ولا يُصْلِح بَيْنَه وبين خصمهِ ، وإذا قيل لهُ فيه ، قال : قد حَلَفْتُ بالله ألاَّ أفْعَل ، فلا يَحِلُّ لي إلاَّ أنْ تَبَرَّ يميني فأنْزَل الله هذه الآية{[3534]} .
وقال ابن جريج : نزلت في أبي بكر الصِّدِّيق ، حين حلف ألاَّ ينفق على مسطح حين خاض في حديث الإفْك{[3535]} ، ومعنى الآية : لا تجعلوا الحلف باللهِ شيئاً مانعاً لكم من البرِّ والتَّقوَى ، يُدعى أَحدكم إلى صلة الرَّحم أو بِرِّ ، فيقول : حلفتُ بالله ألاّ أفعله ، فيعتل بيمينه في ترك البِرّ{[3536]} .
قوله : { وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } خَتَم بهاتَيْن الصفتَيْن ؛ لتقدُّم مناسبتهما ؛ فإنَّ الحَلْفَ متعلِّقٌ بالسَّمْع ، وإرادة البِرِّ من فِعْلِ القلْبِ متعلقةٌ بالعِلْم ، وقَدَّم السميع ؛ لتقدُّم متعلِّقِه ، وهو الحَلْفُ .