الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَلَا تَجۡعَلُواْ ٱللَّهَ عُرۡضَةٗ لِّأَيۡمَٰنِكُمۡ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصۡلِحُواْ بَيۡنَ ٱلنَّاسِۚ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٞ} (224)

قوله تعالى : { لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ } : هذه اللامُ تحتملُ وجهينِ ، أحدُهما : أن تكونَ مقويةً لتعديةِ " عُرْضة " تقديرُه : ولا تجعلوا اللَّهَ مُعَدَّاً ومَرْصَدَآً لحَلْفِكم . والثاني : ان تكون للتعليلِ ، فتتعلَّقَ بفعلِ النهيِ أي : لا تَجْعلوه عُرْضَةً لأجْلِ أَيْمانكم .

قوله : { أَنْ تَبَرَّواْ } فيه ستةُ أوجهٍ ، أحدُها وهو قولُ الزجاج والتبريزي وغيرهما ، أنها في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ ، والخبرُ محذوفٌ تقديرُه : أَنْ تَبَرُّوا وتتقوا وتُصْلِحُوا خيرٌ لكم مِنْ أَنْ تجعلوه عُرْضَةً لأَيْمانكم ، أو بِرُّكم أَوْلَى وأَمْثَلُ ، وهذا ضعيفٌ ؛ لأنه يؤدِّي إلى انقطاع هذه الجملةِ عمَّا قبلها ، والظاهر تعلُّقُها به .

الثاني : أنَّها في محلِّ نصبٍ على أنها مفعولٌ من أجله ، وهذا قولُ الجمهورِ ، ثم اختلفوا في تقديرِه ، فقيل : إرادةَ أن تَبَرُّوا ، وقيل : كراهةَ أن تبروا ، قاله المهدوي ، وقيل : لترك أَنْ تَبروا ، قال المبرد ، وقيل : لئلا تبروا : قاله أبو عبيدة والطبري ، وأنشدا :

. . . فلا واللهِ تَهْبِطُ تَلْعَةً . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أي : لا تهبطُ ، فحذف " لا " ومثله : { يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } [ النساء : 176 ] أي : لئلا تضِلُّوا . وتقديرُ الإِرادة هو الوجهُ ، وذلك أنَّ التقاديرَ التي ذكرتها بعدَ تقديرِ الإِرادة لا يظهرُ معناها ، لِما فيه من تعليل امتناعِ الحَلْفِ بانتفاء البِر ، بل وقوع الحَلْف مُعَلَّلٌ بانتفاء البِرِّ ، ولا ينعقد منهما شرطٌ وجزاءٌ ، لو قلتَ في معنى هذا النهي وعلَّتِه : " إنْ حَلَفْتَ بالله بَرَرْتَ " لم يصحَّ ، بخلافِ تقديرِ الإِرادة ، فإنه يُعَلِّل امتناعَ الحَلْفِ بإرادة وجودِ البِرِّ ، وينعقدُ منهما شرطٌ وجزاءٌ ، تقول : إنْ حَلَفْتَ لم تَبَرَّ وإنْ لم تَحْلِفْ بَرَرْتَ .

الثالث ، أنَّها على إسقاطِ حرف الجرِّ ، أي : في أَنْ تَبَرُّوا ، وحينئذ يَجِيء فيها القولان : قولُ سيبويه والفراء ، فتكونُ في محلِّ نصبٍ ، وقولُ الخليل والكسائي فتكونُ في محلِّ جرٍّ . وقال الزمخشري : " ويتعلَّقُ " أَنْ تَبَرُّوا " بالفعلِ أو بالعُرْضَةِ ، أي : ولا تَجْعَلُوا اللهَ لأجلِ أيْمانكم عُرْضَةً لأنْ تَبَرُّوا " . قال الشيخ : " وهذا التقديرُ لا يصحُّ للفصلِ بين العاملِ ومعمولهِ بأجنبي ، وذلك أنَّ " لأيمانِكم " عنده متعلقٌ بتجعلوا ، فوقع فاصلاً بين " عُرْضَة " التي هي العاملُ وبين " أَنْ تَبَرُّوا " الذي هو في أن تبروا ، وهو أجنبيٌّ منهما . ونظيرُ ما أجازه أن تقولَ : " امرُرْ واضربْ بزيدٍ هنداً ، وهو غيرُ جائزِ ، ونَصُّوا على أنه لا يجوزُ/ : " جاءني رجلٌ ذو فرسٍ راكبٌ أَبْلَقَ " أي رجلٌ ذو فرسٍ أبلقَ راكبٌ ، لِما فيه من الفصلِ بالأجنبي .

الرابع : أنها في محلِّ جَرٍّ عطفُ بيان لأَيْمانكم ، أي للأمورِ المَحْلُوفِ عليها التي هي البِرُّ والتقوى والإِصلاحِ . قال الشيخ : " وهو ضعيفٌ لِما فيه من جَعْل الأيمان بمعنى المَحْلوف عليه " ، والظاهرُ أنها هي الأقسام التي يُقْسَمُ بها ، ولا حاجةَ إلى تأويلها بما ذُكِر مِنْ كَوْنِها بمعنى المَحْلُوف عليه إذ لم تَدْعُ إليه ضرورةٌ ، وهذا بخلافِ الحديثِ ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم :

" إذا حَلَفْتَ على يمينٍ فرأيت غَيرها خيراً منها " فإنه لا بد من تأويله فيه بالمحلوف عليه ، ولا ضرورةَ تدعو إلى ذلك في الآية الكريمة .

الخامسُ : أَنْ تكونَ في محلِّ جرٍ على البدلِ من " لأَيْمانكم " بالتأويل الذي ذكره الزمخشري ، وهذا أَوْلَى من وجهِ عطفِ البيانِ ، فإنَّ عَطْفَ البيانِ أكثرُ ما يكونُ في الأعلام .

السادس : - وهو الظاهرُ - أنَّها على إسقاطِ حرفِ الجر لا على ذلك الوجه المتقدم ، بل الحرفُ غيرُ الحرفِ ، والمتعلَّقُ غيرُ المتعلَّقِ ، والتقديرُ : " لأِقْسامِكِم على أَنْ تَبَرُّوا " ف " على " متعلقٌ بإقْسامكم ، والمعنى : ولا تَجْعَلوا الله مُعَرَّضاً ومُتبدَّلاً لإِقسامكم على البرِّ والقتوى والإِصلاح التي هي أوصافٌ جميلةٌ خوفاً من الحِنْثِ ، فكيف بالإِقسام على ما ليس فيه بِرٌّ ولا تقوى ‍ ! ! ! .

والعُرْضَةُ في اشتقاقها ثلاثةُ أقوال ، أحدُها : أنها فُعْلَة بمعنى مَفْعول من العَرْض كالقُطْبَة والغُرْفَة . ومعنى الآية على هذا : لاَ تَجْعَلُوه مُعَرَّضاً للحَلْفِ من قولهم : فلانٌ عُرْضَةٌ لكذا أي : مُعَرَّضٌ ، قال كعب :955 من كلِّ نَضَّاخَة الذِّفْرَى إذا عَرِقَتْ *** عُرضَتُها طامِسُ الأعلامِ مَجْهُولُ

وقال حبيب :

متى كانَ سَمْعي عُرْضَةً لِلَّوائِمِ *** وكيفَ صَفَتْ للعاذِلِين عَزائِمي

وقال حسان :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . هُمُ الأنصارُ عُرْضَتُها اللِّقاءُ

وقال أوس :

وأَدْمَاءُ مثلُ الفَحْلِ يوماً عَرَضْتُها *** لرحلي وفيها هِزَّةٌ وتقاذُفُ

فهذا كلُّه بمعنى مُعَرَّضٌ لكذا .

والثاني : أنها اسمُ ما تَعْرِضُه على الشيءِ ، فيكونُ من : عَرَضَ العُودَ على الاناء فيعترضُ دونَه ، ويصيرُ حاجزاً ومانعاً ، ومعنى الآية على هذا النَهْيُ عن أَنْ يَحْلِفُوا باللهِ على أنهم لا يَبَرُّون ولا يتقون ويقولون : لا نَقْدِرُ أَنْ نَفْعَلَ ذلك لأجلِ حَلْفِنَا .

والثالث : أنَّها من العُرْضَة وهي القوة ، يقال : " جَمَلٌ عُرْضَةَ للسفرِ " أي قويٌّ عليه ، وقال ابن الزبير :

فهذي لأيَّامِ الحروبِ وهذه *** لِلَهْوي وهَذي عُرْضَةٌ لارتحالِنا

أي قوةٌ وعُدَّةٌ ، ومعنى الآية على هذا : لا تَجْعَلُوا اليمينَ بالله تعالى قوةً لأنفسكم في الامتناعِ عن البّرِ .

والأيمان : جمعُ يمين ، وأصلُها العَضْوُ ، واستُعْملت في الحَلْفِ مجازاً لما جَرَتْ عادةُ المتعاقِدِين بتصافِحِ أَيْمانهم . واشتقاقُها من اليُمْن . واليمينُ أيضاً اسمٌ للجهةِ التي تكونُ من ناحيةِ هذا العضو فينتصبُ على الظرف ، وكذلك اليسارُ تقول : زيدٌ يمينَ عمروٍ وبكرٌ يسارَه . وتُجْمَع اليمينُ على أَيْمُن وأَيْمان . وهل المرادُ بالأَيْمَان في الآية القسمُ نفسُه أو المُقْسَمُ عليه ؟ قولان ، الأولُ أولى . وقد تقدَّمَ تجويزُ أن يكونَ المرادُ به المحلوفَ عليه واستدلالُه بالحديث والجوابُ عن ذلك .

قوله : { وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } خَتَم بهاتين الصفتين لتقدُّم مناسبتهما ، فإنَّ الحَلْفَ متعلِّقٌ بالسمع ، وإرادة البرِ من فِعْلِ القلبِ متعلقةٌ بالعِلْم . وقَدَّم السميع لتقدُّم متعلَّقِه وهو الحَلْفُ .