العرضة : فعلة من العرض وهو بمعنى المفعول ، كالفرقة والقبضة ، يقال : فلان عرضة لكذا والمرأة عرضة للنكاح ، أي : معرضة له ، قال كعب :
ويقال جعله عرضة للبلاء أي : معرضاً ، وقال أوس بن حجر :
وأدماء مثل الفحل يوماً عرضتها***
وقيل : هو اسم ما تعرضه دون الشيء ، من عرض العود على الإناء ، فيعترض دونه ، ويصير حاجزاً ومانعاً .
وقيل : أصل العرضة القوة ، ومنه يقال للجمل : القوي : هذا عرضة للسفر ، أي : قوي عليه ، وللفرس الشديد الجري عرضة لارتحالنا .
اليمين : أصلها العضو ، واستعمل للحلف لما جرت العادة في تصافح المتعاقدين ، وتجمع على ، أيمان ، وعلى : أيمن ، وفي العضو والحلف ، وتستعمل : اليمين ، للجهة التي تكون للعضو المسمى باليمين ، فتنصب على الظرف ، تقول : زيد يمين عمرو ، وهي في العضو مشتقة من اليمين ، ويقال : فلان ميمون الطلعة ، وميمون النقيبة ، وميمون الطائر .
{ ولا تجعلوا الله عرضه لأيمانكم } قال ابن عباس : نزلت في عبد الله بن رواحة وختنه بشير بن النعمان ، كان بينهما شيء ، فحلف عبد الله أن لا يدخل عليه ولا يكلمه ولا يصلح بينه وبين زوجته ، وجعل يقول : حلفت بالله ، فلا يحل لي إلاَّ برّ يميني .
وقال الربيع : نزلت في الرجل يحلف أن لا يصل رحمه ولا يصلح بين الناس ؛ وقال ابن جريج : في أبي بكر حين حلف لا ينفق على مسطح حين تكلم في الإفك ، وقال المقاتلان ابن حيان وابن سليمان : حلف لا ينفق على ابنه عبد الرحمن حتى يسلم ؛ وقيل : حلف أن لا يأكل مع الأضياف حين أخر ولده عنهم العشاء ، وغضب هو على ولده .
وقالت عائشة : نزلت في تكرير الأيمان بالله ، فنهى أن يحلف به براً ، فكيف فاجراً .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ، أنه تعالى لما أمر بتقوى بالله تعالى ، وحذرهم يوم الميعاد ، نهاهم عن إبتذال اسمه ، وجعله معرضاً لما يحلفون عليه دائماً ، لأن من يتقي ويحذر تجب صيانة اسمه وتنزيهه عما لا يليق به من كونه يذكر في كل ما يحلف عليه ، من قليل أو كثير ، عظيم أو حقير ، لأن كثرة ذلك توجب عدم الاكتراث بالمحلوف به .
وقد تكون المناسبة بأنه تعالى لما أمر المؤمنين بالتحرز في أفعالهم السابقة من : الخمر ، والميسر ، وإنفاق العفو ، وأمر اليتامى ، ونكاح من أشرك ، وحال وطء الحائض ، أمرهم تعالى بالتحرز في أقوالهم ، فانتظم بذلك أمرهم بالتحرز في الأفعال والأقوال .
واختلفوا في فهم هذه الجملة من قوله { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم } وهو خلاف مبنى على الاختلاف في اشتقاق العرضة ، فقيل : نهوا عن أن يجعلوا الله معداً لايمانهم فيحلفوا به في البر والفجور ، فإن الحنث مع الإكثار فيه قلة رعي بحق الله تعالى ، كما روي عن عائشة أنها نزلت في تكثير اليمين بالله ، نهى أن يحلف الرجل به براً فكيف فاجراً ؟ وقد ذم الله من أكثر الحلف بقوله : { ولا تطع كل حلاف مهين } وقال : { واحفظوا أيمانكم } والعرب تمدح بالإقلال من الحلف قال كثير :
والحكمة في النهي عن تكثير الأيمان بالله أن ذلك لا يبقي لليمين في قلبه وقعاً ، ولا يؤمن من إقدامه على اليمين الكاذبة ، وذكر الله أجل من أن يستشهد به في الأعراض الدنيوية .
وقيل : المعنى : ولا تجعلوا الله قوة لأيمانكم ، وتوكيداً لها ، وروي عن قريب من هذا المعنى عن : ابن عباس ، وابراهيم ، ومجاهد ، والربيع ، وغيرهم قال : المعنى : فيما تريدون الشدة فيه من ترك صلة الرحم ، والبر والإصلاح ، وقيل : المعنى : ولا تجعلوا الله حاجزاً ومانعاً من البر والإصلاح ، ويؤكده قول من قال : نزلت في عبد الله بن رواحة ، أو في أبي بكر على ما تقدم في سبب النزول ، فيكون المعنى : أن الرجل كان يحلف على بعض الخيرات من صلة رحم ، وإصلاح ذات بين ، أو إحسان الى أحد ، أو عبادة ، ثم يقول : أخاف الله أن أحنث في يميني ، فيترك البر في يمينه ، فنهوا أن يجعلوا الله حاجزاً لما حلفوا عليه .
{ لأيمانكم } تحتمل اللام أن تكون متعلقة ، بعرضة ، فتكون كالمقوية للتعدي ، أو معداً ومرصداً لأيمانكم ، ويحتمل أن تكون متعلقة بقوله : { ولا تجعلوا } فتكون للتعليل ، أي : لا تجعلوا الله عرضة لأجل أيمانكم .
والظاهر أن المراد بالأيمان هنا الاقتسام ، لا المقسم عليه ، وقال الزمخشري : أي : حاجزاً لما حلفتم عليه ، وسمي المحلوف عليه يميناً لتلبسه باليمين ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة : « إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فائت الذي هو خير ، وكفر عن يمينك » أي : على شيء مما يحلف عليه .
ولا حاجة هنا للخروج عن الظاهر وإنما احتيج في الحديث إلى أنه أطلق اليمين ، ويراد بها متعلقها ، لأنه قال : إذا حلفت على يمين ، فعدى حلفت بعلى ، فاحتيج إلى هذا التأويل ، وليس في الآية ما يحوج إلى هذا التأويل ، لكن الزمخشري لما حمل : عرضة ، على أن معناه حاجزاً ومانعاً ، اضطر إلى هذا التأويل .
{ أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس } قال الزجاج ، وتبعه التبريزي : أن تبروا ، في موضع رفع بالابتداء ، قال الزجاج والمعنى : بركم وتقواكم وإصلاحكم أمثل وأولى ، وجعل الكلام منتهياً عند قوله : لأيمانكم ، ومعنى الجملة التي فيها النهي عنده أنها في الرجل إذا طلب منه فعل خير ونحوه اعتل بالله ، فقال : علي يمين ، وهو لم يحلف ، وقدر التيريزي خبر المبتدأ المحذوف بأن المعنى : أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس خير لكم من أن تجعلوا الله عرضة لأيمانكم ، وهذا الذي ذهب إليه الزجاج والتبريزي ضعيف ، لأن فيه اقتطاع : أن تبروا ، مما قبله ، والظلم هو اتصاله به ، ولأن فيه حذفاً لا دليل عليه وقال الزمخشري : أن تبروا وتتقوا وتصلحوا ، عطف بيان لأيمانكم ، أي للأمور المحلوف عليها التي هي : البر والتقوى والإصلاح بين الناس .
وهو ضعيف ، لأن فيه مخالفة للظاهر ، لأن الظاهر من الأيمان هي الأقسام ، والبر والتقوى والإصلاح هي المقسم عليها ، فهما متباينان ، فلا يجوز أن يكون عطف بيان على الإيمان ، لكنه لما تأول الأيمان على أنها المحلوف عليها ، ساغ له ذلك ، وقد بينا أنه لا حاجة تدعونا إلى تأويل الأيمان بالأشياء المحلوف عليها ، وعلى مذهبه تكون : أن تبروا ، في موضع جر ، ولو أدعى أن يكون : أن تبروا ، وما بعده بدلاً من : أيمانكم ، لكان أولى ، لأن عطف البيان أكثر ما يكون في الأعلام .
وذهب الجمهور إلى أن قوله : أن تبروا ، مفعول من أجله ، ثم اختلفوا في التقدير ، فقيل : كراهة أن تبروا ، قاله المهدوى ، أو لترك أن تبروا ، قاله المبرد ، وقيل : لأن لا تبروا ولا تتقوا ولا تصلحوا ، قال أبو عبيدة ، والطبري كقوله :
أي : لا تهبط ، وقيل : ارادة أن تبروا ، والتقادير الأول متلاقية من حيث المعنى ، وروي هذا المعنى عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء ، وابن جريج ، وابراهيم ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي ، ومقاتل ، والفراء ، وابن قتيبة ، والزجاج ، في آخر من روي عنهم أن المعنى : لا تحلفوا بالله أن لا تبروا ، فيتعلق بقوله : ولا تجعلوا ، ولا يظهر هذا المعنى لما فيه من تعليل امتناع الحلف بانتفاء البر ، بل وقوع الحلف معلل بانتفاء البر ، ولا ينعقد منه شرط وجزاء لو قلت في معنى هذا النهي وعلته : إن حلفت بالله بررت ، لم يصح وذلك كما تقول : لا تضرب زيداً لئلا يؤذيك ، فانتفت الاذاية للامتناع من الضرب ، والمعنى : إن لم تضربه لم يؤذيك ، وإن ضربته أذاك ، فلا يترتب على الامتناع من الحلف انتفاء البر ، ولا على وجوده ، بل يترتب على الامتناع من الحلف وجود البر ، وعلى وقوع الحلف انتفاء البر ، وهذا الذي ذكرناه يؤيد القول بان التقدير : إرادة أن تبروا ، لأنه يعلل الامتناع من الحلف بإرادة وجود البر ، ويتعلق منه الشرط والجزاء ، تقول : إن حلفت لم تبر ، وإن لم تحلف بررت .
وقد شرح بعض العلماء هذا المعنى فقال : إن تبروا وتتقوا وتصلحوا علة لهذا النهي ، أي : إرادة أن تبروا ، والمعنى إنما نهيكم عن هذا لما في توقي ذلك من البر والتقوى والإصلاح ، فتكونون معاشر المؤمنين بررة أتقياء مصلحين في الأرض غير مفسدين ، فإن قلت : كيف يلزم من ترك الحلف حصول البر والتقوى والإصلاح بين الناس ؟ قلنا : لأن من ترك الحلف لاعتقاده أن الله تبارك وتعالى ، أعظم وأجل أن يستشهد باسمه المعظم في طلب الدنيا ، إن هذا من أعظم أبواب البر .
وأما معنى التقوى فظاهر ، لأنه اتقى أن يصدر منه ما يخل بتعظيم الله تعالى وأما الإصلاح بين الناس ، فلأن الناس متى اعتقدوا فيه كونه معظماً لله تعالى إلى هذا الحد ، محترزاً عن الإخلال بواجب حقه ، اعتقدوا فيه كونه معظماً لله ، وكونه صادقاً بعيداً من الأغراض الفاسدة ، فيتقبلون قوله ، فيحصل الصلح يتوسطه .
وفي ( المنتخب ) وهو بسط ما قاله الزمخشري قال : ومعناها على الأخرى يزيد على أن يكون عرضة ، بمعنى معرضاً للأمر ، قال : ولا تجعلوا الله معرضاً لأيمانكم فتتبذلوه بكثرة الحلف به ، ولذلك ذم من أنزل فيه : { ولا تطع كل حلاف مهين } باشنع المذام ، وجعل الحلاف مقدمتها ، وأن تبروا ، علة للنهي أي : إرادة أن تبروا وتتقوا وتصلحوا لأن الحلاف مجترىء ، على الله ، غير معظم له ، فلا يكون براً متقياً ، ولا يتق به الناس ، فلا يدخلونه في وساطتهم وإصلاح ذات بينهم .
وقيل : المعنى ولا تحلفوا بالله كاذبين ، لتبروا المحلوف لهم ، وتتقوهم وتصلحوا بينهم بالكذب .
روي هذا المعنى عن ابن عباس ، فقيد المعلوم بالكذب ، وقيد العلة بالناس ، والإصلاح بالكذب ، وهو خلاف الظاهر .
وقال الزمخشري : ويتعلق : أن تبروا ، بالفعل و : بالعرضة ، أي : ولا تجعلوا الله لأجل أيمانكم به عرضة لأن تبروا . انتهى .
ولا يصح هذا التقدير ، لأن فيه فصلاً بين العامل والمعمول بأجنبي ، لأنه علق : لأيمانكم ، بتجعلوا ، وعلق : لأن تبروا بعرضة ، فقد فصل بين : عرضة ، وبين : لأن تبروا بقوله : لأيمانكم ، وهو أجنبي منهما ، لأنه معمول عنده لتجعلوا ، وذلك لا يجوز ، ونظير ما أجازه أن تقول : أمرر وأضرب بزيد هنداً ، فهذا لا يجوز ونصوا على انه لا يجوز : جاءني رجل ذو فرس راكب أبلق ، لما فيه من الفصل بالأجنبي .
والذي يظهر لي أن تبروا ، وفي موضع نصب على إسقاط الخافض ، والعمل فيه قوله : لأيمانكم ، التقدير : لأقسامكم على أن تبروا ، فنهوا عن ابتذال اسم الله تعالى ، وجعله معرضاً لأقسامهم على البر والتقوى والإصلاح اللاتي هن أوصاف جميلة ، لما نخاف في ذلك من الحنث ، فكيف إذا كانت أقساماً على ما تنافى البر والتقوى والإصلاح ؟ وعلى هذا يكون الكلام منتظماً واقعاً كل لفظ منه مكانه الذي يليق به ، فصار في موضع : أن تبروا ، ثلاثة أقوال الرفع على الابتداء ، والخلاف في تقدير الجر ، والجر على وجهين : عطف البيان والبدل ، والنصب على وجهين : إما على المفعول من أجله على الاختلاف في تقديره ، وإما على أن يكون معمولاً : لأيمانكم ، على إسقاط الخافض .
{ والله سميع عليم } ختم هذه الآية بهاتين الصفتين لأنه تقدم ما يتعلق بهما ، فالذي يتعلق بالسمع الحلف لأنه من المسموعات ، والذي يتعلق بالعلم هو إرادة البر والتقوى والإصلاح إذ هو شيء محله القلب ، فهو من المعلومات ، فجاءت هاتان الصفتان منتظمتين للعلة والمعلول ، وجاءتا على ترتيب ما سبق من تقديم السمع على العلم ، كما قدم الحلف على الإرادة .